جحيم مصطنع

كتب بواسطة أمجد سعيد

 

يعدّ أوراثيو كيروغا من أهم كُتاب أمريكا اللاتينية، إذ ولد في عام ١٨٧٨ في مدينة (إل سالتو بالأروغواي) مرتبطًا منذ ولادته، بالنكبات والمآسي؛ إذ تردد الموت في حياته بشكل مكثّف فانعكس على قصصه التي تتسم بالسوداوية فسُمي بـ(إدغر آلن بو أمريكا اللاتينية)، كما عرفه النقاد كـأديب استوائي لارتباطه الوثيق بالأرض وأدوات الحياة اليومية في الغابات؛ إذ إن معظم قصصه تتخذ مكانها في الأراضي الريوبلاتيه (الأرجنتين – الأروغواي – الباراغواي). من أهم قصصه: الدجاجة المذبوحة، الابن، الرجل الميت، وسادة الريش.

 

في صبيحة التاسع عشر من فبراير\شباط عام ١٩٣٧ وبعد زيارته المعتادة للرسام بايرو، اشترى كيروغا من إحدى الصيدليات مادة السيانور السامة، وانتحر بعد صراع طويل مع الكثير من الأمراض التي كان آخرها إخضاعه لعملية البروستات، وقد ذكر كاستينلوبو هذه الحادثة في مذكراته قائلاً:” أتأمله ممدًا على هذا الحال، يابسًا ونحيفًا، أشعر نحوه بالاحترام ذاته الذي يبعثه جسده الحي وبالجدية نفسها، وبالمسافة ذاتها التي تبقي على التوقير بعيدا عنه. رهبة في حياته ومماته، وأنا أشعر برهبة أكبر وأنا أرى رجلا قرأه الملايين من البشر، لا يقف عند جثته إلا بعض رفاق المهنة الصامتين، ممن لا يتبادلون حتى التحية فيما بينهم”1.

 

1- قصص الحب والموت والجنون.

Inferno artificial- Horacio Quiroga

 

 

ذات ليلة مُقمرة، تقدم حفار القبور متحاشيًا الأضرحة المتناثرة بخطى ثابتة، بجسده العاري حتى الخصر وقبعته المصنوعة من القش، ارتسمت على وجهه ابتسامة ثابتة، كما لوأنه ضُرب بسوط على وجهه. إن كنت حافي القدمين، فلن تلاحظ بأنك تخطو بأصابع معقوفة للأسفل. لا عجب، فحفار القبور يتعاطى الكلوروفورم. فطبيعة مهنته قادته لتجربة المخدر، وحين ينشب الكلوروفورم أنيابه في جسم إنسان ما، فهو لا يغادره إلا بشق الأنفس. ينتظر صاحبنا حلول الليل ليحل غطاء زجاجته، ولأنه ذو حس سليم عالٍ؛ اختار المقبرة مسرحًا لا تنتهك فيه حرمة سكرته.

يؤخر الكلوروفورم خروج الهواء من الصدر في النفس الأول؛ الثاني، يجعل الفم يفيض باللعاب؛ والأطراف تتنمل، من الثالث حتى الرابع، الشفاه بمعية الأفكار تبدأ بالتضخم، ثم تبدأ الأمور الاستثنائية بالحدوث. هكذا اتخذت نشوة حفار القبور طريقها لمقبرة واسعة، كانت فيها ظهر اليوم عملية إزالة بقايا عظام لم تكتمل بسبب ضيق الوقت. كان ثمة نعش متروكٌ خلف السياج، وبجانبه، على الرمل، هيكل عظمي للرجل المحتجز بداخله. هل سمع شيئاً، حقا؟ فتح صاحبنا مزلاج الباب، دخل، ثم دار حول الرجل العظمي، جاثيًا على ركبتيه، ثبت بصره حول مدار الجمجمة. هناك، في مؤخرتها، فوق قاعدتها بقليل، و كقوس مربوط بخشونة بعظم مؤخرة الرأس، تكور رجل صغير الحجم، مرتجف، مصفر، تعلو وجهه التغضنات. على فمه كدمة، وعيناه غائرتان عميقًا، يعلو نظرته قلق مجنون. هذا هو كل ما تبقى من الكوكائين.

كوكائين! أرجوك، قليلاً من الكوكائين!

تجمد حفار القبورفي مكانه، إنه يعلم أنه على استعداد ليذيب زجاج زجاجته باللعاب، ليصل إلى الكلوروفورم الممنوع. لذا فمن واجبه مساعدة الرجل الصغير المرتعد.

خرج من هناك وعاد حاملاً معه حقنة معبأة، وفّرها له صندوق صيدلية المقبرة. لكن كيف سيستخدمها الرجل الصغير؟

في شقوق الجمجمة ! … بسرعة !

بالتأكيد! كيف لم يتبادر هذا إلى ذهنه ؟ جلس حفار القبور على ركبتيه، وأفرغ محتوى الإبرة الذي توارى بدوره متلاشياَ بين الشقوق.

لكن من المؤكد أن قدرًا بسيطاً منه قد وصل إلى الشق الذي كان الرجل الضئيل متشبثاً به بلهفه. بعد ثماني سنوات من الحرمان، أية حفنة صغيرة من الكوكائين قد لا تحمل في ثناياها هذيانات القوة، الشباب والجمال؟ ثبت حفار القبور عينيه مجدداً على مغارتي الجمجمة، ولم يستطع تمييز الرجل المحتضر. لم تكن على جلده الصلب الأمرد أي آثار للتجاعيد. شفاه حمراء ومتورِّدة، تشي بجسارة خاملة، لا تظهر عليه أية علامة فحولة، كما لو أن كل المخدرات إناث؛ أما العيون ففوق كل اعتبار، فقد كان لها بريق أخرس، و الآن صارت تلتمع بشغف أثار في حفار القبور بواعث غيرة داخلية مفاجئة.

ثم همست و هذا ، هكذا يكون .. الكوكائين؟

ظهر الصوت من الداخل بعذوبة يعجز وصفها.

آه! هذا حتماً ما تكون عليه ثماني سنوات من العذاب! ثماني سنوات كنت فيها، يائساً، متجمداً، متشبثاً أبد الدهر بأمل بسيط، في قطرة! … نعم، كل هذا بسبب الكوكائينوأنت؟ أنا أعرف تلك الرائحة كلوروفورم؟

أجل” أجاب حفار القبور، يعتريه الخجل من دناءة فردوسه الاصطناعي. ثم أضاف بصوت أقرب للهمس: الكلوروفورم أيضاسيودي بحياتي قبل أن أتركه.

كان الصوت ساخرًا بعض الشيء.

الموت! وهذا ما سيتحقق بالتأكيد؛ كان من الممكن أن تكون أحد جيرانيستتعفن في ثلاث ساعات، أنت وأمنياتك.

هذا صحيح” فكر حفار القبور

كانت لتقتلني. لكن ذلك الآخر لم يتركها. ثماني سنوات من الاحتراق ، ذلك التوق الذي قاوم الشوق العارم لزجاجة اللذة؛ ذاك التجاوز والموت العدمي للكائن الذي يخلقه فيك استمراره، لم يكن بإمكانك أن تمحقه به؛ لأنه ينجو كل مرة بشكل مرعب، بتحويله للقلق المعتاد المنبثق منه إلى متعة سامية أخيرة، مبقيًا على نفسه أمام الأبدية في صلابة جمجمة قديمة.

دفء وهدوء .. الصوت الشهواني بدا ساخرًا أيضًا.

ستقتل نفسكعملٌ رائع! أنا ايضا قتلت نفسيآه، الأمريثير اهتمامك؟ اليس كذلك؟ ولكننا من طينة مختلفةلا عليك، أحضر كلوروفورمك، وخذ نفسا أعمق هذه المرة واسمعني. ثم قدّر بنفسك الفرق بين دوائك والكوكائين..  هيّا.

تراجع حفار القبور، واستلقى على الأرض بصدره، متئكا على مرفقيه والزجاجة قابعة تحت أنفه، ”أنا أنتظر“.

– إنه كلور! ليس بمجمله، يمكننا القول … وحتى المورفين … هل لك عهد بحب العطريات؟ كلا؟ ماذا عن جيكي من جيرلان*؟ حسناً. تزوجت في الثلاثين من عمري، ورزقت بثلاثة أطفال. لحسن الحظ، كانوا امرأة رائعة وثلاثة مخلوقات تتمتع بصحة جيدة، وفي قمة السعادة. مع هذا، كان منزلنا أكبر من حاجتنا. لقد رأيته. لا لم تره … باختصار.. هل شاهدت تلك الغرف المترفة التي مع ذلك تبدو خاوية وعديمة النفع. غالباً خاوية. قصرنا بالكامل كان غارقاً في صمت يفوح برائحة المعقمات والترف الجنائزي.

في أحد الأيام، في أقل من ثمانية عشرة ساعة، تركنا ابننا البكر بسبب مرض الديفيتيريا. في ظهيرة اليوم التالي لحق الثاني بأخيه، مما جعل زوجتي تغرق في الخوف على الشيء الوحيد المتبقي لنا: طفلتنا التي كانت زوجتي حاملاً بها في الشهر الرابع. لمَ عسانا نهتم بالديفيتيريا، العدوى، وكل شيء آخر؟ رغم كل أوامر الطبيب، أنجبت الأم الطفلة، وبعد مدة التوت الرضيعة وانتفضت، لتموت بعد ذلك بثماني ساعات، متسممة بحليب الأم.

أضف بنفسك: السادسة مساءً، التاسعة مساءً ،الثانية عشرة صباحاً. خلال ٥١ ساعة، في غضون يومين فقط، صامت منزلنا تماماً، لعدم وجود شيء لفعله. حبست زوجتي نفسها في غرفتها، بينما بدأت أمشي خارجاً. بلا هدف، دون أن أُحدث ضجة. وقبلها بيومين كان لدينا ثلاثة أطفال.

جيد. أصيبت زوجتي بجلطة جعلتها تمزق ملاءات السرير لأربعة أيام، واتجهت أنا للمورفين.

– ” عليك أن تتوقف عن تعاطيه أخبرني الطبيب، ”إنه ليس لك“.

ماذا؟ ثم ماذا؟ أجبت مشيراً إلى الترف الجنائزي الذي يملأ منزلي ويواصل إيقاد لهيب النكبة ببطء، كالياقوت.

شعر الرجل بالشفقة.

جرب السلفون، أي شيءولكن أعصابك ستنهار.

– سلفونال، برايونال، ايسترامونيو… اوه! آه، كوكائين! كم من السعادة اللا نهائية التي  تتناثر كالرماد على أقدام كل سرير خاوٍ، هرباً للعون المتوهج لنفس السعادة المحترقة، والمضغوطة في قطرة واحدة من الكوكائين! عَجبت لتجرعي كل هذا الألم قبلها بلحظاتٍ فقط؛ وقد حلّت محلها الآن ثقة مفاجئة وبسيطة بالحياة: انبعاث لحظيٌ للوهم يجعل المستقبل على بُعد عشرة سنتيميترات فقط عن الروح المنتشية، كل هذا الاندفاع في الأوردة عبر إبرة من البلاتينيوم بكلوروفورمها! . توفيت زوجتي، وطوال سنتين، تعاطيت كمية هائلة من الكوكائين، أكثر بكثير حتى مما يمكنك تخيله. هل تعرف قدرة تحمل كهذه؟ خمسة سنتيجرامات من المورفين تؤدي إلى الهلاك مهما كانت صلابة المرء. انتهى المطاف بكوينسي ليأخذ خلال خمس عشرة سنة جرامين يومياً فقط؛ هذه الجرعة أكثر من الجرعة القاتلة بأربعين مرة.

ولكنها كانت مدفوعة الثمن. في داخلي، كانت حقيقة الأشياء المنكوبة، يتخللها، السُكر يوما بعد يوم، آخذة بالانتقام، فلم يعد لدي من الأعصاب التالفة سوى ما يكفي لتقيؤ الهذيانات الفظيعة التي تقض مضجعي. ثم بذلت شخصياً جهداً جباراً للتخلص من ذلك الشيطان، دونما نتيجة. ثلاث مرات نجحت فيها في مقاومة الكوكائين لشهر، شهر بطوله. ثم أسقط القهقرى مجدداً. أنت لا تعلم، لكنك ستعلم يوما ما، أي معاناة، أي ألم، أي تصبب من عرق الغضب ستحسّه حين تريد قمع المخدر ذات يوم!

أخيراً، تسممت إلى أعماق وجودي، سقطت فريسة للعذابات والأشباح، صرت بضاعة بشرية مرتجفة؛ بلا دم ، بلا بؤس حياة، وذلك بفضل الجرعات العشر اليومية من الكوكايين ذي القناع اللامع، لأغرق فوراً في حالة ذهول عميقة، عميقة. أخيراً، ما تبقى من كرامتي جعلني أرمي بنفسي في مصحة، حيث قاموا باستقبالي وناولوني أصفاداً للأيادي والأرجل كعلاج.

هناك، تحت رحمة الإرادة الخارجية، مراقباً بكثابة للحيلولة دون وصولي للسم، سأكون خاليًا من الكوكائين لا محالة.

أتعلم ماذا حدث ؟ إنني إلى جانب حركتي البطولية لإلزام نفسي بالعذاب، كان في حوزتي قارورة صغيرة من الكوكائين مخبأة في جيبي .. انظر أي شغف هذا.

بعد سنة كاملة، بعد الفشل، واصلت حقن نفسي. رحلة طويلة بدأتها، لا أدري أي قوة غامضة دفعتني، ثم وقعت في الحب.

خرس الصوت. حفار القبور، الذي كان ينصت بابتسامة متلهفة، ثابتة أبداً على وجهه، قرّب عينيه وظنّ أنه لاحظ صدعاً كامداً ولامعاً في مُحاوره. الجلد، بالمقابل، كان متصدعاً بشكل واضح.

أجل” واصل الصوت، إنها البدايةسأنتهي فوراً. أدين لك بهذا يا زميل، بالقصة كاملة.

الأبوان قاما بكل ما يمكن للمقاومة: مورفينامونو، أو شيء من هذا القبيل، لإنقاذ مصيري، ومصيرها، قبل كل شيء، من جانبي بذلت جهداً جباراً. أوه، كانت جميلة بشكل مذهل ! لم تبلغ الثامنة عشرة بعد. كانت مظاهر الترف تبدو عليها كنحت الكريستال الجوهرة: احتواءً طبيعياً.

في المرة الأولى، نسيت أن أحقن نفسي قبل الدخول، فرأتني فجأة متردداً في حضورها، استغفلتني، تقطبت ملامحها، نظرت فيّ بعينيها الشديدتي الاتساع، كانتا جميلتين ومرعبتين، تلتمعان بحماس مذعور! نظرت إليّ، وأنا أبدو شاحباً ومشلولاً، فأعطتني الجرعة. لم تتوقف للحظة فيما تبقى من الليلة عن الاعتناء بي. وبعد تلك العيون الواسعة الغريبة التي رأتني على هذا الحال، رأيت بدوري نفسي العصبية الفارغة: كسجين، أو أخ أصغر مصاب بالصرع.

في اليوم التالي وجدتها تستنشق الـ“جيكي“، عطرها المفضل؛ قرأت في أربع وعشرين ساعة ما أمكنني عن المنومات. الآن، يكفي أن يمتص شخصان مباهج الحياة بطريقة فوق طبيعية، ليتنسى لهما فهم بعضهما بطرق أكثر حميمية، وكلما زادت غرابة طرق الحصول على المتعة. سينسجمان فوراً، بمعزل عن أي رغبة أخرى، ليربأوا بأنفسهم في النعمة المذهون بها في الفردوس المصطنع.

في عشرين يومًا، بقي سحر الجسد والجمال والشباب والأناقة في معزل عن الاستنشاق السام للعطور. فقد بدأت بالعيش، كما أعيش أنا مع الكوكائين، في الفضاء الهذياني لعطرها ”جيكي“.

في النهاية، السرنمة المشتركة في منزلها بدت خطيرة، مع هذا فهي عابرة، اتخذنا القرار بصنع فردوسنا الخاص. ولا مكان أفضل من بيتي، الذي لم يُمس منه شيء، فأنا لم أعد إليه منذ تركته. قمنا بأخذ أرائك منخفضة وواسعة للغرفة؛ وهناك، في نفس الصمت وفي نفس الفخامة الجنائزية التي احتضن بها الموت أطفالي؛ في السكون العميق للغرفة، بمصباح يضاء نحو الواحدة تماماً في الظهيرة؛ في مناخ العطور الثقيل، عشنا لساعات وساعات أخويتنا وملحمتنا الصامتة، كنت أستلقي بلا حراك بعيون مفتوحة، شاحباً كالموت؛ بينما تستلقي هي على الديوان، مثبتة بيدها المتجمدة زجاجة الجيكي تحت أنفها. — و لأنه لم تكن هناك لمحة للرغبة بداخلنا – كم كانت تبدو جميلة بتلك الدوائر العميقة تحت عينيها، بتسريحة شعرها الشعثاء، والترف المتقد لتنورتها النظيفة!

 

كانت لثلاثة أشهر متتالية بالكاد أذكرها، دون أن توضح لي أبداً ما سبب كل تلك الزيارات، لحفلات زفاف وحفلات حدائق يجب حضورها كي لا تصير مثيرة للشبهة. في تلك المناسبات النادرة كانت تصل  قلقة في اليوم الذي يليه، تدخل دون أن تنظر إلي، ترمي بقبعتها بحركة رعناء، لتستلقي مباشرة، رأسها ملقىً للخلف، وعيناها نصف مفتوحتين، بسبب السرنمة التي يسببها الجيكي.

باختصار: ذات مساء، وبردة فعل لا يمكن تفسيرها كتلك التي تحصل للكائن المسموم الذي يتفجر في كل شيء كان يدافع عنه – المورفينيون يعرفها جيداَ!- شعرت بكل تلك المتعة العظيمة الكامنة هناك، لم تكن في الكوكائين الخاص بي، بل كانت في ذلك الجسد ذي الأعوام الثمانية عشرة، المخلوق بعناية ليكون مُشتهىً. في تلك الليلة، دون سواها، برز جمالها على نحو شاحب وحِسّي من البذخ الساكن في تلك الغرفة المضاءة. ارتعاشاتها حادة جداً، لأنني كنت على الديوان، أحدق فيها. عشرة وثمانية أعوام … وبهذا الجمال!

رأتني و أنا أقترب دون أن تبدي أي حركة، وحين انحنت، رمقتني بنظرة يشوبها برود مفاجئ.

إذا– همست.

– ”لا، لا” قالتها بصوت أبيض، متفادية بفمها حركة شعرها الثقيلة، في النهاية أسندت برأسي إلى الخلف وتوقفت عن إغلاق عيني.

آاه! ما الذي جعلني أحيا للحظة، فحولتي، إن كان كبريائي الرجولي لن يبعث مجدداً! كنت في موت أبدي، غارق، ذائب في بحر الكوكائين! تهاوت على جانبها، جالسة على الأرض، رأسها مغروس في تنورتها، بقيت صامتاً لساعة كاملة، بينما كانت هي، شاحبة جدًا، ظلت بلا حراك أيضا، عيناها مثبتتان على السقف.

ولكن سوط ردة الفعل قدح برقاً سريع الزوال على خرائب الأحاسيس، وأعاد زهور الضمير لإدراك كان بداخلي من الشرف الرجولي والعار الفحولي المعذب. ذلك الإخفاق ذات يوم بالمصحة، أمام كرامتي الشخصية، كانت لا شيء مقارنة بتلك اللحظة، هل تفهم هذا؟ لمَ العيش. إن كان الجحيم المصطنع الذي ألحقت نفسي فيه الذي لن أستطيع مغادرته، لم يكن قادراً على استيعابي أبداً! وقد تخليت عنه للحظة، لأغوص في تلك النهاية!

 

انتصبت واقفاً وذهبت إلى الداخل، إلى تلك البقعة التي أعرفها حق المعرفة، حيث لم يزل فيها مسدسي القروي في مكانه. حين عدت، وجدتها مطبقة الأجفان.

لنقتل بعضنا– تمتمتْ.

فتحت عيني، ولدقيقة لم أنظر على مبعدة مني. وجبهتها الصافية عاودت نفس حركة الانتشاء المتعب:

لنقتل بعضنا– تمتمتْ.

ألقت نظرة سريعة على بذخ الغرفة الجنائزي، حيث كان المصباح يحترق بإضاءة عالية، وعقدت حاجبيها قليلاً.

ليس هنا– أضافت.

خرجنا سوياً، مثقلين بالهلوسات، وعبرنا أرجاء المنزل المعبأ بالصدى، شبراً بشبر. في النهاية استندت على أحد الأبواب وأغمضت عينيها. خرت صريعة بمحاذة الجدار، صوبت المسدس نحوي، وبدوري قمت بقتل نفسي.

حينها، نظير الانفجار الحاصل سقط فكي بشكل مفاجئ، شعرت بوخز هائل في الرأس؛ وحين اجتاحت قلبي جلطتان أو ثلاث، وصرت مشلولاً؛ حين لم يكن في دماغي وأوردتي وفي دمي أبسط احتمال بإمكانية عودة الحياة إليها، شعرت بأنني قد سددت ديني للكوكائين. قتلت نفسي، ولكن قتلتها هي أيضًا !

وقد كنت مخطئًا ! فبعدها بوقت قصير كان بوسعي أن أبصر، دخولاً متردداً ليد ما، عبر باب الرواق، نحو جسدينا الميتين، المشرعين في التيبّس …

انفجر الصوت فجأة.

– كوكائين، أرجوك! قليلاً من الكوكائين.

 

(تمَّ ترجمة هذه النَّصّ عن الأسبانيَّة للكاتب أوراثيو كيروغا)

 _______________

*نوع من العطور انتشر في عام ١٨٨٩ بشكل واسع

أدب الثالث والتسعون

عن الكاتب

أمجد سعيد