صناع الملوك (2/3)

كتب بواسطة نبال خماش

(الجزء الثَّاني)

لقراءة الجزء الأوَّل، اضغط هنا.

لقراءة الجزء الثَّالث، اضغط هنا.

 

تدور فكرة الكتاب ” صنّاع الملوك “، بما يحتويه من غزارة  في التفاصيل  الموثقة، حول الكشف عن  الأساليب الاستعمارية في صناعة المشرق العربي وتحديد هويته ومدى صلاحيته على النحو الذي هو عليه. وباعتبار أن الأفكار أشبه ما تكون بالكائنات الحية، تتوالد وتنمو، ودائما لديها قابلية التطور والارتقاء، وأحيانا الانقراض، فإن موضوع الكتاب ومضمونه، ولغاية اكتمال الصورة، محفز لأن يخرج من بين سطوره ومعانيه فكرة معاكسة تعزز المعنى العام لهدف الكتاب. بمعنى بما أن هذا الكتاب يبحث في الصناعة والتهيئة والصلاحية، والدور الغربي في هذه مجتمعة، فإن بالإمكان كذلك تناول الموضوع الموازي أو المسعى المغاير للصناعة، فكما تتخذ دوائر الفعل والتأثير قرارا بصناعة شخص أو نظام ما وبنائه، فهي قادرة في الوقت ذاته على اتخاذ تدابير واعتماد سياسات من شأنها إبطال الصلاحية والتعطيل والهدم،  وبمقدور من يرغب البحث في هذا الموضوع العثور والتقاط عدد لا بأس به من اللحظات التاريخية وكذلك المعاصرة التي يتوافق سياقها العام مع هذه الفكرة.

ولعل مشهدية وقوف الملك فاروق أمام السفير البريطاني، لامبسون، وهذا الأخير يقرأ عليه لائحة اتهام رسمية بمساعدة النازية، وقبل وصول السفير إلى الفقرة الختامية من البيان، التي ستفضي حتما وفقا لتسلسل الاتهام بعزله من منصبه الملكي، قبل الوصول إلى الفقرة الحاسمة، أخذ الملك فاروق يتوسل السفير طالبا أن تمنحه بريطانيا العظمى فرصة أخرى. وبموازاة حالة الانهيار والضعف التي تملكت الملك في تلك اللحظة، فإن حالة من النشوة والشعور بالتفوق على نحو فائق وفائض قد تملكت السفير، الذي أسرته لحظة تذلل واسترحام ملك دولة كبيرة ومهمة في تلك الآونة. إنها اللحظة التي عبر عنها مايلز بسخرية سوداء حين قال:” لا تتاح للإنسان كثيرا فرصة إزاحة ملك عن عرشه”. هذا الإذلال لمنصب ملك هو الذي دفع فاروق لتبرير حالة النقص والعجز التي عصفت به، فأراد أن يعوض الشعور بالنقص والعجز عبر انتقامه من جميع الملوك، ليتنبأ بزوال المنصب الملكي بالمطلق، وأنه سيكون محصورا في خمسة فقط: ملكة بريطانيا، وملوك ورق اللعب “الكوتشينة” الأربع: الملك الديناري، الملك البستوني، الملك السباتي، والملك الكبّة. موضوع انتهاء الصلاحية وتعطيل ما جرت صناعته سابقا، والأجواء النفسية المحيطة بهذه اللحظات خليق بالبحث والتتبع، ومن الحتمي أن من سيبحث في هذه الفكرة، فإنه لن يغفل عن موسوعة الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، بمجلداتها السبع. هذه الموسوعة، ولتعدد المواقف المرتبطة بهذه الفكرة وتنوع لحظاتها، ستكون منجما حقيقيا بما تحويه من وثائق تظهر حالة الانهيار النفسي لدى عدد من الملوك السابقين لحظات إعلان انتهاء الصلاحية، أو تقليصها.

بالعودة إلى كتاب الصناعة وتحديد الهوية، ” صنّاع الملوك ” فإننا نلحظ إصرارا لدى مؤلفي الكتاب على أن اسم المستكشفة وعالمة الآثار البريطانية ” جيرترود بِل ”  كان له وقع خاص في زمنها ودوي كبير يفوق دوي أسماء أخذت من الشهرة أكثر مما تستحق. إنه الاسم الذي لا يكاد يبلغ مرتبته في الأهمية السياسية والقدرة والتمكن بدايات القرن العشرين إلا القليل، إنها الشخصية الأهم مع نفر قليل من السياسيين البريطانيين المتخصصين في ” بيزنيس تصنيع ملوك الشرق الأوسط”. ومن المفارقات التاريخية المرتبطة بهذه المرأة، أن قلة من المهتمين والباحثين المعاصرين من سمع بهذا الاسم ابتداء، علما أنها المرأة الوحيدة التي كان لها دور حاضر ومؤثر في المنطقة منذ العقود الأولى للقرن العشرين، إنها الوحيدة التي دعيت لحضور مؤتمر تشكيل الشرق الأوسط في القاهرة بشهر مارس 1921. في هذا المؤتمر ترأس الجمع وزير المستعمرات ونستون تشرشل، الذي لخص المؤتمر والهدف منه بعبارة مثقلة بالسخرية باعتباره شبيها بلقاء الأربعين حرامي في مغارة علي بابا.

جيرترود بِل، لم تكن واحدة من هؤلاء الحرامية فحسب، بل كانت المنافسة الأكثر إزعاجا وشراسة للعتاة من الحرامية الأربعين،(كانوا بالفعل أربعين شخصية بريطانية متخصصة في شتى المجالات)  . بالطبع لم يأت اختيارها عبثا لحضور مؤتمر مهم كهذا، فكانت هي الأعلم بين سائر البعثات البريطانية: الدبلوماسية، الاستخبارية، العسكرية، بالهلال الخصيب عموما، والعراق على وجه التحديد، تعرف شيوخ القبائل والزعامات المحليين واحدا واحدا، إذا صادفت بدويا في صحراء، فإنها تعرف من أي قبيلة أو فرع منها أتى، من خلال محادثة بسيطة وسريعة. تعرف جغرافية المنطقة على نحو يفوق معرفة معظم ساكنيها، هذه الإلمام الدقيق بالمنطقة والإحاطة بكافة تفاصيلها: الجغرافية، اللغوية، التاريخية، الديموغرافية.. منحتها سطوة تفوق بكثير ما كان يمتلكه نظراؤها الرجال ممن أسماهم تشرشل حرامية. هذه السطوة بلغت بها مرحلة الثمالة وهي تكتب:” أشعر أحيانا وكأنني الخالق في منتصف الأسبوع، لا بد وأنه وقتئذ، كان يتعجب بشأن ما ستكون عليه خليقته”.

كان لكل واحد من المشاركين في اللقاء التاريخي مهمة محددة، أما مهمة بِل فكانت إعادة تلميع الملك فيصل بن الحسين، الذي غادر دمشق وتركها تواجه مصيرها عندما أصبح الجيش الفرنسي على مقربة منها. وكانت المهمة تقتصر على تحسين صورة فيصل أمام الشعب العراقي تحديدا، باعتبار أن مواقع صنع القرار البريطاني توافقت بعد كثير من الجدل والاختلاف في وجهات النظر، على تتويجه ملكا على العراق، كتعويض له عن خسارته لمُلك سوريا. وكانت المهمة التي عهد تشرشل إلى بِل لإنفاذها، إجراء استفتاء شعبي في العراق تكون نتيجته محسومة لصالح فيصل، وإجراء تحضيرات واستعدادات دخول الأخير إلى العراق منتصرا وبناء على مطلب شعبي.

يستعرض الكتاب التعقيدات وحالات الالتفاف والدوران بالغة الاشتباك التي خاضتها بِل مع الزعامات والقيادات المحلية في سبيل تمرير الاستفتاء على النحو الذي يريده تشرشل، بالطبع لم يكن الطريق ممهدا، فهناك قوى عراقية فاعلة ووازنة تعاملت مع الفكرة باستياء واضح ومعلن، ليتبلور في تلك الفترة شعار “العراق للعراقيين”. غير أن المبعوثة البريطانية تعاملت مع المعارضين بطرق ووسائل شتى. وما بين ترغيب وترهيب وإبعاد، غدت الساحة العراقية مستعدة وقابلة لتنفيذ المشروع،  لتبدأ اعتبارا من يوليو 1921 الإعداد لأول عملية انتخاب أو اقتراع تشهدها المنطقة في تاريخها. المفارقة أن أولى التجارب الديمقراطية في المنطقة كانت مؤسسة على التزوير والإكراه السياسي والأمني، وأن المحفز على هذا التزوير وممارسة الضغط، قوى غربية يفترض أن مبرر وجودها في المنطقة هو الإصلاح ونشر روح الديمقراطية والحاكمية الرشيدة. أما صيغة الاستفتاء فكانت مؤلفة من أربع كلمات صاغتها بِل:” هل تريد فيصل ملكا؟”. بالطبع استثني من الاستفتاء الشرائح التي كان من المتوقع أن تجيب بـ” لا” مثل الأكراد، والشيعة في الجنوب، لتتركز العملية على السنة في الوسط، وجاءت النتيجة الرسمية على هذا النحو: موافقة أغلبية العراقيين بنسبة 96%.

بعد شهر واحد من ظهور النتيجة، أُعلن عن مراسم تتويج فيصل ملكا على العراق، كانت بِل في الأثناء منشغلة إضافة بالإعداد لحفل التتويج، باختراع تقاليد ملكية للوطن الجديد، صممت علما جديدا، وسترة ملكية ونشيدا وطنيا، كل ذلك أنجزته في شهر، ورغم اشتراك 1500 ضيف في حفل التتويج، إلا أن التقارير الإخبارية اعتبرتها في تلك اللحظة:” ملكة العراق غير المتوجة”.

توفيت في العراق عام 1926 بالعراق في ظرف تحوم حوله بعض شكوك، وشيعت تشييعا مهيبا شارك فيه الملك فيصل. ونظم مبشر أمريكي أهزوجة برثائها، استوحى بعض معانيها من تجربتها مع العرب، يقول:

جيم… تعني جيرترود

ملكة العرب، وأم المؤمنين

إذا دخلت الجنة مع الصالحين …ستسأل الله:

ما اسم قبيلتك ؟ وما موقعك على الحدود؟

الصانع التالي يعرف بأنه رجل المخاطر، لا يعرف المستحيل، يتبع أحلامه حتى يحيلها ممكنا، تأمل في حاله بعد أن حقق أهدافه، وصاغها اعترافا مؤلما في كتابه ” أعمدة الحكمة السبعة” : ها هم العرب يصدقونني… واللنبي وكلايتون يثقون بي (الأول قائد القوات البريطانية التي احتلت فلسطين وسوريا وعين مندوبا ساميا على مصر، والثاني من أكثر ضباط المخابرات البريطانيين تأثيرا في المنطقة) أتقوم الشهرة وذيوع الصيت على الدجل والخداع والتزوير؟”. إنه ضابط المخابرات البريطاني الشهير توماس لورنس، المعروف بـ “لورنس العرب”، الذي قال عنه تشرشل :” لن يظهر له مثيل مهما كانت الحاجة ماسّة له”.

برز دوره  وبراعة صناعته في المنطقة قبيل إعلان شريف مكة، حسين بن علي، ما يعرف بـ “الثورة العربية الكبرى” ونحن هنا نتحدث تحديدا عن عام 1915،  حيث كان المشرق العربي يموج بالتوقعات، التي أخذت معالمها بالوضوح شيئا فشيئا بعد المقترح الذي تقدم به شريف مكة للبريطانيين، خطوطه العريضة أفضت إلى تعهد الأول بالتمرد على العثمانيين وطردهم وتمزيق ما بقي من أرض الخلافة إربا، يقابله التزام بريطاني بتتويجه ملكا على منطقة ظلت حدودها حبيسة التباس في الفهم، بحيث لا يُعرف من وعد من وبماذا. وعند اندلاع التمرد وانطلاقة العمليات العسكرية، رأى المستشارون العسكريون الإنجليز، أن هؤلاء “الثوار” غير مؤهلين لإنجاح الخطة، وأنهم  يفتقدون للذكاء والحس السياسي، وعندهم جنوح كبير نحو الفوضى وتعوزهم الثقة والتوجيه، فأرسل رؤساء الاستخبارات في القاهرة لورنس إلى أرض الجزيرة العربية لتقييم حركة التمرد المعلنة، ليصبح منذ هذه اللحظة الشخص الأكثر تأثيرا في مسار “الثورة العربية”، فيما يعتبره عدد من المؤرخين بطلها الذي عملت جميع الأطراف وفقا لحدسه وإلهامه. ووفقا لتقديرات اليوم، وضع البريطانيون مليارات الدولارات بين يدي هذا الضابط البسيط الصغير في السن – كان في العشرينيات من عمره- في سبيل بعثرة وتدمير الوجود التركي في المنطقة، واستبدالهم بسلالة ملكية حاكمة.

الشخصية التالية هي الذات التي كان يبحث عنها مضمون مقطع شعري، للشاعر جون ميلتون، ليفرغ فيها هذا المقطع مضمونه، وبعد ثلاثمائة عام من نظمه، وجد هذا المقطع في المستعرب وضابط الاستخبارات البريطاني جون فيلبي، المعروف لاحقا بـ ” الشيخ عبدالله”، وهي الكنية التي أطلقها عليه الملك عبد العزيز بن سعود، أما المقطع الشعري فهو:” الأفضل أن أحكم في الجحيم، على أن أخدم في الجنة”.

التحق بداية خدمته بمكتب المستعمرات البريطاني في الهند، وهناك ذاع صيته داخل أروقة الخارجية البريطانية وعرف عنه ميله الغريزي للاستكشاف وحبه للمغامرة، إضافة إلى مواهبه اللغوية، فطالب به المندوب البريطاني في العراق، بيرسي كوكس، لينتقل فيلبي أواخر عام 1915 إلى البصرة، وهناك كوّن علاقة تتسم بالود والرسمية مع تلميذة كوكس الموهوبة، جيرترود بِل، فالقدرة والتمكّن صفات تجمع أحيانا بين  أصحاب المواهب، وتكون هي ذاتها سببا ومحفزا للتفريق أحايين كثيرة. وبعد فترة من مكوثه في البصرة كلّفه المندوب السامي في البصرة أن يكون مبعوثه إلى ابن سعود، هذا التعيين أو التكليف يعتبره فيلبي عتبة قدره.

في تلك الأثناء، 1917، كانت في أواسط شبه الجزيرة العربية ثلاث ممالك تتنافس على السيطرة وزعامة الإقليم: الحجاز التي كان يحكمها حسين، شريف مكة، وهو موال للبريطانيين. حائل، وفيها ابن رشيد، وهو موال للأتراك، وبالضرورة معارض لحسين، وللأمير الثالث الذي يحكم نجد، عبد العزيز بن سعود، الذي يدين بأصول مملكته إلى الحركة الأصولية التي أسسها محمد بن عبد الوهاب. والمؤمنون بهذه الحركة هم الذين مكنوا ابن سعود من توحيد الممالك الثلاث المتنازعة في مملكة واحدة، أطلق عليها عبد العزيز لاحقا اسم عائلته.

يصف كثيرون فيلبي باعتباره شخصية بروميثيوسية، بعيدة النظر وقادرة على التنبؤ بالمستقبل، وكان الانطباع الذي تولد بداخله بعد اجتماعه بابن سعود أن هذا الرجل مقدّر له أن يقود المنطقة الوسطى من جزيرة العرب ويوحدها، وأن السياسيين البريطانيين الموجودون بالقاهرة أخطأوا بفداحة عندما وضعوا رهاناتهم على الشريف حسين. كان ابن سعود مبتهجا بهذا المبعوث، وكان سروره يتعاظم كلما همس بأذنيه يخبره عن موافقة السلطات البريطانية في بلاد الرافدين تزويده بالأسلحة والذخيرة، يوزعها على أنصاره الوهابيين المتعطشين للحرب والقتال بكل اتجاه، كانت انتصارات ابن سعود تشعر فيلبي بالنشوة. وبعد إعلان ابن سعود قيام مملكته على أنقاض مملكتي الحجاز وحائل، استقال فيلبي من الحكومة البريطانية  عام 1924 ليشق طريقه مستقلا بنفسه، وينمّي علاقته بابن سعود، والتي توجت بإعلان فيلبي إسلامه واستبدال اسمه ليصبح “الشيخ عبد الله” وهو الاسم الذي اختاره له الملك السعودي. أما الدور المفصلي الإضافي الذي لعبه فيلبي، إضافة إلى تثبيته عرش آل سعود، يكمن في هذا التزاوج الذي رتب له بين شركات النفط الأمريكية

وآل سعود، لقد كان بحق عرّاب هذه الصلة بين الجانبين.

كان ابن سعود ومع الإعلانات الأولية عن اكتشاف النفط في بلاده، ولم يكن يعلم بعد حجم وأهمية هذه الثروة القابعة تحت الأرض، كان يسُرّ إلى فيلبي هامسا:” آه يا فيلبي، لو أعطاني أحدهم مليون جنيه لمنحته جميع الامتيازات التي يريدها”. ومع هبوط الثراء المفاجئ على السعودية، ابتداء من عام 1934، حيث تسلم الملك أول شيك من عائدات بئر الدمام بقيمة 1,5 مليون دولار، وتحول فيلبي إلى الاستثمار والأعمال، فكان الوكيل الرئيسي لشركة فورد للسيارات. إلا أنه كان يعبر عن استيائه من التحولات التي كانت تعصف بالمجتمع السعودي نتيجة هذا الثراء المفاجئ، وتحدث في أكثر من مقال عن إسراف الأسرة المالكة بالرياض وفسادها، مما جعل الملك سعود بن عبد العزيز يعمل على إبعاده ونفيه عن السعودية، ليستقر في بيروت حيث مات فيها عام 1960.

 

 

* ملاحظة: لقراءة الجزء الأول، اضغط هنا.

الرابع والتسعون سياسة

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني