إمبرتو إيكو: الطفولة وجماليات القرون الوسطى (1/3)

كتب بواسطة ثابت خميس

(الجزء الأوَّل)

 

تقول الشاعرة الأمريكية إيميلي دِكنسُن: ”لا مثيل للكتاب، كبارجة، تأخذنا لأراض بعيدةولأن الطفولة هي الأرض التي تُزرع فيها غرسة الوعي الأولى، فإن لكل كاتب تجاربه فيها مع القراءة والكتابة، الأمر أشبه بأن يكون الكاتب صانع سفن من ورق يأخذ قُراءه في مغامرات عجيبة، لكن ليس كل كاتب صانع سفن بارع فقلة هم من يتركون في نفوس قرائهم ذلك التأثير الذي لا يضمحل بعد الانتهاء من الكتاب؛ لأنهم حين يكونون في تلك الأراض البعيدة لا يفتنون بها لما هي عليه فحسب؛ بل للطريقة التي شُيّدت بها. إمبرتو إيكو صانع سفن ايطالي، له عشق خاص لتسيير رحلات نحو العصور الوسطى في أوروبا، كتب العديد من الأطروحات كان أشهرها عن الفيلسوف واللاهوتي توما الإكويني، في عام ١٩٥٤ حصل على الدكتوراه في الفلسفة، كما عمل محررًا ثقافياً للتلفزيون، كتب في السيميائيات وعلم الجمال والترجمة، إلى جانب العديد من الدراسات والبحوث التاريخية حول العصور الوسطى. في عام ١٩٨٠، في الثامنة والأربعين من عمره، نشر روايته الأولى (اسم الوردة) التي أصبحت هاجس نشر عالمي، بيع منها أكثر من عشرة ملايين نسخة لتتلوها خمس روايات تماثلها نجاحًا. كان يعدّ أهم كاتب إيطالي على قيد الحياة حتى وفاته في التاسع عشر من فبراير عام ٢٠١٦ في الرابعة والثمانين من عمره. في الجزء الأول من المقابلة سيتحدث إمبرتو إيكو عن عائلته وأهم الأحداث التي عاصرها في طفولته كالحرب العالمية الثانية، والأسباب التي دفعته ليتخصص في دراسة حقبة العصور الوسطى وما لها من تأثير في مسيرته كروائي.

 

مجلة باريس ريفيو \ فن الخيال

حاورته: ليلى عزام زانجانيه

 

– أين ولدت؟

 

في بلدة آليسندريا. وهي معروفة بقبعات البورسالينو.

 

– ما نوع العائلة التي تنحدر منها ؟

 

والدي كان محاسبًا ووالده كان خطاطاً. والدي كان الأكبر بين ثلاثة عشر ابنًا، وأنا الابن الأول. ولدي هو أول ابن لي، وأول أبنائه صبي. وإذا ما اكتشف أحدهم ذات صدفة أن عائلة إيكو تنحدر من الإمبراطورية البيزنطية فحفيدي سيكون (دوفيناً: الابن البكر لملك فرنسا).

 

كان لجدي تأثير عملي مهم في حياتي، مع أنني لم أكن أوزره كثيرًا، بما أنه كان يبعد ما يقارب ثلاثة أميال عن بلدتنا، كما أنه توفي حين كنت في السادسة من عمري. كان لديه فضول استثنائي نحو العالم، وقد قرأ الكثير من الكتب. والشيء المذهل هو أنه حين تقاعد بدأ بتجليد الكتب. فقد كان لديه الكثير من الكتب غير المجلدة هنا وهناك في أرجاء شقته — نسخ قديمة من روايات القرن التاسع عشر الشهيرة لغوتييه و دوما، مزينة برسوم جميلة. كانت من أوائل الكتب التي أشاهدها على الإطلاق. حين توفي في عام 1938 الكثير من أصحاب الكتب غير المجلدة لم يطلبوا استعادتها فوضعتها العائلة كلها في صندوق كبير. بالصدفة المحضة حط هذا الصندوق رحاله في قبو والديّ. كان يتم إرسالي للقبو بين الحين والآخر لجلب بعض الفحم أو زجاجة نبيذ، وذات يوم فتحت هذا الصندوق، ووجدت كنزاً دفينًا من الكتب. منذها كنت أزور القبو بشكل أكثر تكرارًا. لقد تبين أن جدي أيضًا كان يجمع أعداد مجلة رائعة ”Giornale illustrato dei viaggi e delle avventure di terra e di mare “ ــــ  صحيفة مصورة لرحلات ومغامرات في البر و البحر ـــ  مخصص لقصص غريبة وجامحة تدور أحداثها في بلدان عجيبة. كانت تلك أولى غزواتي الكبرى في أرض القصص. للأسف فقدت كل هذه الكتب و المجلات، ولكن بمرور السنين حصلت تدريجياً على نسخ منها من متاجر الكتب القديمة والأسواق المتجولة.

 

– إن لم تكن قد شاهدت أي كتاب حتى زيارتك لجدك، هل يعني هذا أن والديك لم يكن لديهما أي منها ؟

 

إنه أمر غريب، والدي كان قارئًا نهمًا في شبابه. وبما أنه كان لجدي ثلاثة عشر ابنًا، عانت الأسرة الكثير لتوفير أبسط احتياجاتها، ولم يكن والدي قادرًا على شراء الكتب. لهذا فقد كان يقصد كشك الكتب ويقرأ واقفًا في الشارع. وحين ضاق صاحب الكشك ذرعًا من رؤيته مُعلقاً هناك؛ كان والدي يكمل قراءة الجزء الثاني من الكتاب في الكشك التالي، وهلمّ جرا. إنها صورة أعتز بها كثيراً. السعي الحثيث خلف الكتب. حين أصبح بالغًا لم يكن لأبي وقت فراغ سوى في المساء وكان غالباً يقضيه في قراءة الصحف والمجلات. في بيتنا كانت توجد روايات قليلة، إلا أنها لم تكن توضع على الأرفف، كانت في الخزانة. أحيانًا كنت أشاهد والدي يقرأ روايات مستعارة من أصدقاء.

 

– ماذا كان رأيه بشأن غدوك باحثًا في ذلك السن المبكر؟

 

حسناً، لقد توفي مبكراً، في عام ١٩٦٢، لكن ليس قبل نشري لبعض الكتب. كانت أمورًا أكاديمية ، وعلى الأغلب من النوع المربك لوالدي، لكنني اكتشفت أنه كان يحاول قراءتها في وقت متأخر جدًا من الليل. ”العمل المفتوح“ نُشر قبل ثلاثة أشهر من وفاته تمامًا، وكتب عنه مراجعة الشاعر الكبير إيجينيو مونتالي في صحيفة Corriere della Sera  (مراسل المساء). كانت مراجعة مختلطة — غريبة ، ودودة ولاذعة — لكنها كانت مراجعة لإيجينيو مونتالي على كل حال، وأظن أنه بالنسبة لوالدي كان من المستحيل تخيّل ما هو أكثر من هذا. بما معناه أنني قمت بما عليّ، أشعر أنني حققت كل أمنياته، مع أنني أظن أنه كان ليحظى بمتعة أكبر لو أنه قرأ رواياتي. عاشت والدتي أكثر بعشر سنوات، لذلك فهي تعلم أنني قد كتبت الكثير من الكتب الأخرى. وأنني قد تلقيت دعوات لأحاضر في جامعات أجنبية. كانت مريضة جدًا، و لكن سعيدة جداً. مع أنني لا أظن أنها كانت مدركة تماماً لما كان يحدث. وكما تعلمين، الأم دائما ما تكون فخورة بابنها، حتى لو كان هذا الابن غبيًا تمامًا.

 

– كنت طفلاً حين سيطرت الفاشية على إيطاليا، وبدأت الحرب كيف أدركتها وقتئذ؟

 

كانت أوقاتًا غريبة. موسوليني كان ذا شخصية جذابة جدًا، وككل تلميذ إيطالي في ذلك الوقت، كنت مُسجلاً في حركة الشباب الفاشية. كنا جميعاً مُلزمين بارتداء الملابس الموحدة ذات الطراز العسكري وحضور المسيرات كل يوم سبت، وشعرت بسعادة غامرة لفعل هذا. سيبدو الأمر اليوم مثل صبي أمريكي يرتدي زي جنود القوات البحرية — كان ليظن بأنه أمر مسلٍ. كانت الحركة برمتها بالنسبة لنا كأطفال أمرًا طبيعيًا، كالثلج في الشتاء والحر في الصيف. لم يكن بمقدورنا تخيّل وجود طُرق عيش أخرى. أتذكر تلك الحقبة بالعذوبة نفسها التي يتذكر بها أي امرئ طفولته، حتى إنني أتذكر بعذوبة التفجيرات والليالي التي قضيناها في الملاجئ. عندما انتهى كل هذا في عام ١٩٤٣، مع أول سقوط للفاشية، اكتشفت من خلال الصحف الديمقراطية وجود آراء وأحزاب سياسية أخرى. هرباً من التفجيرات من سبتمبر ١٩٤٣ حتى إبريل ١٩٤٥ — السنوات الأكثر صدمة في تاريخ أمتنا — ذهبنا، أمي وأختي وأنا للعيش في الريف، صعوداً إلى مونفيرّاتو، وهي قرية بيدمونيسيه كانت تعتد بؤرة للمقاومة.

 

– هل شهِدت أي مواجهات؟

 

أتذكر مشاهدة مشادة كلامية بين الفاشيّين والمقاومة، وتقريباً تمنيت لو أمكنني الانضمام للشجار. عند نقطة ما أتذكر حتى تفادي رصاصة طائشة، والقفز نحو الأرض من مكان عالٍ. ثم من القرية التي كنّا فيها، أتذكر رؤية انفجارات تندلع في آليساندريا حيث كان والدي ما يزال في رأس عمله هناك. تفجرت السماء كبرتقالة، وخطوط الهاتف توقفت عن العمل، لذا تحتم علينا انتظار عودته في نهاية الأسبوع سواء كان على قيد الحياة أو في عداد الأموات. إبان هذه الفترة، يكون الشاب في الريف مجبراً على أن يتعلم كيف ينجو بحياته.

 

– هل كان للحرب أي تأثير على قرارك بمزاولة الكتابة؟

 

كلا، لا يوجد رابط مباشر. لقد بدأت بالكتابة قبل الحرب، بمعزل عن الحرب. في مراهقتي كتبت القصص المصورة، لأنني قرأت الكثير منها، والقصص الخيالية التي تدور أحداثها في ماليزيا وأفريقيا الوسطى. كنت ميالاً للكمال وأردت لها أن تظهر كما لو أنها مطبوعة، لهذا قمت بكتابتها بأحرف كبيرة، وابتكرت عناوين صفحات، ملخصات، رسومات. كان الأمر متعباً جداً حتى إنني لم أنهِ أيّاً منها. آنذاك كنت الكاتب العظيم للأعمال غير المكتملة، على ما يبدو، و لكن حين بدأت كتابة الروايات لعبت ذكرياتي عن الحرب دورًا محددًا. ولكن كل إنسان مهووس بذكريات شبابه.

 

– هل قمت بعرض هذه الكتب المُبكرة على أحد؟

 

من المحتمل أن والديّ كانا على اطلاع بما أقوم به. لكنني لا أظن أنني قمت بإعطائها لأي شخص آخر. لقد كانت أعراضا انعزالية.

 

– تحدثت سابقًا عن محاولتك لوضع يدك على الشِعر في تلك الفترة. في مقال عن الكتابة، قلت فيه، كان لشِعري نفس الأعضاء الحيوية و نفس الهيئة العامة لمراهق يعلو وجهه حب الشباب“.

 

أظن أنه ثمة عمرا معينا، قُولي الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، يكون الشِعر فيه كالاستمناء. لكن لاحقاً في الحياة يُحرق الشعراء الجيدون أعمالهم الأولى، بينما ينشرها الشعراء السيئون. لحسن الحظ أنني قد توقفت في وقت مبكر.

 

– من شجعك في مساعيك الأدبية؟

 

جدتي لأمي — كانت قارئة نهمة. درست فقط خمس صفوف من المدرسة الإعدادية، ولكنها كانت عضوة في المكتبة البلدية، وكانت تأتي للمنزل بكتابين أو ثلاثة أسبوعياً لأجلي. قد تكون روايات رومانسية رخيصة أو روايات لبلزاك. — لم يكن ثمة فرق بينها في نظرها — كانت كلها آسرة بالنسبة لها. أمي، في المقابل تلقت تعليماً يؤهلها لتصبح عالمة دكتيالية (دراسة الآثار بُغية تعريفها تنظيرياً) في المستقبل. بدأت بتعلم الفرنسية والألمانية، ومع أنها قرأت كثيراً في شبابها إلا أنها استسلمت لذلك النوع من الكسل الذي يجتاحك حين تكبر في السن، لتقتصر قراءاتها على الروايات الرومانسية والمجلات النسائية. لهذا لم أقرأ ما كانت تقرأه. لكنها كانت تتحدث بسخاء، بطريقة إيطالية جيدة، وكانت تكتب بأسلوب جميل حتى إن أصدقاءها كانوا يطلبون منها أن تكتب لهم رسائلهم. كانت ذات حساسية لُغوية عالية، مع أنها تركت المدرسة في سن مبكرة جدًا. أظن أنني ورثت عنها ذوقها الأصيل في الكتابة، وأول عناصري الأسلوبية.

 

– إلى أي حد تمثل رواياتك سيِّراً ذاتية عنك؟

 

أظن أن كل رواية هي كذلك بطريقة ما. حين تتخيل شخصية ما، تُقرضه أو تقرضها بعضاً من ذكرياتك الشخصية. تعطي جزءًا من نفسك للشخصية الأولى وجزءًا آخر للشخصية الثانية، و على هذا الأساس، أنا لا أكتب أي نوع من السيِّر الذاتية، لكن الروايات هي سيرتي الذاتية. ثمة فرق.

 

– هل توجد بعض الصور التي قمت بنقلها بشكل مباشر؟ إنني أفكر بـبِلبو الذي لعب دور البوق في المقبرة في رواية بندول فوكو“.

 

ذلك الحس ذو سيرة ذاتية بالتأكيد. أنا لست بلبو، لكن الأمر قد حدث لي و كان في غاية الأهمية حتى إنني سأعلن الآن عن شيء لم يسبق لي قوله. اشتريت قبل ثلاثة أشهر بوقاً ذا جودة عالية بما يقارب الألفي دولار. لتعزف على البوق يجب عليك تمرين شفتيك لفترة طويلة. حين كنت في الحادية عشرة أو الثالثة عشرة كنت عازفاً جيداً جداً، لكنني فقدت المهارة وأعزف الآن بشكل سيئ جدًا. ومع ذلك فأنا أمارس العزف كل يوم. السبب هو أنني أريد العودة لطفولتي. بالنسبة لي، البوق دليل على ماهية الشاب الذي كنت عليه. لا أشعر بأي شيء ناحية الكمان، ولكنني حين ألقي نظرة على البوق أشعر بعالمٍ يهتز في عروقي.

 

– هل اكتشفت أن بوسعك عزف ايقاعات طفولتك؟

 

كلما عزفت أكثر كلما تذكرت النغمات بشكل أكثر رسوخاً. بالتأكيد ثمة مقاطع طويلة جدًا. صعبة جدًا. أكررها عدة مرات، أحاول، ولكني أعلم أن شفاهي ببساطة عاجزة عن الاستجابة بالطريقة الصحيحة.

 

– هل يحدث الشيء نفسه مع ذاكرتك ؟

 

الأمر غريب، كلما كبرت في السن، كلما تذكرت أكثر . سأعطيكِ مثالاً: لهجتي العامية كانت الأليساندرويه، بيادمونتيزية لقيطة مع شيء من اللومباردية واليميليانية و الجينوفيزية. لم أكن أتحدث بالعامية لأن عائلتي تنحدر من أصول برجوازية صغيرة، وقد ظن والديّ أن عليّ أنا وأختي أن نتحدث الايطالية فقط. لكن بين بعضهما كان والديّ يتكلمان بالعامية. فكنت أفهمها تماماً لكن أعجز عن التحدث بها. بعد نصف قرن، بالصدفة، من كهف بطني أو من لا وعيي، نَمت العامية فيّ، وحين التقيت بأصدقائي القدامى من أليساندرو كنت أتحدثها معهم! وهكذا بمرور الوقت في حياتي لم أكن قادرًا على استرجاع أشياء قد نسيتها فحسب؛ و بل أيضاً حتى الأشياء التي لم أتعلمها.

 

– لماذا اخترت دراسة جماليات القرون الوسطى؟

 

تلقيت تعليماً كاثوليكيًا، وخلال سنواتي الجامعية ترأست إحدى المنظمات الكاثوليكية الوطنية الطلابية؛ لهذا كنت مفتوناً بالأفكار القروسطية السكولائية والأساطير المسيحية. بدأت العمل على أطروحة في جماليات توما الأكويني، ولكن قبل انتهائي منها مباشرة، أصبت بصدمة عقائدية. كانت علاقة سياسية معقدة. كنت أنتمي للجانب الأكثر محافظة في المنظمة الطلابية، مما يعني أنني كنت مهتماً بالقضايا الاجتماعية، العدالة الاجتماعية. كان الحزب اليميني تحت حماية البابا بيوس الثاني عشر. ذات يوم تم إدانة حزبي في المنظمة بتهمة الهرطقة والشيوعية. حتى الصحيفة الرسمية للفاتيكان هاجمتنا. تطلب هذا الحدث مراجعة فلسفية لما أؤمن به. لكنني واصلت دراسة العصور الوسطى وفلسفاتها باحترام كبير، دون داعِ لذكر محبوبي الأكويني.

 

– في حاشية اسم الوردةكتبت أرى الحقبة في كل مكان، بشفافية تغطي على همومي اليومية، التي لا تبدو قورسطية، مع أنها كذلك.“ كيف تكون همومك اليومية قورسطية؟

 

طول حياتي مررت بتجاربٍ لا حصر لها من الانغماس الكامل في العصور الوسطى. على سبيل المثال خلال تحضيري لأطروحاتي، كنت أذهب في رحلات تمتد لشهرين إلى باريس، أُجري فيها بحثاً في المكتبة الوطنية. وكنت قد قررت خلال هذين الشهرين أن أعيش حصرًا في العصور الوسطى. إذا ما قلصتِ خريطة باريس، محددة فقط شوارع معينة، ستكونين قادرة على العيش حقاً في العصور الوسطى. ثم ستبدئين بالتفكير والشعور كإنسان العصور الوسطى. أتذكر على سبيل المثال أن زوجتي التي كانت ضليعة في البستنة وكانت على علم بكل الأعشاب والورود في العالم، دائماً ما كانت تنتقدني على ”اسم الوردة“ لأنني لم أشاهدها في الطبيعة. ذات مرة في الريف، صنعنا مشعلاً حين قالت، انظر إلى الجمر المتطاير بين الأشجار. بالتأكيد لم أُبد اهتماماً. ثم لاحقاً حين قرأت الفصل الأخير من ”اسم الوردة“، الذي أتيت فيه على ذكر نار مشابهة، قالت، إذاً فقد كنت تنظر إلى تلك الجمرات! وقلت، كلا أنا أعلم كيف ينظر كاهن العصور الوسطى للجمر فحسب.

 

– هل تظن أنك كنت لتستمتع حقاً بالعيش في العصور الوسطى؟

 

في الواقع إن عشت فيها، كنت لأكون ميتاً في عمري هذا. أشك أن مشاعري ستكون مختلفة حيال تلك الحقبة بشكل مأساوي إن عشت في العصور الوسطى. أنا أفضل تخيلها فقط.

 

– يسود العصور الوسطى بالنسبة للشخص العادي جو من الغموض والبُعد السحيق، ما الذي جذبك إليه؟

 

يصعب القول. لماذا نقع في الحب؟ إذا ما توجب عليّ تفسيره، كنت سأقول إن السبب هو لأن الحقبة على النقيض تماماً مما يتخيلها الناس عليه. بالنسبة لي، لم تكن عصورًا ظلامية. كانت عصوراً منيرة، التربة الخصبة التي أينع منها عصر النهضة. حقبة من الفوضى والتغيرات الفورية — ولادة المدينة الحديثة، والنُظم المصرفية، والجامعات، فكرتنا الحديثة عن أوروبا بكل ما تزخر به من لغات وقوميات وثقافات.

 

– قلت إن كتبك لا تخلق وعياً موازياً للعصور الوسطى والعصور الحديثة، ولكن يبدو أن هذا في معزل عن الانجذاب للحقبة بالنسبة لك.

 

نعم، و لكن ينبغي على المرء توخي الحذر مع المقاييس. كتبت ذات مرة مقالة ذكرت فيها بعض المُشابهات بين العصور الوسطى وعصرنا. ولكن إن أعطيتني خمسين دولاراً، سأكتب مقالاً عن المُشابهات بين عصرنا وعصر اللا إنسان البدائي. من السهل دائماً العثور على أوجه الشبه. رغم ذلك أظن أن كونك مهتماً بالتاريخ يعني القيام بمقارنة واسعة الاطلاع بالوقت الحاضر. أعترف بكوني قديم الطراز بشكل مرعب، وما زلت مؤمناً، كما كان تشيشرو أن ”historia magistra vitae“ = التاريخ هو معلم الحياة.

أدب الرابع والتسعون

عن الكاتب

ثابت خميس