قراءة في مذكرات الأميرة الجزء الثالث
في ١١٢ صفحة من الحجم المتوسط صدر الجزء الثالث من مذكرات الأميرة سالمة، التي ترجمها وقدم لها المترجم زاهر الهنائي وصدرت عن دار الجمل، ط١ ٢٠١٧م لنقرأ الفصلين الأخيرين وهما الفصلان المتعلقان برحلتها الأخيرة إلى زنجبار ١٨٨٨م ثم عودتها لتستقر في يافا والقدس، ثم في بيروت، ولا تعود لألمانيا إلا بعد ٢٦ عاماً في ١٩١٤م لتبقى في بيت ابنتها روزالي إلى وفاتها في ١٩٢٤.
يحتل نص المذكرات ٣٥ صفحة من الكتاب فقط، في حين يحتوي باقي الكتاب على متعلقات سيرتها، بمقدمة المترجم ومسرد لحياتها وحياة أولادها، ومقالة كتبت عنها، ورواية استلهمت قصتها إضافة إلى ملحق الصور، وباكتمال الجزء الثالث تكون مذكرات الأميرة متكونة من ثلاثة أجزاء قد اكتملت، ويمكن من ثمّ أن تصدر كاملة في كتاب واحد كما يذكر المترجم ذلك في مقدمته.
في هذا الجزء الأخير والصغير من المذكرات لا يخلو الأمر من لحظات عاصفة في حياة الأميرة، لحظة الوداع الأخيرة في زنجبار، حيث تمزق قلبها هذه المرة في وطنها، ونقتبس هذه الفقرة الطويلة نسبياً من الكتاب:
“وقبل أن أغادر وطني إلى الأبد عشت مرة أخرى مرحلة من الصراع الداخلي. فقد تعاطف معي إخوتي وأقاربي كثيراً وألحوا علي في أن أرجع إليهم وأكون منهم مرة أخرى، وكان هذا يعني أيضاً أن أرجع إلى اعتقاد آبائي القديم، وأن أترك ألمانيا وراء ظهري. “تعالي، كوني منا مرة أخرى فأنت منا، لا تذهبي ثانية إلى الناس الغرباء بل ابقي هنا بين أهلك. نعدك أنك ستكونين بخير بيننا. ولكن ما دمت بعيدة عنا ومرتبطة بشعب آخر وباعتقاده فلا يمكننا عمل أي شيء لك” مثل هذا الكلام توجب علي أن أسمعه بقلب محطم مراراً أسابيع وأشهرا.. طلبت أختي … مني بتوسل أن ألين وأتنازل عن موقفي وأبقى عندهم. فما عشته من صراع نفسي بسبب كلماتها لا يعلمه أحد غير ربي وحده. وأود أن أعترف بكل صراحة أني كنت على حافة صمودي، ولكن تفكيري في أولادي الذين ولدوا وتربوا على العادات والتقاليد الأوروبية حال بيني وبين أن أتبع توسلات أهلي والبقاء بينهم في وطني الحبيب.” ص٤٨
من يرحل عليه أن يتحمل الكثير، في النهاية تنتصر الأمومة في الأميرة لصالح أبنائها، أما في الواقع الصريح فبقيت الأميرة مع ابنتها روزالي، أما أبنتها أنطوني فقد تزوجت مبكراً في بيروت حتى وفاتها في قصف جوي أثناء الحرب العالمية الثانية بهامبورج، أما سعيد فقد انتقل من العسكرية إلى أعمال أخرى واهتمامات أخرى خاصة بعد زواجه من فتاة تنتمي لأسرة يهودية ثرية، وباختصار تباعدت الأقدار بين عائلة الأميرة المتضامة؛ فقد كبر الأبناء واحتاجت هي لرعايتهم، وما كان في البدء تضحية منها لأجلهم استمر في كونه تضحية، إلى النهاية، انتصرت الأم لخيار الرحيل عن زنجبار حتى بعد ترملها كي لا تجعل أبناءها في انفصام بين تربيتهم الأوروبية وأمهم الإفريقية. وألمانيا تخلت عنها وحاولت تسخيرها لمصالحها الاستعمارية، والأميرة تلمح إلى سوء إدارة الألمان لمستعمراتهم؛ لذلك فإنها لا تعود لألمانيا بعد زنجبار، وتفضل البقاء في بلاد عربية، وتختار لذلك القدس وبيروت.
لنتأمل هنا ذلك الوعد الذي يقطعه الأهل (نعدك أن تكوني بخير بيننا) أي قدرة وقوة تستطيع أن تقطع عهداً كهذا، في زنجبار التي كانت على وشك أحداث جسيمة مختلفة في القرن اللاحق، لكن يملك الأهل قوة المشاعر، يعرفون أنهم سيحتضنونها ويبذلون كل ما يستطيعون في كل يوم، وكل لحظة، يثقون بالحب الذي يملكونه، يؤمنون بالأسس التي ينهضون عليها، فلذلك يمتلكون كل تلك الثقة.
تبقى تجربة الأميرة سالمة غنية من كل جانب، لأنها تجربة هجرة مبكرة، لكنها لا تختلف عن أي تجربة هجرة تحدث اليوم أو غداً، بكل إحباطاتها، ومفاجآتها ومصاعبها، وتمزقاتها النفسية، والاغتراب الذي لا يحل بالجسد حتى يبقى مقيماً في الروح، وذلك القلق الكبير الذي يترصد المرء حيال نفسه وأبنائه وعائلته، فيبقى المرء في صهده المستمر، دون طمأنينة، هذا من جهة، لكن من جهة أخرى هناك بالتحديد طاقة جذب قوية، أثر كبير يمكن للمرء أن يحققه في الهجرة، وهذا أيضاً ما نجده في تجربة الأميرة، حيث لولا هجرتها وهربها ما كان يمكن لنا أن نتعرف عليها، وربما ما كان للمذكرات أن تولد، مع أن هذا غير مؤكد، فقد كانت ميولات الأميرة الأدبية واضحة منذ صغرها، خاصة في إصرارها على التعلم والقراءة والكتابة، وهذا ما شحذ وعيها بقدر كافٍ جعلها حتى في مذكراتها ذات حساسية نقدية متميزة وصادقة وغير مراوغة ولا تبريرية كما جرت العادة.
من جهة أخرى، إحدى الأشياء التي أجدها مهمة في تجربة الأميرة هو أن المجتمع الشرقي الذي يوصف عادة بأنه بالغ الذكورية وهو الأفريقي هنا لم يحاول أن يرغم الأميرة على العودة، لم يحدث أن تمت إعادة الأميرة بالقوة إلى حومة القصر، لا من قبل السلاطين إخوتها ولا أبناء عمومتهم فيما بعد، كل ما كان هناك هو مجرد محاولات إقناع، بدت تلقائية من طاقم السفينة الذي زارها في هامبورج، وكذلك كانت في زياراتها لزنجبار، لم يتم إجبارها على البقاء في البلد، ولا سيطر عليهم هاجس الفضيحة وما سيقوله الناس؛ بل عاشت الأميرة وفق خياراتها الذاتية إلى النهاية دون قسر ولا إرغام.
جهد بارع ولا شك قام به المترجم زاهر الهنائي في نقل هذه التجربة التاريخية المهمة إلينا اليوم ونحن في أشد الحاجة إلى تلمس حدود تلك العلاقة التي قامت وتقوم اليوم بين جزأين مختلفين من العالم، يبدوان اليوم أقرب شكلياً لبعضهما البعض في ظل العولمة التي تطغى على هذا العصر، وذلك العالم القديم قد أوشك على التلاشي، كأنه كان مجرد حلم يقظة.