إمبرتو إيكو: السميائيات وأسرار الكتابة (2/3)

كتب بواسطة ثابت خميس

(الجزء الثَّاني)*

لقراءة الجزء الأوَّل، اضغط هُنا.

لعل للخلفية الأكاديمية التي ينتمي إليها إمبرتو إيكو، دورًا مهمًا في جعله شخصية مثيرة للاهتمام، فكثيرًا ما يوصف بـ (الفيلسوف الذي يكتب الروايات) ونظرًا لتخصصه في السيميائيات أو علم العلامات، وهو علم يدرس أنساق العلامات والأدلة والرموز، سواء أكانت طبيعية أم صناعية.(١) يشكل حالة لافتة يجتمع فيها العلم مع الفن. ولكن ألا يتعارض هذان الجانبان؟ ففي مقال لميلان كونديرا الذي جاء تحت عنوان ميراث سيرفانتس المُحقّر يذكر كونديرا ملاحظة الفيلسوف الألماني هوسرل حول سيطرة ما سماه بـ(هوى المعرفة) مع التقدم العلمي والتكنولوجي في الأزمنة الحديثة التي تولي العلوم التطبيقية أهمية تؤدي لـنسيان الكائن. فهل ينقذ فن الرواية الإنسان كما يزعم كونديرا الذي دائماً ما يؤكد بأنه ليس فيلسوفا، وما رأي فيلسوف حقيقي مثل إمبرتو إيكو بالأمر؟ في الفيديو المصاحب للمقال يوضح لنا إمبرتو إيكو الفرق بين الشعر والنثر، كما يحدثنا وهو يجيب عن الأسئلة في المقال عن تجاربه في الكتابة وأهمية الهيكل البنائي السردي للرواية، ويفشي بعض أسراره بأسلوبه الحاذق.

 

 

 

 

– لماذا يقرر باحث شاب مهتم بالقرون الوسطى فجأة أن يتخذ دارسة اللغات.

 

بقدر ما يمكنني لطالما كنت مهتمًا بخلق الروابط الاتصالية. السؤال الذي يُطرح في الجماليات، ما  العمل الفني، وكيف يتواصل العمل الفني معنا؟ صرت مفتوناً بشكل خاص بسؤال الكيفية. أضيفي إلى ذلك أنه يتم تمييزنا كمخلوقات بشرية طالما نحن قادرون على إنتاج لغة. بعد انتهائي من أطروحتي بدأت مباشرة بالعمل للتلفزيون الإيطالي الوطني. كان هذا في عام ١٩٥٤، بعد بضعة أشهر فقط بدأت برامج البث التلفزيوني. كانت بداية حقبة التواصل البصري الجمعي في إيطاليا. ولهذا بدأت بالتساؤل إذا ما كنت أعاني من نوع غريب من انفصام الشخصية. ففي جانب كنت مهتمًا بأكثر الأدوات اللغوية حداثةً في الأدب والفن التجريبي. وعلى الجانب الآخر، كنت أستمتع بالتلفاز، والكتب المصورة، والقصص البوليسية. سألت نفسي تلقائياً، هل من الممكن أن تكون اهتماماتي متباعدة إلى هذا الحد ؟

تبين لي أن الأمر سيميائي؛ لأنني أردت توحيد المستويات المختلفة في الثقافة. استنتجت أن كل ما ينتجه الإعلام الجماهيري قابلٌ لأن يكون عنصر تحليل ثقافي.

 

– قلت ذات مرة إن السيميائية هي نظرية الكذب.

 

بدلاً من ”الكذب“، كان حريّ بي القول إنها، ”قول نقيض الحقيقة.“ يمكن للبشر أن يرووا قصص الجنيات، وتخيل عوالم جديدة، وارتكاب الأخطاء — ويمكننا أن نكذب. اللغة مفتوحة على كل هذه الاحتمالات.

 

الكذب قدرة بشرية حصرية. إن كلباً يتبع شاحنة، هو في الواقع يتبع رائحة. لا الكلب ولا الرائحة ”يكذبان“ لنقل. ولكن يمكنني أن أكذب عليك وأخبركِ أن تذهبي في ذلك الاتجاه، وهو ليس الاتجاه الذي سألتِ عنه، ومع هذا تصدقينني وتمضين في الاتجاه الخاطئ. السبب الذي يجعل هذا ممكنًا هو أننا نعتمد على العلامات.

 

– بعض معادي السيميائية كحقل دراسي يؤكدون أن السيميائية في جوهرها تهدف إلى زوال الواقع برمته.

 

هذا موقف من يسمون أنفسهم بالتفكيكيين، ليس فقط لأنهم يفترضون أن كل شيء – بما في ذلك هذه الطاولة هنا – هي نَص، وأن كل نص قابلٌ للتأويل إلى ما لا نهاية، لكنهم كذلك يتبعون فكرة آتية من نيتشه، الذي قال أن لا وجود للحقائق، هناك تأويلات فقط. في المقابل أنا أتبع تشارلز ساندرز بيرس، الفيلسوف الأمريكي الأعظم دون منازع وأب السيميائية والنظرية التأويلية. وقد قال إننا نؤول الحقائق بواسطة العلامات، وإن لم تكن هناك حقائق وثمة تأويلات فقط، فما الذي سيبقى لتأويله ؟ هذا ما أناقشه في كتابي ”حدود التأويل“.

 

– كتبت في بندول فوكو، كلما كانت الرموز أكثر غموضاً ومراوغة، اكتسبت أهمية وقوة أكبر.“

 

يكون السر قويًا حين يكون فارغًا، يأتي الناس أحيانًا على ذكر ”السر الماسوني“. ما  السر الماسوني بحق الأرض ؟ لا أحد يدري. طالما بقي فارغًا فيمكن تعبئته بكل خاطرة محتملة، وهو يمتلك قوة.

 

– هل يمكنك القول بأن عملك بصفتك سيميائيا منفصلٌ تمامًا عن عملك روائيًا ؟

 

قد يبدو هذا غير معقول، ولكنني لا أفكر في السيميائيات إطلاقًا حين أكتب الروايات. أترك هذا العمل للآخرين لاحقاً، ودائماً ما أتفاجأ من النتائج حين يفعلون.

 

– هل ما زلت مهووسًا بالتلفزيون؟

 

أشك بوجود باحث جاد لا يُحب مشاهدة التلفزيون، كلّ ما في الأمر أنني الوحيد الذي يعترف بالأمر فحسب، ثم أحاول توظيفه كمادة لعملي؛ لكنني لست بشخصٍ شره يبتلع كل شيء، لا أستمتع بمشاهدة أي برنامج تلفزيوني، أحب المسلسلات الدرامية، ولا أحب البرامج المبتذلة.

 

– هل من برامج تحبها بشكل خاص ؟

 

المسلسل البوليسي. (Starsky and Hutch) ستارسكاي وهاتش، على سبيل المثال.

 

– لم يعد لهذا البرنامج وجود بعد الآن. إنه من السبعينيات.

 

أدري، ولكن قيل لي بأن المسلسل أُصدر كاملاً مؤخرًا على أشرطة دي في دي؛ لذا فأنا أفكر بالحصول عليها، خلافاً لذلك يعجبني (CSI, Miami Vice, ER) سي إس آي، وميامي فايس، وإي آر، وفوقها كلها، (Columbo) كولومبو.

 

– هل قرأت شيفرة دافنشي ؟

 

نعم، أنا مذنب بهذا أيضاً.

 

– تلك الرواية تبدو كتفرغ صغير وغريب من بندول فوكو.

 

الكاتب، دان براون، هو أحد شخصيات بندول فوكو! لقد قمت بدعوته. إنه يشاطر شخصياتي هواجسها، مؤامرة الروسِكروسن العالمية، والماسونيين، واليسوعيين، والدور الذي لعبه فرسان الهيكل، والسر السحري، ومبدأ أن كل شيء متصل ببعضه. ساورتني الشكوك حتى أن دان براون نفسه لا وجود له.

 

– يبدو أن هذه الفكرة القائمة على فرضية خيالية حاضرة بشكل جِدّي في العديد من رواياتك. يتطلب الخيال بطريقة ما جوهرًا وحقيقة.

 

أجل، المُخترع يمكن أن ينتج واقعاً. (بادولينو)، هكذا هي روايتي الرابعة تماماً. بادولينو محتال صغير يعيش في بلاط فريديريك بارباروسا، الملك الروماني الورِع، ويقوم هذا الفتى باختراع عددٍ هائلٍ من الأشياء – بدءًا بأسطورة الكأس المقدس حتى شرعية حكم بارباروسا عن طريق هيئة المحلفين البولونية. بعمله هذا خلق وعيًا واقعيًا. الزيف والأخطاء قادرة على خلق أحداث تاريخية حقيقية. تمامًا كرسالة الراهب جون: لقد كانت مزورة – وفي روايتي لم يخترعها سوى باودولينو نفسه – ولكنها بالفعل تحرض على رحلات القرون الوسطى الاستكشافية لآسيا، لأنها تصف مملكة مسيحية خلابة تزدهر في مكان ما في الشرق، أو فلتأخذي كرستوفر كولومبوس مثالا، تصوّره عن الأرض كان خاطئاً تماما، كان يعلم، كمن سواه في العصور القديمة، بما في ذلك خصومه، أن الأرض مدوّرة؛ لكنه آمن أنها أصغر حجماً بكثير، مدفوعًا بالفكرة الخاطئة، فاكتشف أمريكا. مثال شهير آخر هو ”بروتوكولات حكماء صهيون“. إنها مزيفة، لكنها دعمت الايدلوجيا النازية، وعليه مهدت الطريق لقيام محرقة يهود أوروبا؛ لأن هتلر استخدم الوثيقة لتبرير إبادة اليهود. ربما كان على علم بأنها مزيفة؛ لكنها في عقله  كانت تصف اليهود كما يبتغي تمامًا، لذلك أخذ بها بصفتها وثيقة موثوقة.

 

– بادولينو يعلن في النهاية أن، مملكة القسيس حقيقية لأنني ورفاقي قد أفنينا ثُلثّي حياتنا بحثًا عنها.“

 

مستندات باودولينو المزيفة، تتسم بالمثالية، فهي مبنية على المكائد المتخيلة عن المستقبل. صارت أكاذيبه حقائق بعدما شرع أصدقاؤه في رحلة حقيقية نحو الشرق الأسطوري بكل حبور. ولكن هذا كان جانبًا واحدًا فقط من شأن الراوي. الأمر الآخر أن بمقدوركِ استخدام حقائق واقعة مما يجعل هيكل الرواية، يبدو مدهشًا وخياليًا بشكل مطلق. في رواياتي، استخدمت عددًا لا يُحصى من القصص والأحداث الحقيقية؛ لأنني وجدتها أكثر رومانسية، أو روائية حتى، أكثر بكثير من أي شيء آخر قرأته تحت اسم ”المتخيل“. في ”جزيرة اليوم السابق“، على سبيل المثال، ثمة جزء يخترع فيه الأب غاسبار أداة غريبة لرؤية أقمار المشتري، والنتيجة كانت تهريجًا كوميديًا خالصًا. هفها في رسائل جاليليو. أنا ببساطة تخيلت ما كان ليحدث لو أن آلة جاليليو هذه اخترعت حقاً، لكن قرائي يتخذون الأمر على أنها محض اختراع كوميدي.

 

– ما الذي أدى بك إلى كتابة روايات مبنية على أحداث تاريخية ؟

 

الرواية التاريخية بالنسبة لي ليست أكثر من نسخة خيالية لأحداث حقيقية، كخيال قادر على إعطائنا فهمًا أفضل للتاريخ الحقيقي، كما أنني أحب دمج الرواية التاريخية مع عامل التكوين الروحاني للشخصيات. في كل رواياتي، ثمة دائماً شخصية شابة تكبر وتتعلم وتعاني مرورًا بسلسلة من التجارب.

 

– لماذا لم تبدأ بكتابة الروايات حتى بلغت الثامنة والأربعين من عمرك ؟

 

لم يكن الأمر أشبه بقفزة كما يبدو أن الجميع يظن، ففي أطروحاتي للدكتوراه، وحتى في تنظيراتي، كنت أخلق فيها سردًا. لطالما فكرت أن معظم ما تقوم به كتب الفلسفة في فحواها هو سردٌ لقصة مبحثها، تماماً كما سيشرح العلماء كيف توصلوا لاكتشافاتهم الكبرى. لهذا أشعر أنني لطالما كنت أروي قصصاً طوال الوقت، إنما بأسلوب مختلف بعض الشيء فحسب.

 

– لكن ما الذي جعلك تشعر أن عليك كتابة رواية ؟

ذات يوم في عام ١٩٧٨، أخبرتني صديقة أنها تريد الإشراف على سلسلة روايات بوليسية صغيرة يكتبها كُتّاب هواة. قلت لها إن من المستحيل بالنسبة لي أن أكتب قصة بوليسية، ولكن إن كتبت فسيكون كتاباً من خمسمائة صفحة شخصياته رهبان من العصور الوسطى. لاحقًا انبثقت فجأة صورة الراهب المتسمم في عقلي. بدأ كل شيء من هناك، من صورة واحدة، فصارت رغبة لا تقاوم.

 

– الكثير من رواياتك يبدو أنها تنطوي على أفكارٍ ذكية. هل من الطبيعي بالنسبة لك أن تبني جسرًا على الهوة التي تفصل بين العمل التنظيري وكتابة الرواية ؟ قلت مرة إن تلك الأشياء التي نعجز عن تنظيرها، يجب علينا أن نحكيها.“

 

إنها (لسان- في- خد) نسبة لمقولة لفيتغنشتاين. الحقيقية، إنني كتبت عددًا لا يحصى من المقالات عن السيميائية، ولكنني أظن أنني قد عبرت عن أفكاري بشكل أفضل في بندول فوكو مما فعلته في مقالاتي. قد لا تكون الفكرة التي لديكِ مبتكرة – دائماً سيكون أرسطو قد فكر فيها قبلك – لكن بابتكار رواية من صميم تلك الفكرة يمكنكِ أن تجعلي منها فكرة مبتكرة. رجل يحب امرأة. تلك ليست بفكرة مبتكرة. لكنكِ إذا ما تمكنتِ بطريقة ما من كتابة رواية عظيمة عنها، بلمسة يد أدبية تتحول لفكرة مبتكرة بشكل مطلق. ببساطة أؤمن أن القصة في نهاية المطاف دائماً ما تكون أكثر ثراءً ، إذ إنها فكرة أٌعيد تشكيلها لتصبح حدثًا، يتم إخباره من خلال شخصية، ويتم تلميعه باستخدام لغة بارعة؛ لهذا من الطبيعي حين تتحول فكرة إلى هيئة عضوية حية، أن تتحول إلى شيء مختلف كليًا وعلى الأرجح، أكثر قدرة على التعبير.

في المقابل، يمكن للتناقضات أن تكون جوهر الرواية. قتل النساء العجائز أمر مثير للاهتمام. بفكرة كهذه ستحصلين على درجة “راسب” في اختبار مادة الأخلاق. في الرواية تصبح هذه الفكرة هي ”الجريمة والعقاب“، تلك التحفة النثرية لا تخبرك الشخصيات فيها إن كان قتل النساء العجائز أمرًا حميدًا أم لا، و فيها تصبح ازدواجيته – أبسط التناقضات في حديثنا- ملحمة شِعرية بالغة التعقيد.

 

– كيف تبدأ بحوث رواياتك ؟

 

بالنسبة لاسم الوردة، بما أنني لطالما كنت مهتماً بالعصور الوسطى، كان بمتناولي مئات الملفات، وقد تطلب الأمر مني سنتين فقط لكتابتها. استغرقت مني بندول فوكو ثماني سنوات من البحث والكتابة! وبما أنني لا أخبر أحدًا عما أفعله، أدرك الآن أنني قد عشت قرابة عقد في عالمي الخاص. خرجت للشارع، وشاهدت هذه السيارة وتلك الشجرة وقلت لنفسي، آها، قد يكون لهذا صلة بقصتي. وهكذا نَمَت قصتي يوماً بيوم، وكل ما قمت بفعله، كل ملمح حياة صغير، كل محادثة، كانت تعطيني أفكارًا، ثم زرت فِعلياً الأماكن التي كَتبت عنها ، كل المناطق في فرنسا والبرتغال حيث عاش الفرسان، فتحوّل الأمر ليكون أشبه بلعبة فيديو تمكنني من تقمص شخصية المحارب، وتلج بي إلى مملكة مسحورة، باستثناء أنكِ تصبحين منتشية تماماً في لعبة الفيديو، بينما في الكتابة دائماً ما تمرين بلحظة حرجة يتطلب فيها الأمر منكِ القفز من عربة متحركة، الفرق أنكِ تواصلين القفز مجدداً في الصباح التالي.

 

– هل تتقدم بطريقة ممنهجة ؟

 

كلا، على الإطلاق. الفكرة تستدعي الأخرى فورًا، كتاب عشوائي ما يجعلني أرغب بقراءة آخر، ويحدث في أوقات أن أجد فجأة عند قراءة مستند عديم النفع تماماً،  الفكرة المناسبة لجعل القصة تستمر. أو لإدخال صندوق صغير آخر في مجموعة من الصناديق المتداخلة التي تكبره حجماً.

 

– قلت إنه في كتابة الرواية يجب عليك أولاً أن تبني عالماً، ثم ستأتي الكلمات من تلقاء نفسها.“ هل ما تقصده هو، أن أسلوب الرواية دائماً ما يكون محكومًا بموضوعه ؟

 

أجل، بالنسبة لي المعضلة الرئيسة هي أن البدء ببناء عالم: دير في القرن الرابع عشر فيه رهبان مُسَممون، شابٌ يعزف البوق في المقبرة، محتال يُلقى القبض عليه أثناء حادثة ”نهب القسطنطينية“. البحث عنها يعني ترسيخ كل العمليات البنائية لهذه العوالم: كم درجة في سُلّمٍ حلزوني؟ كم عدد الأغراض في قائمة الغسيل؟ كم عدد الرفاق في المهمة؟ سوف يتداعى العالم وسط كل هذه البُنى. وفق الشروط الحِرفية، أشعر أننا نقترف خطأ بالاعتقاد بأن الأسلوب يقتضي التعامل مع الجملة والمعجم فقط. ثمة أيضاً مخارج أسلوبية سردية أخرى، تمهد الطريق الذي كوّمنا له طوباً بذاتها وخلقنا بها معاً موقفاً. خذي الاسترجاع الذهني (flashback) على سبيل المثال، الاسترجاع الذهني عامل هيكلي في الأسلوب، لكنه ليس بذي صلة باللغة، من ثمَّ فإن الأسلوب أكثر تعقيداً من الكتابة التامة بكثير. بالنسبة لي عمله – الأسلوب – أشبه بعملية المونتاج في فيلم.

 

– إلى أي حد تبذلُ جهدًا للحصول في الرواية على الصوت كما يجب تمامًا ؟

 

إنني أعيد كتابة الصفحة نفسها عشرات المرات. أحياناً أحب قراءة الفقرات بصوت عالٍ. إنني حسّاس بشكل فظيع حيال نبرة كتاباتي.

 

 – هل أنت، مثل فلوبير، تجد أنه من المؤلم إنتاج أبسط جملة جيدة ؟

 

كلا، الأمر ليس مؤلماً بالنسبة لي. صحيح أنني أعيد كتابة  الجملة نفسها عدة مرات، لكن الآن، باستخدام الحاسوب، تغيّر تقدمي في العمل. كتبت اسم الوردة كتابة عادية، وقامت مساعدتي بنسخها على آلة الطباعة، حين تعيد كتابة الجملة نفسها عشر مرات، يصبح من الصعب إعادة نسخها. كانت توجد قاعدة كربونية حقيقية للنسخ، لكننا استخدمنا  أيضاً المقص والغراء. من السهل جداً المرور على صفحة بالحاسوب عشر أو عشرين مرة في اليوم نفسه، تعديلاً و إعادة صياغة. أظن أنه لأمر طبيعي أن نكون غير راضين عما نقوم به. لكن الآن من السهل، ربما من السهل كثيراً، تصحيحه، وعلى هذا الأساس صرنا أكثر تطلباً.

 

– التكوين الروحاني للشخصيات عادة ما تتخله نسبة من العاطفة المفرطة، والجنسانية، التعليم. في رواياتك وصفت فعلين جنسين فقط : أحدهما في اسم الوردة، والآخر في باودولينو. هل من سبب لذلك ؟

 

أظن أنني أُفضّل ممارسة الجنس بدلاً من الكتابة عنه.

 

– لماذا اقتبس آداسو قصيدة أغنية الأغاني حين مارس الجنس مع الفتاة القروية في اسم الوردة ؟

 

كانت تلك متعة أسلوبية، لأنني لم أكن مهتماً كثيراً بالفعل الجنسي نفسه بقدر ما كنت مهتماً بوصف التجربة الجنسية لراهب شاب من منظور الجانب الحسي لثقافته. لهذا قمت بعمل كولاج من خمسين نصاً مختلفاً لمتصوفين يصفون شعورهم بالنشوة، مع مقتطفات من قصيدة أغنية الأغاني. كان ثمة بالكاد كلمة تخصني في كامل الصفحتين اللتين وصفتا فعله الجنسي. يستطيع آداسو أن يفهم الجنس فقط من خلال عدسات الثقافة التي تشربها. هذه اللمحة من الأسلوب، كما أُعرّفها.

 

– في أي وقت من اليوم تكتب ؟

 

لا توجد قاعدة، من المستحيل بالنسبة لي أن يكون هنالك جدول، يحدث أن أبدأ بالكتابة في السابعة صباحًا، وأن أنتهي في الثالثة ليلاً، أتوقف لتناول شطيرة فقط. وأحياناً لا أشعر بأدنى رغبة في الكتابة.

 

– متى تكتب، ما المقدار الذي تكتبه كل يوم ؟ ألا توجد قاعدة لذلك أيضًا ؟

 

إطلاقاً، اسمعي، الكتابة لا تعني بالضرورة وضع الكلمات على صفحة ورق، يمكنكِ كتابة فصل كامل بينما أنتِ تمشين أو تأكلين.

 

– إذًا فكل يوم هو يوم مختلف بالنسبة لك ؟

 

إن كنت في بيتي الريفي، في أعلى قمم مونتيفيلترو، يكون لدي نمط يومي محدد. أشغّل حاسوبي، أتفقد بريدي الإلكتروني، أبدأ بقراءة شيء ما، ثم أكتب حتى الظهيرة. لاحقاً أقصد القرية، هناك أشرب كأساً في الحانة وأقرأ الصحف. أعود للبيت وأشاهد التلفاز أو قرصاَ في مشغل الأسطوانات (DVD) في المساء حتى الحادية عشرة، عندها أعمل أكثر بقليل حتى الواحدة أو الثانية صباحًا. هناك يكون لدي نمط يومي محدد؛ لأنني لا أتعرض للمقاطعة. حين أكون في ميلان أو في الجامعة، لا أكون سيد وقتي الخاص، دائماً ما يكون هناك شخص سواي يقرر ما عليّ فعله.

 

– ما المخاوف التي تراودك حين تشرع في الكتابة؟

 

ليس لدي مخاوف.

 

– ليس لديك مخاوف، إذن فأنت شديد الحماسة فقط ؟

 

قبل الشروع بالكتابة، أكون في غاية السعادة.

 

– ما السر وراء هذا الإنتاج الغزير ؟ لقد كتبت عددًا هائلاً من الأعمال الأكاديمية، ورواياتك الخمس يصعب وصفها بالصغيرة.

 

دائماً ما أقول إنني قادر على الاستفادة من الفجوات. ثمة مسافة شاسعة بين الذرة والذرة، والإلكترون والإلكترون، وإذا ما قلصنا قياسات الكون بالتخلص من كل المسافات التي في الـ(ما بين)، سيكون الكون بأكمله مضغوطًا في حجم كرة. حيواتنا مليئة بالفجوات. هذا الصباح قرعتِ الجرس ، ثم تحتم عليكِ انتظار المصعد، وتنقضي بضع ثوانٍ قبل أن تظهري عند الباب. خلال هذه الثواني، منتظراً إياكِ، كنت مستغرقاً بالتفكير في هذا العمل الجديد الذي أكتبه، بإمكاني العمل في دورة المياه، في القطار. أثناء السباحة أنتج الكثير من الأشياء، لا سيما في البحر، وأقل منها في حوض الاستحمام، ولكنها تأتي.

 

– هل سبق أن توقفت عن العمل؟

 

كلا، هذا لا يحدث. أوه، حسناً، أجل، هناك فترة يومين حين كنت أخضع لعملية جراحية.

 

_____________

(١) https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%D9%84%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA

مجلة باريس ريفيو\ فن الخيال

 

أدب الخامس والتسعون

عن الكاتب

ثابت خميس