إسرائيل ومسيرة العودة الكبرى

بين النجاح الميداني والإخفاق الاستراتيجي

 

بقلم: دافيد سيمان طوف

الباحث في المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي، والباحث السابق في معهد البحوث المخابراتية التابع لجهاز الاستخبارات العسكرية بالجيش الإسرائيلي.

 

 

توطئة:

في ظل تراجُع القضية الفلسطينية على طاولة الاهتمامات الدولية، وانشغال العالم بقضاياه اللاهبة في الشرق الأوسط وغيره خلال السنوات الماضية، تفتقت أذهان الفلسطينيين في قطاع غزة – ربّـما بإيعاز وتدبير حمساوي خفيّ – عن وسيلة تُذكّر العالم بقضيتهم التي ظنّت الحكومة الإسرائيلية أنه قد لفّها تراب النسيان؛ حيث قاموا بتسيير مظاهرات حاشدة نحو الحدود الإسرائيلية وأطلقوا عليها “مسيرة العودة الكبرى”.

و”مسيرة العودة الكبرى” هي سلسلة من المظاهرات التي انطلقت في الذكرى السنوية الثانية والأربعين لـ “يوم الأرض” الفلسطيني الموافق الـ 30 من آذار مارس 2018، وقُرِّر لها أن تتزايد وتيرتها حتى تبلغ الأوج في ذكرى “يوم النكبة” الموافق الـ 15 من أيار مايو 2018. وفي إطار هذه الفعالية الاحتجاجية خرجت كثير من المظاهرات الحاشدة على امتداد السياج الأمني المحيط بقطاع غزة لا سيما في أيام الجمعة. وقد بلغت المظاهرات ذروتها في يوم الـ 14 من أيار مايو الماضي، بالتزامن مع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، حيث توجه أكثر من 40 ألف متظاهر إلى السياج الأمني محاولين اقتحامه. ومن جانبها قامت إسرائيل باتخاذ الإجراءات الاحترازية اللازمة، فنشرت قواتِها العسكرية في عملية أطلقت عليها “الجدار الحديدي”، ونجحت في منع تسلل الفلسطينيين إلى أراضيها. وقد أسفرت المواجهات بين الطرفين في ذلك اليوم عن سقوط أكثر من 60 قتيلا فلسطينيا، معظمهم من عناصر حماس أو الموالين لها.

لقد كانت الرسائل التي صدرت عن كلا الجانبين قبل انطلاق المسيرة وأثناءها، بالغة الأهمية في صناعة الوعي وصياغة المشهد الإعلامي الذي شكّل ملامح الرأي العام العالمي تجاه الأحداث. لقد حرصت حركة حماس بكل ما أوتيت من قوة على حصْر الأحداث في إطار مُحكم عنوانه “مسيرات شعبية سلمية”؛ ساعيةً بذلك إلى تحويل دفة المواجهة مع إسرائيل من الساحة العسكرية إلى الساحة المدنية؛ حيث حقّ الاحتجاج الشعبي السلمي مكفول في كل الدساتير والأعراف الدولية. على الجانب الآخر حاولت إسرائيل جاهدة توصيف أحداث المسيرة بأنها “تحركات تخريبية إرهابية” تستهدف النيل من السيادة الإسرائيلية, وتجعل من النساء والأطفال دروعًا بشرية.

ولا يخفى على ذي عينين أن الرواية الفلسطينية الحمساوية بقدراتها الإعلامية المحدودة قد حققت نصرًا كاسحًا على الرواية الإسرائيلية بما يتوافر لها من إمكانات دعائية جبارة، وبات العالم بأسره مقتنعا – طوعًا منه أو كرهًا – بأن الشعب الفلسطيني ينتهج عبر هذه المسيرات وسيلة مقاومةٍ سلميّة مبدعة، لا تستحق أن تُقابل بكل هذا الصلف والعنف المفرط من جانب إسرائيل.

وإزاء هذا الإخفاق الاستراتيجي الفادح، تسعى هذه الدراسة الموجزة إلى إماطة اللثام عن أهم أسباب الخسارة الإسرائيلية في المواجهة الإعلامية ضد الشعب الفلسطيني:

 

– الميل الفطري للتعاطف مع الطرف الأضعف:

يعيش الفلسطينيون في قطاع غزة منذ سنوات طويلة رهن حصار إسرائيلي خانق وأزمة إنسانية طاحنة؛ ولذلك يحاول أهل غزة استغلال سوء أوضاعهم للعودة بقضيتهم إلى أجندة الاهتمامات الدولية. فقد أعلنت الصفحة الرسمية لمسيرة العودة الكبرى على منصّة “فيس بوك” قبل بدء الأحداث قائلةً: “إن زحف آلاف العائلات باتجاه الحدود سيُربك الاحتلال ويُحرجه، ويجتذب تعاطف وسائل الإعلام العالمية لصالح قضية شعبنا … “. في المقابل ينظر العالم إلى إسرائيل دائما على أنها الطرف الأقوى الذي يلجأ إلى استخدام القوة لقمع المدنيين السلميين.

إن مجرد وقوف الطرف الفلسطيني المتمثل في السكان المدنيين الغزّيّين العُزّل وفي الصدارة منهم الأطفال والنساء، في مواجهة الطرف الإسرائيلي المتمثل في جنود الجيش المدجّجين بالسلاح، كافٍ وحده للتأكيد على عدم وجود أي معيار للنّدّية أو التكافؤ بين الطرفين، ومن ثمّ فإن أي استخدام للقوة من قِبَل إسرائيل سيبدو أمام العالم استخدامًا مفرطًا للقوة، وسلوكًا مُستهجَنا وغير مُبرَّر. وبالمناسبة فإن أسطورة البطولة الفلسطينية قد نُسجت خيوطها من كثرة تكرار مثل هذا المشهد وتصديره للعالم عبر جميع المنصات الإعلامية.

لقد استطاعت حركة حماس – من خلال هذه المسيرات – نقل المواجهة من الصعيد العسكري الذي يميل فيه ميزان القوى بشكل حاسم لصالح إسرائيل, إلى الصعيدَيْن المدني والإعلامي. وكما صرّح “أحمد أبو رتيمة” أحد أوائل منظمي المسيرة من غير المنتمين إلى حركة حماس، قائلا: “لقد صار الفلسطينيون أكثر إيمانًا بالقوة الناعمة التي في أيديهم … وإن تلك المظاهرات السلمية سوف تُحيِّد إلى حد كبير ترسانة الأسلحة الهائلة التي تمتلكها دولة الاحتلال الغاصبة … وقد يكون خيار القوة مُجديًا في حالة التعامل مع خمسة آلاف متظاهر، لكن تأثيره سيتراجع كثيرًا أمام مائتي ألف متظاهر … إن مسيرات العودة تمتلك الوضوح الأخلاقي الذي يعزز فرص نجاحها؛ لأنها تنادي بعودة اللاجئين إلى ديارهم بطريقة سلمية لا تتبنى العنف”.

 

– رُبّ صورة خير من ألف كلمة، وما تـكرّر تـقرّر:

من القواعد الإعلامية المشهورة أنك تستطيع تحقيق التأثير الإعلامي الذي تريده باستخدام صورة واحدة مُعبِّرة، لا سيما إذا عملت على نشرها والترويج لها على نطاق واسع ولأمد طويل. لقد كان من نجاح الفلسطينيين المذهل أن استطاعوا إجبار محطات التلفاز العالمية على شق شاشاتها إلى نصفين: نصف يعرض الجماهير الفلسطينية الغفيرة المحتجّة التي تواجه الرصاص الإسرائيلي بصدور عارية، ونصف يعرض مراسم افتتاح السفارة الأمريكية في القدس بحضور كبار المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين.

 

– بين جريمة الإرهاب وشرعية الاحتجاج المدني المشروع:

لقد فشلت إسرائيل في محاولاتها المستميتة رفْع غطاء الشرعية عن تلك المسيرات ووصمها بالإرهاب المُنظَّم. وقد كان الفشل متوقعًا سلفًا؛ لأن منظمي مسيرة العودة سعوْا منذ البداية – بحسب قولهم – أن تكون احتجاجاتهم “سلمية وغير مسلحة”. لكن ركوب حركة حماس على موجة الأحداث أدى بالمسيرات إلى الانزلاق نحو العنف، فاستتبع ذلك رد فعل إسرائيلي عنيف خلّف الكثير من الضحايا. وكان أحرى بإسرائيل أن تستفيد من تدخُّل حماس وتوجّه رسالة إلى الشعب الفلسطيني تؤكد فيها على مسؤولية الحركة عن وقوع هؤلاء الضحايا؛ ولكن إسرائيل وقعت في غفلة استراتيجية عميقة، وعمدت إلى تحجيم المظاهرات عبر توجيه رسائل عنيفة ورادعة لإرغام سكان قطاع غزة على الابتعاد عن السياج الأمني. ولكن السبب الحقيقي لتراجع حجم الاحتجاجات كان قرارًا ذاتيًا من حركة حماس، اتخذته ربما استجابةً لنصائح قطرية أو رضوخًا لضغوط وإغراءات مصرية بفتح معبر رفح لبعض الوقت، هذا بالإضافة إلى إحجام بعض الشباب في غزة عن استمرار المشاركة في المظاهرات بسبب انعدام جدواها وارتفاع أعداد ضحاياها.

 

– عدم قدرة المجتمع الدولي على الاحتمال أكثر:

قبل أحداث العنف التي وقعت في الـ 14 من أيار مايو الماضي، والتي شهدت مصرع أكثر من 60 فلسطينيًا دفعة واحدة على طول السياج الأمني مع قطاع غزة، كانت الضغوط الدولية على إسرائيل محدودة نسبيا. ويمكن أن يُعزى ذلك إلى قلة أعداد الضحايا في معظم المظاهرات السابقة، وكذا إلى وقوع عدد من الأحداث الجسام التي شغلت اهتمام المجتمع الدولي؛ كان على رأسها انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية مع إيران، وتصاعد حدة التوتر بين إيران وإسرائيل على الجبهة السورية، والضجة الكبيرة التي سبقت القمة المشهودة التي جمعت الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بنظيره الكوري الشمالي “كيم جونج أون”. لكن المظاهرات بلغت ذروة لم تشهدها من قبل في يوم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وأدّى مقتل عشرات المدنيين الفلسطينيين إلى زيادة الضغوط الدولية على إسرائيل. وقد تجلت تلك الضغوط في قيام عدد من الدول باتخاذ إجراءات دبلوماسية قاسية بحق إسرائيل، مثل تعرضها لحملات واسعة من التنديد والشجب على وسائل الإعلام الدولية ومنصات التواصل الاجتماعي، وقيام المحافل الدولية بصب سيول إداناتها اللاذعة على الحكومة الإسرائيلية، وموافقة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على تشكيل لجنة دولية للتحقيق في الأحداث الدامية، هذا فضلا عن قيام تركيا وجنوب أفريقيا بسحب سفيريهما في تل أبيب.

توصيات

بعد أن حققت “مسيرة العودة الكبرى” – على حد قول رئيس حركة حماس “يحيى السنوار” في مقابلة خاصة مع قناة الجزيرة القطرية في منتصف أيار مايو الماضي – نقلات نوعية كبيرة وقطعت أشواطا واسعة في مسار المقاومة الفلسطينية، وأعادت طرح قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين المنسيين إلى أراضيهم التي أُجبروا على مغادرتها قبل عقود، وباتت تشكل صداعا مؤلما يقض مضاجع الحكومة الإسرائيلية، تقدّم الدراسة عددا من التوصيات إلى الساسة والمسؤولين والأمنيين في إسرائيل، من شأنها أن تقلل من احتمالات الخسارة الإسرائيلية في المعارك الاستراتيجية المستقبلية:

 

– تغيير لهجة الخطاب مع المجتمع الدولي:

إن المعركة بين إسرائيل وحماس، أو بالأحرى بين إسرائيل وقطاع غزة، كما بدا خلال الأشهر الفارطة في “مسيرة العودة الكبرى”، هي اختبار حقيقي لاستراتيجية إسرائيل الإعلامية. وقد تمكنت الحكومة الإسرائيلية ومؤسستها الأمنية من إقناع الرأي العام الإسرائيلي بأن الجيش يؤدي الدور المنوط به بشكل قانوني مشروع. ولم تحتـجْ الحكومة الإسرائيلي كثير عناء في هذا الصدد؛ لأن معظم الإسرائيليين بطبيعة الحال يؤيدون قمع المظاهرات ويدعمون الإجراءات التي تقوم بها قوات الأمن الإسرائيلية، ويعتقدون أن حماس – بوصفها منظمة إرهابية – مسؤولةٌ عن العنف الذي رافق أحداث الشغب عند السياج الأمني مع قطاع عزة. وقد شكلت تصريحات أحد مسؤولي حركة حماس بأن “معظم القتلى هم من عناصر الحركة”، دليلا قاطعًا على أن الاحتجاجات ليست مدنية صِرفة.

في المقابل، فشلت إسرائيل في إيصال مثل هذه الرسالة إلى المجتمع الدولي، لا سيما في ظل استمرار الحصار الاقتصادي الخانق والوضع الإنساني شديد التردي. إن مشاهد مواجهة القناصة الإسرائيليين المدججين بالسلاح للمتظاهرين العزّل من كل سلاح سوى الحجارة والطائرات الورقية الحارقة، قد عزّز انطباع المظلومية الذي أراد الفلسطينيون التظاهر به أمام المجتمع الدولي.

 

– تشكيل كتائب إلكترونية:

ومن أجل تعزيز الروايات التي تصبّ في المصالح الإسرائيلية ينبغي – قبل كل حدث وأثناءه – شنُّ حملات دعائية تُغرق المنصات الاجتماعية بالرسائل الداعمة للمواقف الإسرائيلية وتعرض المعلومات والحقائق اللازمة. ولا يخفى أن تلك الحملات تتطلب تشكيل كتائب إلكترونية جبّارة تنال من شرعية العدو، وتواجه كتائبه المضادة التي تعمل ليل نهار على تشويه سمعة إسرائيل وتبشيع كل ما تقوم به. ولا بد في هذا الصدد من الترميم الدوري لقدرات التأثير الإعلامي التي تمتلكها بعض منظمات المجتمع المدني الداعمة لإسرائيل، كمنظمة “مجتمع إسرائيل الإلكتروني – ACT.IL”، وهي مبادرة مدنية تضم متطوعين من جميع أنحاء العالم يعملون لتنقية سمعة إسرائيل والنيل من خصومها في العوالم الافتراضية.

 

– وضع خطة طويلة الأمد لمخاطبة الفلسطينيين:

فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني، ما من تأثير يُرجى للجهود الإعلامية الإسرائيلية العشوائية والطارئة التي لا تنطلق إلا في أوقات الأزمات. وسيظل تأثير تلك الجهود هزيلا ما لم تقم على خطة واضحة وممنهجة لا سيما في فترات الهدوء الأمني، تستهدف خلق حالة من الوعي داخل الضمير الفلسطيني بالمسئولية المباشرة التي تتحملها حركة حماس عن الأزمات المستمرة التي يعاني منها قطاع غزة. ولا بد من بذل جهود لا تنقطع على جميع الأصعدة، سواء كانت إنسانية أو اقتصادية أو مدنية أو دبلوماسية أو إعلامية، من أجل تعديل المفاهيم الأساسية لسكان القطاع، وجعلهم أكثر انفتاحا وقابلية للرسائل الإسرائيلية عند اندلاع مواجهات مستقبلية.

وتعد المنصات الاجتماعية إحدى الساحات الأساسية لمعركة الوعي وحرب تشكيل المفاهيم، فلا بد من بثّ سلاسل من الرسائل القوية التي يتردد صداها باستمرار في وسائط التواصل الاجتماعي لزيادة التصدُّعات الموجودة فعلا بين حركة حماس وسكان قطاع غزة. كما ينبغي تسليط الضوء على القضايا التي ينتقد فيها الشارع الغَزِّي حركة حماس، مثل مشروع حفر الأنفاق الذي تتبناه الحركة ويتكلف أموالا طائلة في الوقت الذي يعاني القطاع فيه من أزمة اقتصادية طاحنة ووضع إنساني متدهور. وكلما كان صدى هذه الرسائل التحريضية عاليا، كان من شأنه أن يجعل أولئك الذين ما زالوا يتهامسون فيما بينهم ويتخافتون بانتقاد تصرفات حماس يتجرأون على الجهر بآرائهم.

خاتمة

لقد نجحت إسرائيل باقتدار في منع تسلل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى أراضيها في مظاهرات “مسيرة العودة الكبرى”، وبالأخص يوم الاحتجاجات الفلسطينية على نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس. ولكن من حيث المعركة الإعلامية، تعرضت إسرائيل لضربة استراتيجية موجعة بدت من خلال انقسام شاشات التلفاز العالمية بين نقل المواجهات الدائرة على حدود قطاع غزة وسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، وبين نقل مراسم افتتاح السفارة الأمريكية في القدس. لقد كان من تداعيات تلك الصورة أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى أجندة اهتمامات المجتمع الدولي، وجرّت على إسرائيل سلسلة من الإدانات العالمية وحزمة من القرارات الدولية العقابية؛ لذا يجب على إسرائيل أن تستخلص الدروس والعبر من هذا الحدث الفارق؛ كي تكون أكثر استعدادًا وجاهزية لخوض ما يُستقبل من جولات في المعركة الإعلامية، سواء في الظروف العادية أو في حالات الفلتان الأمني، وذلك عبر استنهاض همم جميع الجهات المعنية سواء في الأجهزة الأمنية أو في مختلف الوزارات الحكومية، بل والاستعانة بالجهود الجماهيرية للتأثير على الرأي العام العالمي.

السابع والتسعون سياسة

عن الكاتب

إبراهيم سعد عبد العزيز