العصر الذهبـي لدول الخليج

بقلم: موران زاجا

الباحثة المختصة في قضايا الحدود في الشرق الأوسط والجغرافيا السياسية لدول الخليج العربية في المنتدى الإسرائيلي للتفكير الإقليمي ومركز عزري للشؤون الإيرانية والخليجية بجامعة حيفا.

 

شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة ولا تزال تعاظمًا ملحوظًا وتناميًا مطَّردا في القوة السياسية والنفوذ الإقليمي للدول المطلة على الخليج العربي؛ فقد باتت تلك الدول تمسك أكثر من أي وقت مضى بزمام الأحداث السياسية في المنطقة وتقود دفة التحولات الكبرى العابرة للحدود.

فمنذ عام 2003 وقعت منطقة الشرق الأوسط رهينةً لسلسةٍ من الأحداث التي مهّدت لتحولات جذرية دراماتيكية في موازين القوى بالمنطقة؛ فقد كان الغزو الأمريكي للعراق مُؤْذنًا بأفول نجم لاعب إقليمي أساسي, ولم يتعافَ العراق تماما بعدُ من انقساماته الداخلية العميقة بعد سنوات طويلة من الصراعات الطائفية المريرة وضعف الحوْكمة والإخفاق المتتالي في إدارة شؤون الدولة، وبعد ما بذل من جهود مضنية في تحرير نحو ثلث أراضيه من قبضة تنظيم “الدولة الإسلامية”؛ ومن ثمّ فقد انزوى العراق تمامًا عن موقع الزعامة الإقليمية.

وفي مطلع العقد الحالي اندلعت احتجاجات “الربيع العربي” التي نزلت نزول الصاعقة على مراكز القوى التقليدية في الشرق الأوسط، وأنهكت حكوماتها، واستنزفت قواها. فقد كانت مصر على مرّ القرون قلعة سياسية نافذة تمسك بخيوط جميع الأحداث في المنطقة العربية، لكن سقوط نظام الرئيس “حسني مبارك” أدى إلى ضعف الدولة، وأجبر المجلس العسكري الحاكم على أن يولّي ظهره للسياسة الخارجية ويمم وجهه شطر إعادة ترتيب البيت الداخلي والتفرغ لمواجهة الإسلاميين الطامحين إلى السلطة. وحتى بعد أن تخلصت مصر من حكم “الإخوان المسلمين” عام 2013، كان الوقت قد تأخّر على استعادة زمام القيادة الإقليمية. أما سوريا فترسُف منذ سنوات في وحْل حرب أهلية مُهلكة، وغدت مسرحا للتدخلات الأجنبية وفريسة للطامعين في موطئ قدم يعد أثمن مناطق العالم قيمة استراتيجية على مر التاريخ. فلا عجب بعد هذا كله أن تتوارى مراكز القوى التقليدية العريقة عن المشهد، وأن تؤول القيادة الإقليمية إلى دول الخليج العربي وجمهورية إيران الإسلامية.

إن الصحراء القاحلة التي كانت نقمة على منطقة الخليج والجزيرة العربية؛ إذ كانت لا تُنبت زرعًا ولا تُؤوي ضرعًا، قد تحولت إلى أعظم نعمة اقتصادية في العصر الحديث. لقد حوت هذه الصحراء في بطنها ثروات طبيعية هائلة أغرقت هذه الدول في بحار من الأموال لا تنفد. كما تمتاز التركيبة الاجتماعية في الجزيرة العربية بأنها تركيبة قبلية من طراز فريد. وهناك مزيّة أخرى مهمة تتمثل في النهج المستقل الذي سلكته تلك الدول في العصر الحديث؛ فخلافا لغالبية أنظمة الحكم في الشرق الأوسط التي قامت على أعين القوى العالمية الكبرى، قام نظام الجمهورية الإسلامية في إيران بفضل ثورة شعبية جارفة أطاحت بالنظام الملكي البهلوي المدعوم أمريكيا، كما أن الدولة السعودية الثالثة لم تعانِ كثيرا من عبث التدخلات الخارجية في بداية تأسيسها، أما بقية الأنظمة الخليجية فتمتعت عند قيامها بقدر كبير للغاية من الاستقلالية بسبب صغر حجمها وبُعدها عن بؤرة اهتمام القوى العظمى.

وإذا استرجعنا شريط التاريخ سنكتشف أسباب هذا الاستقلال وخلفياته القديمة؛ فقد كانت إيران في الماضي عاصمة الحكم لإحدى أعظم الإمبراطوريات عبر التاريخ، وهي الإمبراطورية الفارسية التي بسطت نفوذها على مناطق شاسعة من العالم القديم لقرون طويلة. أما شبه جزيرة العرب فظلت – لطبيعتها الصحراوية – منطقة مُهمّشة سياسيًّا رغم ما لها من مكانة دينية مرموقة، وظلت منعزلة تماما عن منطقة الهلال الخصيب؛ مع ما بينهما من اتصال جغرافي وعلاقات متبادلة. وكان أكثر الغُزاة يخشون دخول الجزيرة العربية؛ نظرا لما تتسم به من ظروف معيشية قاسية. وهذا يفسر لنا كيف كانت حدود توسُّع الإمبراطوريات التي حكمت المنطقة عبر التاريخ تمتد دوما على منطقة الهلال الخصيب وأطراف الجزيرة العربية المطلة على الخليجين العربي والعماني وبحر العرب، كما يكشف لنا أسباب العزلة السياسية بين الجزيرة العربية وما جاورها.

ولكن النصف الأول من القرن السابع الميلادي كان فترة زاهية في تاريخ إقليمين اثنين من أقاليم شبه الجزيرة العربية الخمسة التاريخية، هما إقليما تهامة والحجاز. فقد أدى غروب شمس الإمبراطوريات والحضارات المجاورة وكذا الازدهار الاقتصادي الذي شهده الإقليمان إلى حدوث تطور اجتماعي وثقافي بلغ أوجه مع ظهور الإسلام في مكة التهامية؛ لكن سرعان ما تحول الإقليمان اللذان خرج منهما الإسلام إلى مركز سياسي ذي مكانة ثانوية بالنسبة للدين الوليد، فيما عادت منطقة الهلال الخصيب ذات النفوذ التقليدي العريق تلعب مرة أخرى دورًا محوريًّا في تشكيل مصير هذين الإقليمين؛ بل والجزيرة العربية كلها سياسيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا. فباستثناء النبي محمد وخلفائه الأربعة الأُوَل الذين اتخذوا من المدينة النبوية الحجازية عاصمة للدولة الإسلامية الناشئة، تنكّر كل الخلفاء الذين جاءوا بعدهم لشبه الجزيرة العربية جغرافيًّا وسياسيًّا، وقاموا بنقل عاصمة الخلافة إلى دمشق ثم إلى بغداد، بما يعني عودة السيادة للهلال الخصيب. ومع أن التوسع الإقليمي للخلافة قد جمع شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب وإيران تحت راية الإسلام، إلا أن الحدود المعنوية بين تلك المناطق ظلت قائمة حتى في ظل الإطار السياسي الجامع.

أما التحول الأبرز الذي طرأ على أهمية المنطقة فكان خلال حقبة الخلافة العثمانية، حيث كانت إيران – أو دولة فارس كما كانت تسمى في تلك الحقبة – كيانًا سياسيًّا منفصلًا عن الخلافة, فيما كانت الجزيرة العربية تَدين لحكم العثمانيين. فخلال القرن السادس عشر انطلقت الحملات البحرية للإمبراطورية البرتغالية التي سعت للتوسع على حساب أراضي الخلافة العثمانية. وبالفعل نجحت البرتغال في غزو معظم المناطق الساحلية لشبه الجزيرة العربية على الخليج العربي والبحر الأحمر، ومنذ ذلك الحين أصبحت تلك المناطق هدفًا مغريًا لأباطرة أوروبا الذين استهوتهم الثقافة العربية وسحرتهم الحضارة الإسلامية.

أما أبرز القوى الأجنبية التي ظلت في منطقة الخليج عقودًا طويلة فكانت الإمبراطورية البريطانية، التي أتاح نمط إدارتها لتلك المستعمرات استمرار الأنشطة المحلية وبقاء حُكم الزعماء المناطقيين وإشراكهم في عملية صنع القرار. فبينما كانت بريطانيا وفرنسا تقومان في العقود الأولى من القرن العشرين بترسيم معظم حدود أقاليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حسب أهوائهما المطلقة وفي ظل إهمال كامل لزعماء تلك المناطق، حرص الممثلون الدبلوماسيون البريطانيون في منطقة الخليج على إجراء مفاوضات موسعة مع الشيوخ والوجهاء المحليين للتوافق معهم حول مناطق نفوذهم.

ومن ثم فإن دول الخليج تنعم منذ تأسيسها – وفق المعايير الإقليمية والعالمية – بقدر كبير للغاية من الاستقرار الذي أسهمت فيه التقسيمات الاجتماعية والتحالفات القبلية القوية، التي رأت بريطانيا العظمى أن تحترمها وتُشركها في ترسيم الحدود الباقية بحذافيرها تقريبًا إلى الآن. لكن هذا الاستقرار يقوم في الوقت نفسه على جُملة من الدعائم التي تضمن ولاء المجتمعات الخليجية لأنظمتها مهما كانت سُلطوية فاشية، منها دعائم سياسية تتجسّد في التقاليد الضاربة في أعماق الوعي القبلي العربي والدافعة إلى الخضوع بالولاء للأسرة الحاكمة، ودعائم اقتصادية تتجلّى في نموذج دولة الرفاه والرخاء التي تُثري شعبها، ودعائم اجتماعية تتمثّل – باستثناء دولة البحرين – في تجانُس النسيج السكاني الذي يُقلل من الضغوط الاجتماعية بين الفئات المختلفة ويحُدّ من المطالب المتعلقة بالتمثيل النيابي وتقرير المصير في دول الخليج.

 Total Rank Country
112.7 3rd Yemen
111.4 4th Syria
102.2 11th Iraq
88.7 36th Egypt
86.8 44th Lebanon
84.3 52nd Iran
70.2 99th Saudi Arabia
64.4 113th Bahrain
55.9 126th Kuwait
52.6 132nd Oman
48.1 140th Qatar
42.8 146th United Arab Emirates

مؤشر الدول الهشة([1]) الصادر عن صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي، عن الربع الأول من عام 2018.

بحسب المؤشر تحتل جميع دول الخليج العربي ترتيبا منخفضا، ما يعني أنها تنعم بقدرٍ عالٍ من الاستقرار.

ورغم كل ذلك لم يُحقق هذا الاستقرارُ العريقُ السيادةَ الإقليمية لدول الخليج إلا مؤخرًا؛ ذلك أن تأخر قيام مظاهر الدولة وأنظمة الحكم فيها وكذا بُعدها الجغرافي عن قلب الشرق الأوسط جعلاها مفعولا به للفاعلين الإقليمين الأكثر قوة. بل إن المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية – اللتين تُعدان لاعبين لا يستهان بهما في المنظومة الإقليمية – كانتا تتأثران كثيرا بالسيناريوهات التي تكتبها القوى الإقليمية التقليدية.

لكن هذه الخارطة الجيوسياسية قد تغيرت منذ اندلاع أحداث “الربيع العربي”، وبدا واضحا مدى استقرار دول الخليج مقارنةً بالضعف والفشل الذي عانت منه الدول القوية بمنطقة الهلال الخصيب وشمال إفريقيا. ومن ثم عمدت إيران إلى تكثيف تدخلها في العراق وسوريا ولبنان، فيما أخذت المملكة العربية السعودية تزيح مصر رويدًا رويدًا عن موقع الريادة على الساحة العربية السنية. ولا أدل على تحوُّل مركز الثقل العربي والإقليمي من صنيع الرئيس الأمريكي الحالي “دونالد ترامب” الذي زار السعودية في أيار مايو 2017 كأول محطة خارجية له، بينما كانت مصر هي وِجهة الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” في حزيران يونيو 2009 عندما أراد مخاطبة العالم الإسلامي.

وفي عام 2015 وفي سياق تشكيل تحالف عسكري لمحاربة الحوثيين في اليمن، لبّى عدد من قادة الدول العربية والإسلامية الدعوة السعودية للمشاركة في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فقامت كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت والبحرين ومصر والأردن والمغرب والسودان وحتى السنغال بإرسال قوات عسكرية تُقاتل وتُقتَل في ظروف صعبة وعلى أرض قاسية تحت قيادة سعودية كاملة، فكانت تلك المشاركة بالنسبة لبعض الدول أول تجربة عسكرية حقيقية لها في تاريخها.

أما آخر الأحداث التي أعادت التأكيد على أهمية دول الخليج وأبرزت محوريتها في السياسة الدولية فكان الأزمة الخليجية وحصار دولة قطر في حزيران يونيو من العام 2017. فبعد أن كان اهتمام العالم ينصب على مراكز الثقل التقليدية في العالم العربي قبل وأثناء احتجاجات “الربيع العربي”، أخذ العالم يصرف جُلّ اهتمامه تجاه منطقة الخليج. كما أن تلك الأزمة أجبرت الدول العربية على أن تقرر ما إذا كانت ستقف إلى جانب قطر، أم في صفّ المملكة العربية السعودية، أم أنها ستلتزم الحياد بين الطرفين. وقد استجابت دول كثيرة إلى طلب السعودية وانضمت إلى حملة مقاطعة قطر، وبذلك تُوّجت السعودية مرة أخرى قائدةً للعالم العربي.

وكما رأينا في الحدثين السابقين، مال مركز ثقل المحور العربي بشكل لا لبس فيه ناحية المملكة العربية السعودية، وغدت الدول الريادية السابقة – كمصر والعراق – تسبح في الفلك السعودي؛ بما يعكس حجم أهمية المملكة في المحيط العربي وما باتت تتمتع به من حظوة وسطوة. أما دولة قطر فتحظى منذ سنوات طويلة بمكانة مرموقة ونفوذ إقليمي هائل بفضل ما تملك من إمبراطورية إعلامية وثقافية ضخمة. أما دولة الإمارات العربية المتحدة فتدرك جيدا أن “طاقة القدر” قد فُتحت لها لتعزز مكانتها على الساحة الإقليمية، وقد عكفت بالفعل خلال السنوات الفارطة على تجنيد آلتها الإعلامية الجبارة لمناقشة القضايا العروبية العامة والتأثير فيها.

وختامًا، يبدو أنه لولا الصراعات والمشكلات التي واجهت مراكز القوى التقليدية في العالم العربي سواء كانت القاهرة أو بغداد أو دمشق، لظلت دول الخليج على هامش السياسة الإقليمية والعالمية كما كانت منذ صدر الإسلام؛ بل وقبل ذلك. ومع أن الخريطة الجيوسياسية تتغير باستمرار, وأن الأمور قد تعود إلى نصابها؛ إلا أن المكانة السياسية لدول الخليج وإيران هي على الصعيدين الإقليمي والدولي أفضل في الوقت الراهن من أي وقت مضى.

_______

([1]) http://fundforpeace.org/fsi/.

الثامن والتسعون سياسة

عن الكاتب

إبراهيم سعد عبد العزيز