المذاهب الإسلامية .. الواقع والطموح

تعيشُ قلوبُنا مشاعر حزينة، وأحاسيس مؤلمة، لما وصل إليه حال المسلمين؛ فلم تكن الصورة الحالية المرعبة التي نعيشها اليوم في حسبان أكثر المتشائمين بأحوالنا وشؤوننا؛ لكن ما تشهده كثير من بلدان العرب التي طالها الدمار والتخريب فاق كل التنبؤات المشؤومة، وبات الحال أقرب مسافة إلى الماضي الأليم منه إلى المستقبل المنشود بسبب الحروب والخلافات التي ما انفكَّ العرب يوقدونها كلما أوشكت الفتن أن تنام وتموت.

ومع حقيقة أن العرب قد اختيروا تشريفا وتكريما لينطلق منهم سيد الخلق أجمعين داعيا إلى الله ومبشرا بدينه العظيم؛ إلا أن الواقع الذي يعيشه العرب لا يترجم شيئًا من هذه الحقيقة المشرفة، التي تجرد بها العرب بين سائر الأجناس والأعراق.

ويبدو أن الإسلام الذي يعيشه كثير من المسلمين اليوم هو غير الإسلام الذي جاء به محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أو لعله حافظ على اسمه ومظهره، أما جوهره فقد ضيع المسلمون كثيرًا من جوانبه الإنسانية الفطرية المشرقة.

وليس أكبر برهانًا على هذا الضياع الفادح من هذه الدماء المسكوبة في شوارعنا العربية المتفرقة بين سوريا والعراق وليبيا ومصر واليمن، ومع ذلك فأوضاع العرب الآن تنذر أن القائمة معرّضة للزيادة أكثر من النقصان ما لم يتدارك العرب المسلمون الموقف بكل ما يتطلبه من رجولة وشهامة ونخوة وأمانة وإيمان بالوحدة الحقيقية الجامعة.

والدماء المسكوبة هي بكل أسف دماء المسلمين جميعا، مهما تعددت مدارسهم ومذاهبهم واتجاهاتهم وجنسياتهم؛ ففي حين جاءت الرسالة السماوية الخالدة حافظة للروح البشرية، داعية إلى التطور والنماء والازدهار، منادية إلى التعاون والتآلف والتعاضد، لا يفتأ المسلمون ينبشون في كل ما من شأنه هدر هذه الروح البشرية متعللين بأكثر الأسباب تفاهة وانحطاطًا.

ولا مقارنة تذكر بين عهد صاحب الرسالة الماجدة، وأتباع هذه الرسالة في وقتنا الحاضر؛ بل إن المقارنة هنا إجحاف خطير في حق نبينا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، وهو من أفنى عمره ناصحا وموجها ومربيا ومؤسسا لرسالة تمجد هذا الإنسان وتعلي من شأنه، وهو أيضا تعدٍ صارخ على المبادئ السامية، والقيم العليا التي رفعت من قيمة الإنسان واعتبرت روحه غالية نفيسة (مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيّنَـٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِى ٱلأرْضِ لَمُسْرِفُونَ ).

إن أبرز ما يميز ديننا الإسلامي هو احترامه للعقل الإنساني وحثه أن ينال حظه الوافر من العلم والفهم. فأول ما نزل من آيات الله البينات قوله تعالى “اقرأ”. ثم ترادفت المواقف والظروف فكان العقل الإنساني الإسلامي هو مفتاح الفرج والحل. كما أن الشخصية الإسلامية الحكيمة التي مثلها النبي الكريم في أخلاقه وصفاته تجسد بشكل واضح كيف ينبغي أن يكون المسلم في حواره واحترامه وحسن ظنه بالآخرين.

إضافة إلى أن ديننا لم يغفل صغيرة ولا كبيرة في مجال العلم والمعرفة إلا أوضحها وأبرز شأنها  كالأخذ بمبدأ الشورى والحوار بالتي هي أحسن. وكل ذلك من أجل أن يكون للعقل مجال رحب للتفكير، فيجد قلب المؤمن راحته وسعادته.

ومع أن الرسول الكريم رسم خطًا واضحًا في قدرة المسلم على التعايش والتآلف، في ضوء حقوقه المحفوظة، وكرامته المصونة، مثلما كان الحال مع اليهود في صدر الإسلام، إلا أن كثيرا من أتباعه اليوم لم يرضوا التعايش مبدأ حتى مع أولئك الذين يتشاطرون معهم الجملة والقبلة واللغة وأبوا إلا أن ينالوا من بعضهم بعضا باسم العصبية العمياء.

والفتنة المذهبية التي ابتُلي بها المسلمون اليوم، ليست نتاجا لغزارة اطلاعهم وصدق إسلامهم وعمق فهمهم؛ بل هي انعكاس للبون الشاسع، والمسافة الهائلة بين إسلامهم وإسلام النبي الأكرم، أو هي تأكيد فاضح لمقدار الجهل السحيق الذي أوغلوا فيه حتى النهاية.

إن المسلمين يعرفون بعضهم بعضًا بأسمائهم المذهبية، وآخر ما يذكر هنا أنهم مسلمون أولا وآخرا. وكان الواجب ممن صدق إيمانه وحسن إسلامه أن يبحث عن الوحدة لا عن الفرقة، وأن يتذكر من أخيه ما يقربه إليه شأنا، ويعزز من أخوته معه، ليذكر الواحد منهما الآخر بما عساه قد غفله من شريعة محمد الغراء.

وأقرب صورة إلى هذا الصراخ المذهبي المجنون هي صورة المكابرين من بني البشر في الأزمنة البعيدة، عندما عاندوا الرسل الذين اصطفاهم الله ليبلغوا رسالته، فنحن نعلم أن مسار الدعوة واضح جلي، وطريق الله سهل وميسر ويتناغم مع ما تتطلع إليه النفس البشرية من الحرية والأمان والكرامة. ومع ذلك كله لاذ كثير من المشركين إلى عدم الاعتراف بالنبوات السماوية الشريفة عنادًا وكبرًا وحقدًا وغرورًا.

ثم لا جدالً في أن الخاسر الأوحد هو هذا الإنسان الضعيف، الذي خلق من العدم، وتعلم الأشياء حرفا حرفا، ثم هو يدرك عظمة الخالق جل جلاله، ولا يؤمن به مع ما تجلى له من نواميس وقوانين وضوابط لا تسير إلا وفق مشيئة الله عز وجل. والحال ذاته مع فتنة المسلمين اليوم، الذين آثروا الفرقة على الوحدة، والضعف على القوة، والأنانية على الإيثار. وليس أعجب من مسلم يغني لطائفته كما لو أن جنة الآخرة لها وحدها، والباقون يسحقون في النار وبئس المصير.

بين الوقت والآخر تجد في طريقك من تستهويهم لغة المذهبية أكثر من أي شيء آخر في دين الإسلام العظيم، وكأنه ما وجد في الحياة أصلا إلا ليدافع عن قناعاته وآرائه، معتقدًا أن الخير والصلاح والنجاة والنقاء والطهر ملتصق به هو، وأن ما سواه قد تلطخ بعوامل التعرية البشرية الكثيرة التي طالها التزييف والتضليل. ثم هو ينفق وقته وجهده كله ليبين لك أنك على ضلال مبين، وأن نصيبك من الجنة خبز الشعير. ومثل هذا كثيرون في زمن الوجبات السريعة التي تقدم عبر الشبكة العنكبوتية، وآلاف الكتب التي نقضت مقولة ( خير جليس في الزمان كتاب )؛ بعد أن ملأت أدمغة جلسائها زورا وبهتانا، وزادتهم وحشة واغترابا، وجهلا وتعصبا، وأعادتهم إلى الوراء قرونا طويلة.

والمأمول أن الكتاب يزيد صاحبه نورا، ويفتح الستار عما كان يجهله سابقا، ويعرفه بنفسه وبقيمته وبدوره في الحياة، وعن طريقه فقط يدرك الواحد مقدار جهله العميق. وأكثر من ذلك، إن الكتاب يلين قلب صاحبه، ويحببه إلى الحياة، ويبعث في ذاته شغف اللقاء بالناس والتعرف على ثقافاتهم والإستقاء من معارفهم وعلومهم.

لكن الواقع في عالمنا العربي خصوصا، والإسلامي عموما، أن الكتب والشبكة العنكبوتية التي جابت أصقاع العالم قاطبة، قد زرعت في كثيرين أشواكا حادة، تضيق بها قلوبهم، لتصيبهم ومن حولهم بسهامها وسمومها وقذارتها. ومن المؤسف حقا أن تكون ثمة كتب سامة وقذرة، ويبدو أن كثيرا منها كذلك.

حدث ذات مرة في واحد من مطارات دولنا العربية الإسلامية أن طُلب مني الحاضرون الصلاة بهم في مصلى المطار، وبدوا لي أنهم من أقطار عربية مختلفة، وقد وجدت نفسي مضطرًا للتقدم بعدما رفض أي من الحاضرين ذلك، وأصروا أن أتقدم. وما إن انتهيت من الصلاة حتى دار جدل كبير، ولاحظت أن عددا من المصلين قد انسحب من الجماعة أصلا. والذي شُق عليهم قبوله أنني لا أرفع يدي أثناء تكبيرة الإحرام، والحق أنني أشفقت عليهم كثيرا، ليس لأني على صواب وهم على خطأ، بل قد يكون العكس، لكن لم أكن أتصور أن المسألة تستحق كل هذا الجدال. لقد علت وجوههم حمرة الغضب، وارتفعت بعض أصواتهم داخل المصلى الشريف، وخرجوا ونظراتهم حادة وكئيبة. ولسان حالي يقول: كان بإمكانهم إعادة الصلاة إن كانوا مطمئنين إلى بطلانها، ونصحي إن كانوا واثقين بأني على خطأ مبين لا يغتفر، وكان بإمكانهم أن يبتسموا توددًا واحترامًا لما يجمعنا من الإسلام العظيم، لكن شيئا من ذلك لم يحدث.

وفي موسم من مواسم الحج، قدر لي مع مجموعة من زملاء التخصص أن نقوم بدراسات بحثية تهدف إلى الوقوف على بعض المشكلات الصحية لدى الحجاج، ونرجو الله أن يوفقنا إلى إضافة شيء مفيد. وكانت جل دراساتنا تحت إشراف قامات علمية وكوادر متفوقة في وزارة الصحة السعودية. وأثناء عودتي من أحد المخيمات، استأذنت للدخول إلى مخيم الحجاج التابع لإحدى دولنا العربية الشقيقة. وقد أكرموني بترحيبهم وطيب حديثهم، وسألوني من أي البلدان أتيت، وأخبرتهم أني من عُمان، وأدركت أنهم أصحاب ثقافة عالية، كما أنهم على دراية بكثير من تاريخ بلدي وحاضره. كان الحجاج الذين قدمت لهم استبيانات البحث موزعين على خيمتين اثنيتن، وبعدما فرغوا من إكمال الاستبيانات، أخذت في تجميعها إلى أن وصلت إلى أحدهم، وبينما كان يسلمني ورقته شكرني ثم قال: إن شاء الله أنت لست إباضيا.

وقد أسعدني ما قاله قليلا جدا، لكنه أزعجني كثيرا؛ أما سعادتي القليلة فلأنه كان يعرف أن ثمة فرقة إسلامية تُعرف بالفرقة الإباضية، وأنها موجودة في عُمان وبعض بلدان المغرب العربي، وهذا مؤشر ثقافة واطلاع على الوطن العربي الإسلامي بمدارسه المتعددة؛ لكن الذي أزعجني أكثر هو لأن المكان الطاهر الذي جاء ليؤدي فيه فرضا أساسا من فروض الإسلام، وقد نشأ فيه سيد البشر أجمعين، لم يكن كافيا ليشغل هذا الحاج وغيره بالتأمل في الخالق العظيم، ورسوله الكريم ودينه الحنيف، أو ربما ليشغل هذا الحاج فيما يمكن أن يقربه من إخوانه المسلمين الذين أتوا من أصقاع العالم الفسيح، وهم من فرق عديدة، وألوان مختلفة، وأعراق كثيرة، أو على الأقل ليتفرغ الحاج للدعاء والتقرب إلى الله، وهو في أطهر بقعة على وجه الأرض. إن شيئا من ذلك لم يحدث أيضا  أو هكذا بدا لي.

لقد أخذ مذهبي اهتمام الحاج بين كل هذه الخيارات المتاحة، ويبدو أن بعض من كان في تلك الخيمة، كانوا يتساءلون مثله، فعندما استوقفني الحاج بسؤاله الذي شغله، ابتسمتُ له واستسمحته في السؤال، وما المشكلة في المذهب الإباضي، ثم انضم إلى حديثنا اثنان آخران من الحجاج. وكنت أتوقع منه جوابا مثل أنها فرقة من الخوارج كما يُكتب ويُنشر، أو أنها من الفرق المبتدعة التي حادت عن الجادة، ومثل هذا يُكتب كثيرا في بعض الكتب، ومواقع الشبكة العنكبوتية، ويأخذ به الكثيرُ من الناس خُصوصا من محبي الوجبات السريعة.

لكنني أعترف أن الحاج الكريم فاجأني بملاحظة أخرى، وكانت أقرب إلى الواقع، والتصديق، وللأمانة فقد أحببت ملاحظته، لولا أن الحاج الآخر لم يتجاوزها للإشارة مضمونا إلى تشكيكه في المذهب الإباضي أصلا. أخبرني بأنه تعرف على مجموعة من العُمانيين أثناء دراستهم خارج بلادنا العربية، وكانوا ينتمون للمذهب الإباضي، لكنهم اعتادوا الجمع كثيرا في صلواتهم، لدرجة أن الحاج كان يتصور أن المذهب الإباضي يجيز جمع الصلاة للمقيمين مثل المسافرين.

وبعدما فرغ من ملاحظته، استأذنته لأوضح له الأمر، بأن المذهب الإباضي يوجب القصر في الصلوات للمسافر الذي تجاوز مسافة فرسخين أو اثني عشر كيلومترا في حسابنا الحالي، أما الجمع في الصلوات فالمذهب يجيزه للجاد في سفره فقط، وهذا ما يذهب إليه علماء عُمان الكرام وعلى رأسهم سماحة الشيخ أحمد الخليلي مفتي السلطنة، لكن كثيرًا من الناس يتجاوزون ذلك تهاونا ويجمعون الصلاة في السفر على اختلاف ظروف سفرهم، حتى يظن بعضهم أن المذهب يوجب الجمع دائما وهذا خطأ.

ومع أنني أحسست أن الحاج لم يطمئن لإجابتي، إذ بادر هو والحاج الآخر إلى الافتراض أن الناس ذهبوا إلى هذا التهاون لأن المذهب نشأ على فكر ضال وغير صحيح، ولم أكن متفاجئا بهذه الخلاصة، لأن ذلك ما كنت أتوقع منه سابقا. لم يكن الوقت يسمح لي بمزيد من النقاش، فقد كنت مضطرًا إلى أن أذهب إلى مخيمات أخرى، وأساعد أصحابي، ولأنني أيضا لست أهلا للدخول في متاهات احتار فيها كثير من علماء المسلمين؛ فكيف بمن هو جاهل في هذه التفاصيل من أمثالي. ومع ذلك فقد قلت له بأنه يتحدث بلغة متعصبة، ولا تليق به كحاج، بل كان الأولى أن ينشغل بما هو أهم. أظهر انفعالا كبيرا بعدما أشرت إلى تعصبه ثم ذكروني بقول المصطفى الكريم: ” يولد ابن آدم على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه”. ويبدو أن صاحبنا أراد أن يشير ثانية إلى ما نشأت عليه من مذهب لا يتناسب مع فرقته الناجية، وكأنه يريد أن يخبرني أن مذهبه كان باختياره هو وليس باختيار البيئة كما حدث معي. أوصاني أخيرا أن أعيد النظر في مذهبي وبيئتي، وأوصيته فقط أن يعيد النظر في المسألة الفقهية التي أخطأ هو تفسيرها. استأذنتهم بالانصراف فقد كانت المخيمات الأخرى تنتظرني، سلمت عليهم وصافحتهم وشكرتهم على وقتهم ومساعدتهم لي بالاستبيان، وخرجت مبتسما، لكن صاحبنا كان لم يزل غاضبا. ورجوت الله له حجا مبرورا.

ولأنه أشار إلى البيئة ودورها، أعلم أن الدولة العربية التي أتى منها هذا الحاج ولها في قلبي احترام وحب كبيران، ينتمي أغلب الناس فيها إلى المذهب المالكي الكريم الذي أحبه وأحترمه كثيرا كما أفعل مع مذهبي الكريم. وقد تمنيت أن لو أسعفني الوقت لأحكي له تاريخي كله، ليعرف البيئة التي نشأت فيها تفصيلا.

ولست أنكر أن للبيئة دورا مهما في تحديد المسار الذي سينتهجه الفرد بقية حياته، فلأني من ولاية “العوابي” في سلطنة عُمان فقد نشأت إباضيًا، ولو كنت من مواليد “الجديدة” بالمملكة المغربية لكنت مالكيا، ولوكنت ترعرت في “القطيف” بالمملكة العربية السعودية لكنت شيعيا، ولو نشأت في “الرياض” لأصبحت حنبليا. ولا يعني ذلك أننا بالضرورة سوف نتبنى كل ثقافاتنا ومذاهبنا التي نشأنا عليها، قد يكون ذلك الأكثر احتمالا، لكن قد يتغير كذلك في زماننا هذا والعالم أصبح قرية صغيرة.

وحسب فهمي البسيط، فقد عرف العُمانيون المذهب الإباضي منذ النشأة الأولى للإسلام، وعرف العالم الإسلامي العُمانيين، علماء أفذاذا، وفصحاء بيان، وقادة حكماء، وساهموا بكل شرف وجدارة في نشر الإسلام دينا في أرجاء العالم الكبير، وبما أنني من العوابي، في الجانب الشمالي من سلسلة جبال الحجر الغربية المشهورة التي يعتليها الجبل الأخضر بقامته التاريخية الشامخة، أذكر هنا الإمام الصلت بن مالك الخروصي، والإمام الوارث بن كعب الخروصي، والإمام سالم بن راشد الخروصي، والعالم الرباني الشيخ جاعد بن خميس الخروصي، والشيخ القاضي ناصر بن راشد الخروصي، كما أن العلامة الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي الذي يشغل منصب مساعد المفتي حاليًا هو من العوابي كذلك.

والمعروف للقاصي والداني أن المنتمين للمذهب الإباضي لم يحصروا أنفسهم في دائرة المذهبية، ولم يجعلوا الجنة ميراثًا لهم يمنحونها لأنفسهم، ولمن سار على هواهم، ويمنعونها عن غيرهم. لم يكن هذا ديدن العُمانيين الشرفاء يوما من الأيام.

ومن جوانب نشأتي أذكر أيضا أن معلمي في الصف الأول الابتدائي، كان من المملكة العربية السعودية، واسمه “شاكر” كما أنه كان يسكن في نفس قريتنا. وكان معنا رجلا كريما محبوبا، ولم يكن إباضيا، وبعدما تنقلت في صفوف المدرسة كلها، تعرضت لمعلمين من أقطار عربية مختلفة، ينتمون لمدارس إسلامية متعددة. فقد تعلمت مادة التربية الإسلامية على أيدي معلمين رائعين من بلاد مصر والأردن وتونس، ولم يكن أحد منهم متعصبا لشيء إلا للإسلام. وأذكر أنني في نقاشاتي البسيطة مع معلمي من الأردن الحبيب، كان يثريني بسعة اطلاعه، وقد كان يخبرني أن بعض الآراء يؤمن بها أتباع المذهب الفلاني، ولا يرجحها المذهب الإباضي.

والحق أن مفهوم “المذهب الإباضي” لم يكن واضحا لي كثيرا إلا بعدما استوعبت الإسلام جامعا وشاملا، فكل ما عرفته من مدرستي وقرأته في كتبي حينها أنني مسلم وكفى، كما أن مصادر القراءة والكتب التي كنا نطلع عليها أحيانا، كانت لمسلمين من مدارس متعددة.

وكنا نشاهد في البيت كثيرا من برامج الفتاوى في قناة إقرأ، ودبي، والشارقة وغيرها، وقد كنا نأخذ كثيرا من الأمور الفقهية التي تشكل علينا، خصوصا أن القناة العمانية الوحيدة لم تكن تبث برامج دينية كثيرة، كما أن قنوات التواصل مع العلماء وأصحاب الفتوى لم تكن بالسهولة التي نعيشها اليوم. ولم نكن نرى فرقًا بين القنوات العربية في المضمون الديني.

ولم أنشأ في ولايتي يوما على الإيمان أن غيري من المدارس الإسلامية يختلف عني في شيء، بل هو جزء من كياني وديني العظيم الذي أنتمي إليه وأحبه بعمق. بل إن المكتبة الإسلامية الصغيرة التي أنشأناها في مسجدنا الصغير، كانت محملة بأشرطة كثيرة لشيوخ وفقهاء معروفين في الوسط العربي خصوصا من المملكة العربية السعودية ومصر، وكم كنت معجبا بمحاضرات الشيخ عبدالحميد كشك رحمه الله.

ولا أنسى أن جامعة السلطان قابوس قد قربتني أكثر من كل مدارس الإسلام، بحكم موقعها في محافظة مسقط، حيث توجد بها مختلف أطياف المذاهب الإسلامية، كما أن زملاء الدراسة ينتمون لمدارس إسلامية متنوعة في ربوع عُمان العظيمة. وكنت أتشوق كثيرا لحضور خطبة الجمعة للشيخ عبدالرحمن البدري حفظه الله في مدينة السيب، وكان موقع سكني قريبا من مسجد الإمام أنس بن مالك، وجامع الخوض، ومسجد الرسول الأعظم، وينتمي الأئمة فيها لمدارس إسلامية متعددة.

ولا أنسى ما اعتراني من حزن عميق باستشهاد الشيخ أحمد ياسين، ولذلك فقد أحببت اسم “ياسين” كثيرا، ليكون اسم ولدي البكر، مع أن خاله يحمل الاسم نفسه. وقد اشتد حزني برحيل الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي رحمه الله. كل ذلك لأننا جميعا نعيش تحت راية الإسلام الكبير وهو بلا شك وطننا الكبير.

أذكر أنه في حواري مع ذلك الحاج، أخبرته أنني سأوصي ابني عندما يكبر أن ينهل من مدارس الإسلام كلها دون استثناء، فكما نشأت حرا كريما في معتقدي، سيكون هو الآخر حرا مؤمنا بما يؤمن هو به، وليس بالضرورة بما أؤمن أنا به، اللهم ألف بين المسلمين جميعا.

 

 

التاسع والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

زايد بن خليفة المياحي