العقل الجمعي والحرية الغائبة

كتب بواسطة الوليد الكندي

 

مع كثرة التنظيرات والآراء التي تبحث عن إجابة السؤال الحضاري وتشخص أسباب الانسداد التاريخي الذي تمر به شعوب المنطقة العربية، إلا أن مسألة الحرية ما زالت تتصدر قائمة الحلول الموصى بها لأجل الخروج من هذا المأزق الحضاري، ولكن مفهوم الحرية الذي يطالب به عادة المفكرون والأكاديميون؛ بل حتى عامة الشعب ما زال غير مكتمل؛ إذ ينحصر تعريفه بالحرية السياسية والحزبية، ولكن يغيب عن هذا المفهوم جانب مهم للغاية سنتطرق إليه فيما يأتي.

 

  • الانتماء للمجتمع بين الحرية والتقييد

 

لا يختلف اثنان على أن الاجتماع البشري هو مركز الدائرة الذي تنمو الحضارة على محيطه، وأن المجتمع هو الذي يوفر الأمان والنظام للأفراد لكي يتمكنوا من ممارسة حرياتهم في ظل السقف الأدنى من الحرية وتوفر العدل والمساواة، ولكن في سبيل ذلك كله فإن الثمن الذي يجب على الأفراد أن يدفعوه للمجتمع هو اتباعهم لنمط معين من التفكير الجمعي المشترك يضمن عدم تمردهم على قيم المجتمع أو تعريض هويته للخطر، وإذا أخذنا بمفهوم (العقد الاجتماعي) وأسقطناه على علاقة الفرد بمجتمعه؛ فسنجد بأن انخراط الفرد في المجتمع قائم على التزامه بعقد ذي شروط من أهمها انصياعه للجماعة بما يستوجبه ذلك الانصياع من ذوبان العقل الفردي في العقل الجمعي، وعدم تجاوزه لحدود مسلماته وقبليَّاته، وهذا التأطير الجمعي لتفكير الفرد يمكن استشعاره منذ الصغر عند كل بادرة شك أو سؤال تصدر تجاه المسلمات؛ إذ تأتي ردة فعل المجتمع تجاه تلكم البوادر بالزجر والتحذير والتهديد.

 

يقول محمد العجمي في كتاب (أوراق الوعي) ص٣٦ “الصوت العالي للمجتمع وحضوره الطاغي عند الفرد يعطل مرشحات الأفكار لديه، ويوهمه بعدم الحاجة لتمحيص الأفكار ومناقشة الآراء والبحث في الأجوبة السائدة وإعادة النظر في المسلمات لتفحصها؛ إذ لا يخشى الإنسان أن يتنازل عن جزء من مسؤوليته الفردية بسبب الإحساس بالأمان الذي يحصل عليه باندماجه وانخراطه في المجتمع”.

ولتوضيح مدى تدخل المجتمع وسطوة التفكير السائد على عقل الفرد يلفت العجمي النظر إلى سطوة (المفاهيم) التي تفرزها ثقافة مجتمع ما، هذه السطوة التي تبلغ حد أن تشكل المفاهيم أطرًا لتفكير أفراد المجتمع لا يجوز الخروج عنها، فهي ثوابت لا يقبل العقل الجمعي أي نقد لها كمفاهيم لها ما يصادقها من الأمثلة، بل يعتبر ذلك إساءة و تعرَّضا لها. يقول العجمي ص ٣٩ “و ما أكثر المفاهيم العادية التي أصبحت آلهة يعبدها الناس من دون الله. إن المفاهيم عندما تصبح معصومة عن الخطأ وفوق النقد؛ فإن النتيجة هو الجمود والانغلاق وتجريم النقد وتحريم التجديد”.

إذن فالحرية المفقودة – التي أزعم من خلال هذا المقال أهميتها لأجل النهضة- هي حرية التفكير الفردي ومساءلة المسلمات، أو بمعنى آخر لنسمها “حرية الشك”.

 

أهمية التخلص من القيود الفكرية

قبل أن نناقش المساحة المتوفرة من حرية الفكر في بلادنا؛ يجب أولا أن ندرس أهمية هذا النوع من الحرية، ومدى تأثيره في مسيرة الحضارة ودوره في إيجاد عقليات حرة مبدعة ومنتجة وقادرة على احتلال مواقع صنع القرار لتوجيه سياسات التنمية في مسارها الصحيح. فعبر مسيرة التاريخ نجد عظماء الفلاسفة والأدباء والفنانين؛ بل وعلماء الطبيعة جميعهم قد تميزوا بخروجهم عن المألوف والسائد في التفكير، و لولا ذلك لما كان لإبداعهم أي معنى، وقد دفع بعضهم حياته ثمنًا لذلك ليس أولهم سقراط وليس آخرهم فرج فودة؛ بل نجد أن الأنبياء كذلك كانوا في مقدمة الداعين إلى مراجعة المسلمات وعدم الركون إلى اليقينيات والعادات الموروثة.

حين نتكلم عن التخلص من القيود الفكرية فعلينا أن نستحضر المعنى الإيجابي له، إذ ليس المقصود به هو هدم قيم المجتمع من أساسها والتقليل من أهمية المعارف التي توصل إليها السابقون أو التنكر لجهودهم التي شكلت جزءا من البناء الفكري المتراكم للجنس البشري، ولكن المقصود به هو مراجعة حصيلة المعارف العامة في ثقافة المجتمع التي يتم إملاؤها على أفراده، وتلقينهم إياها منذ الصغر، هذه المراجعة يجب أن تتم وفق أحدث وسائل الدراسة ومناهج النقد الفلسفي المعاصرة.

إن النقلة النوعية التي شهدتها مجتمعاتنا وانحسار أشكال المجتمعات القروية والقبلية القديمة لصالح مجتمعات مدنية حديثة أدى إلى ضعف قبضة المجتمع على أفكار أبنائه وقناعاتهم، وزادت نزعات الاستقلال الفكري لديهم، ولم يعد هنالك مفر من قبول التمايزات بين الأفراد في ميولهم واعتقاداتهم وثقافاتهم واهتماماتهم ومعارفهم، من هنا نجد أن حض الأفراد ودعوتهم إلى تكوين قناعاتهم بأنفسهم وحثهم على البحث عن الحقائق بتجرد، والدعوة إلى تحرير الفكر من قيود العقل الجمعي لا يقل أهمية عن محاربة الفساد و الظلم والاستبداد؛ بل جميعها تسعى إلى تحقيق مطلب واحد هو الإعلاء من قيمة الإنسان وتكريمه باعتباره كائنا حرًّا و مفكرًا.

 

هل يوجد عندنا محاكم تفتيش ؟

قد يقول قائل إنه لا يوجد لدينا قمع لمن أراد أن يتبنى التفكير الحر، وينتقد مسلمات العقل الجمعي، وإنه لا توجد لدينا محاكم تفتيش تعذب الناس وتضطهدهم بتهمة الهرطقة أو التعدي على المحرمات الفكرية، ولكن النظرة المتأملة العميقة والمنصفة وتحليل المعارك الفكرية والسجالات الثقافية على الساحة لدينا، كل ذلك يكشف عن مدى زيف هذه الدعوى؛ إذ يلاحظ دارس التاريخ والمتابع لتطور المجتمعات وكذلك المشارك العادي في السجالات الفكرية في الساحة، أن ممثلي العقلية السائدة للمجتمع وسدنة الهيكل الفكري المسيطر يلجأون دائما إلى تجييش عواطف الجماهير واستمالة مشاعرهم لكي يتخذوا موقفا معاديا ضد جميع الأصوات المنادية بضرورة مراجعة الاعتقادات وإعادة النظر في المسلمات، ولا حاجة للقارئ أن يعتصر ذاكرته ليستحضر محاضرة أو كتابا أو فتوى بل حتى منشورا أو اثنين يحذر أصحابها من انتقاد مسلمات العقل الجمعي ويشنعون على من يقدم على مثل هذا الفعل، و ليس مستغربا أن يكون الاتجاه العام في الوسط المحيط هو وضع التفكير الحر المنعتق من ربقة التقليد -أيا كان شكله- في موضع الاتهام، والاستنقاص والتخوين، ولو سمحنا لمخيلتنا أن تشطح بعيدًا لنتصور أمرًا أشبه باللامعقول مثل أن يجتمع المدرسون والإعلاميون وخطباء المنابر وعلماء الدين على الحض والدعوة إلى الإعلاء من شأن الفكر النقدي، والشك في المعارف التلقينية، فإن النتيجة التي أزعمها هي أن يصطبغ المجتمع جراء ذلك بصبغة الجرأة والشجاعة ويزيد استعداد الناس لحمل المسؤوليات إضافة إلى ترسيخ ما نفتقده من إيمان بالنسبية الثقافية والعقائدية بين البشر، وما يترتب على ذلك من إضعاف لقبضة التعصب الديني والمذهبي والعرقي والثقافي التي تمسك بقوة على خناق مجتمعاتنا.

 

الحرية الفكرية و الخطوط الحمراء

إن مصطلح “الحرية الفكرية” يتم شيطنته واتهامه غالبا بعد أن تعاد صياغته تحت تسميات أخرى مثل (التحرر الفكري- الغزو الفكري – الانقياد الفكري) ولنلاحظ مثلا أن لفظة “تحرر” في لغتنا العربية المعاصرة يتم تحميلها مضامين سلبية غالبا، وإذا ما تمت مناقشة الفكرة بهدوء وتروٍ؛ فإن التحفظ الأكبر من حرية التفكير يتعلق بالخوف من “النسببة الفكرية” أي أن تغدو القناعات نسبية بين الأفراد، وأن تسقط القاعدة الفكرية المشتركة التي تجمع ثقافة مجتمع ما، والخوف الأكبر ههنا هو أن يكون في ذلك تهديد للدين ولنمط التدين السائد؛ فهما القاعدة الأبرز لثقافة المجتمع لدينا.

ولكن تخوفا مثل هذا ليس في محله، وذلك لسبب بسيط جدًا، هو أن هذا التخوف مرادف للشك في فعالية الآلة الدعائية الكبيرة للتدين السائد، أو القول بتهافت حجج وبراهين ممثليه والقائمين عليه؛ إذ مما لا شك فيه أن صوت الدين التقليدي السائد ذو نبرة أعلى ويصل إلى أكثر -إن لم يكن لكل- أفراد المجتمع؛ لذلك فإن هذا الخوف من تغيّر أو تبدل النمط الديني السائد في المجتمتع بسبب الدعوة إلى النقد الفكري والشك المنهجي يتلاشى تلقائيا؛ خاصة وأن القائمين عليه يؤمنون بامتلاكهم للحجة الدامغة والحق الساطع، وأنهم ليسوا ممن يخافون على تداعي قواعدهم وأسسهم الاستدلالية.

 

‏خلاصة

لا يخفى على أحد أننا نعيش في عالم الفضاءات المفتوحة؛ إذ لم يعد هنالك قيد ولا رقابة ولا موانع تمنع من انتشار الأفكار المطروحة، وفي مثل هذا العالم تبقى اليد العليا للأفكار والكلمات ذات الحجة الأكبر والأكثر قدرة على الإقناع، أما الالتجاء إلى العواطف والتشكيك في النيّات والتحذير من النقد والتعرض للأشخاص، عوضًا عن الأفكار؛ فلن يتمكن من الصمود طويلا في مهمة حماية المعتقدات الهشة والضعيفة، متى ما أدركت مجتمعاتنا هذه الحقيقة وعملت بها فستنتج لدينا عقليات جديدة أكثر وعيا وإدراكا لمعاني مهمة للنهضة، كالحرية وضرورة التغيير وتحمل المسؤولية.

التاسع والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

الوليد الكندي