القضية الفلسطينية

ودورها في توجيه دفة العلاقات العربية بإسرائيل

 

بقلم: المؤرخ والبروفسور أڤراهام سيلع

أستاذ العلاقات الدولية بكلية العلوم الاجتماعية في الجامعة العبرية بالقدس، وكبير الباحثين في معهد هاري ترومان لبحوث تطوير السلام، والباحث المختص في تاريخ العلاقات العربية البينية والعلاقات الإسرائيلية العربية والدراسات الفلسطينية المعاصرة وشؤون المقاتلين الأجانب العابرين للحدود.

من أعماله السابقة:

رئيس اللجنة الأكاديمية بمعهد هاري ترومان لبحوث تطوير السلام.

ضابط وباحث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بين عامي 1970 و 1986.

عضو الوفد العسكري الإسرائيلي في مباحثات السلام مع مصر بين عامي 1978 و 1980.

عضو الوفد العسكري الإسرائيلي في المحادثات مع الجيش اللبناني بين عامي 1984 و 1985.

 

توطئة:

كثيرًا ما قرأنا وسمعنا أن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني هو “الوكيل الحصري” لجميع مشكلات الشرق الأوسط، فقد صار هذا النزاع منذ اشتعال فتيله شماعةً يُعلّق عليها الجميع أزمات المنطقة؛ بل حتى يُعلقون عليها الهجمات الإرهابية التي تهزّ الدول الغربية وتستهدف مصالحها في شتى بقاع العالم منذ عقود. ولا يفوتنا في هذا السياق تصريح وزير الخارجية الأمريكي السابق “جون كيري” في أكتوبر تشرين الأول 2014 حين قال: “إن النزاع المرير بين إسرائيل والفلسطينيين يُـهيّـج مشاعر العالم الإسلامي، ويدفع الشباب المسلم دفعا للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية لا سيما تنظيم الدولة الإسلامية”.

ولا شك أن هذه القضية تثير نقاشًا أيديولوجيًّا طويلًا ومحمومًا بين الفرقاء السياسيين المعنيين بهذا النزاع؛ بل إنها إحدى أهم نقاط الخلاف بين اليمين واليسار في إسرائيل. فهل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني حقًّا هو قطب رحى الصراع بين إسرائيل والعالمين العربي والإسلامي؟ أم أن العرب والمسلمين يتخذون من القضية الفلسطينية ذريعة لمواصلة الصراع مع إسرائيل ومحاولة القضاء عليها؟ أم هل يكمن يا ترى أساس المشكلة – كما لا يملُّ نتنياهو واليمين الإسرائيلي كلُّه أن يقولوا – في رفض الاعتراف بشرعية دولة إسرائيل، وكل ما خلا ذلك لا يعدو أن يكون مبررات واهية؟

مفهوم القضية الفلسطينية

إذا ما قصدنا إلى جوهر النقاش، فإن الجواب عن هذه التساؤلات وتفكيك ألغازها لهو أمر متعسر كل العُسرة إذا لم نلجأ إلى أحداث التاريخ؛ فهناك قدر من المصداقية التاريخية في الرأي الذي يعتنقه اليمين الإسرائيلي بأن العالم العربي بأغلبيته الكاسحة لا يعترف البتة بشرعية دولة إسرائيل، وأن الدول العربية حاربت إسرائيل حتى قبل أن تصبح القضية الفلسطينية شأنًا دوليًّا يقض مضاجع العالم بعد سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن الأنظمة العربية دأبت طوال سِنِــيِّ الصراع على استغلال القضية الفلسطينية وتسخيرها – بكل المعاني السلبية للكلمة – لخدمة مصالحها الذاتية الشخصانية. ولكن بين هذا الرأي وبين الرأي القائل إن القضية الفلسطينية ليست أكثر من ذريعة لاستمرار الصراع هناك بون شاسع ومسافة طويلة.

وحتى نقف على الحجم الحقيقي للقضية الفلسطينية في الوعي الرسمي العربي ينبغي ابتداءً أن نفكّك مفهوم مصطلح “القضية الفلسطينية” الذي يُلخِّص إلى حدّ كبير الرؤية العربية للنزاع بين الحركة الصهيونية وبين الشعب العربي الفلسطيني. فخلال فترة الانتداب البريطاني، كان مصطلح “القضية الفلسطينية” يعني تهديدا استعماريا وخطرًا وجوديا من طرف الحركة الصهيونية على مستقبل فلسطين بوصفها أرضا عربية وجزءًا لا يتجزأ مما يُسمى “الوطن العربي الكبير”. ومع أن الحركة الصهيونية ظلت في الوعي الجمعي العربي حركة استعمارية حتى بعد قيام دولة إسرائيل؛ إلا أن هذا المصطلح صار منذ ذلك الحين عَلَمًا على المظلمة التاريخية التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين في عام 1948، وكذا على ضرورة إيجاد حل لمشكلة اللاجئين الذين تشتتوا بين البلدان العربية. كما أصبح مصطلح “القضية الفلسطينية” في الوقت نفسه عنوانًا على التحدي الذي مثّلته دولة إسرائيل للعالم العربي بمجرد إعلان قيامها، ومرادِفًا للصراع بين العالم العربي وإسرائيل.

حجم القضية الفلسطينية في الوعي الرسمي العربي

بحسَب التسلسل التاريخي، كان الصراع في مبدأ أمره نزاعًا داخليا محصورًا بحدود فلسطين الانتدابية، وكان قاصرًا على جماعات المستوطنين اليهود الصهاينة والسكان العرب الأصليين. ومنذ بداية النزاع، عمِلَ عرب فلسطين جاهدين على حشد الدعم السياسي والمادي من الشعوب العربية والإسلامية، التي تجاوبت تدريجيًا بفعل عاطفة التضامن مع إخوانهم في فلسطين، وبدافع الحرص على عروبة البلد والغيْرة على دينه، لا سيما أنه يحوي مقدسات إسلامية كبرى. وفضلا عن مشاعر التضامن مع العرب الفلسطينيين، لعبت اعتبارات المصالح الذاتية دورًا محوريًّا في البعد العروبي الذي اصطبغ به النزاع، لا سيما منذ العقد الثالث من القرن العشرين الذي شهد تنامي الوعي الشعبي في الدول العربية بالنزاع اليهودي العربي في فلسطين، كما شهد احتداد المنافسة بين الفصائل والزعامات السياسية على الظفر بقلب الشارع العربي واقتناص وجدانه.

ولم يأخذ النزاع طابعًا إقليميا إلا بعد اندلاع ما عرفت لاحقًا بـ “ثورة فلسطين الكبرى” عام 1936، حيث بدأ قادة الدول العربية المجاورة يتدخلون في مجريات النزاع عبر الأدوات السياسية، ثم عبر الوسائل المادية. وقد تدخل القادة العرب في النزاع الصهيوني الفلسطيني أول الأمر بإيعاز واستدعاء من بريطانيا، التي كانت تريد استخدامهم ليتوسّطوا في إنهاء “الإضراب العام الكبير” عام 1936. وقد استمرت هذه السياسة البريطانية حتى بعد قمع الثورة، على ضوء تنامي الوعي الشعبي العربي والإسلامي بالنزاع الصهيوني الفلسطيني، وتحسُّبًا لأن يفضي تصاعد حدة النزاع إلى الإضرار بالمصالح الإمبريالية البريطانية في الشرق الأوسط، وكذا في مستعمرتها في شبه القارة الهندية بما تحويه من أعداد هائلة من المسلمين. وقد بلغ التدخل العربي في القضية الفلسطينية ذروته عندما قامت بعض الدول العربية – وفي مقدمتها مصر وسوريا – بإرسال قوات عسكرية لمحاربة دولة إسرائيل بعد سويعات من إعلان قيامها.

ومع أن قرار التدخل العسكري العربي قد اتُّخِذ بصيغة جماعية رسمية، إلا أن الاعتبارات الفردانِيَّة الأنَوِيَّة هي ما كانت تحرك قادة الدول العربية، الأمر الذي أدى إلى ضياع الجهود المشتركة وأفضى إلى هزيمة عربية فاضحة. وخلافا للرواية الرائجة لدى أكثر الإسرائيليين، لم تكن لدى أي من القادة العرب أدنى رغبة في خوض الحرب، فالحقيقة أن مَن شاركوا فيها وأرسلوا قوات عسكرية لم يُقْدِموا على ذلك إلا مُكرهين تحت وطأة ضغط الرأي العام وتحريض زعماء المعارضة من جميع الأطياف، على وقع النكبة التي حلّت بالعرب الفلسطينيين وخلفت عشرات الآلاف من اللاجئين الذين فرّوا من ديارهم ولجأوا إلى البلدان المجاورة خلال أشهر الحرب الداخلية بين الصهاينة اليهود والفلسطينيين العرب خلال الفترة من كانون الأول ديسمبر 1947 وحتى أيار مايو 1948. ومن ثمَّ فإن الأحداث التاريخية تثبت أن الصراع اليهودي العربي في “أرض إسرائيل” كما يسميها اليهود، أو “أرض فلسطين” كما هي عند العرب والمسلمين، هو ما جرّ العالم العربي الإسلامي جرًّا إلى أتون هذا الصراع، الذي اتَّخذ منذ ذلك الحين أبعادًا إقليمية ودولية صِرفة. فإذا كان القادة العرب قد استغلوا “القضية الفلسطينية” لتحقيق مآربهم الخاصة ولضمان بقائهم – وذرياتهم من بعدهم – في الحكم، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا وهم مدركون تمام الإدراك لمركزية تلك القضية في الوعي القومي العربي.

مركزية القضية الفلسطينية في توجيه الصراع الإسرائيلي العربي

إن الهزيمة العربية النكراء عام 1948، بالإضافة إلى ترسُّخ وجود دولة إسرائيل، وعدم التوصل إلى حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، هي عوامل تضافرت معًا وأدت إلى التعجيل من مسيرة الغُلُوّ السياسي وعدم الاستقرار الداخلي في الدول العربية، وهو ما أفضى لاحقًا إلى حدوث انقلابات عسكرية واغتيالات سياسية في عدد من العواصم العربية. وعلى خلفية تلك العوامل والمستجدات تنافس القادة العرب على الالتزام بحل القضية الفلسطينية باعتبارها ميزانًا عدلًا ومعيارًا حقًّا لقياس مدى الولاء لقيم القومية العربية. وقد عبّرت هذه المنافسة وما صاحبها من دعاية رسمية معادية لإسرائيل عن مدى وعي الأنظمة بما لعداء إسرائيل من قوة رمزية عاطفية تدغدغ مشاعر المجتمعات العربية، وهو العداء الذي عمل القادة العرب أنفسهم على إذكائه.

ولكن على الرغم من وجود انطباع قوي بأن الانغماس العربي في القضية الفلسطينية كان مفرطًا حتى عام 1967، إلا أن الحقائق تكشف أنه أبدًا لم يتجاوز حد البروباجندا الإعلامية الجوفاء، والمقاطعة العقيمة اقتصاديًّا وسياسيًّا، والدعم الهزيل لحروب العصابات التي كان يشنها الفلسطينيون على إسرائيل. لقد عكست هذه السياسة – القائمة في جوهرها على مجرد الخطاب الدعائي المفرط في العداء لإسرائيل – قدرًا قليلًا جدًّا من الاهتمام بمصير الفلسطينيين، بينما عكست قدرًا كبيرًا للغاية من محاولة تبرير الذات والتعبئة السياسية للشعوب العربية. أضف إلى ذلك أن العزف المستمر على وتر التعهّد بتدمير إسرائيل واستعادة حقوق الفلسطينيين بالقوة، كان أمرًا ضروريًّا للغاية لتخدير الشعوب لا سيما في ظل تقاعُس الأنظمة العربية عسكريًّا خلال العقدين الأوَّلين من قيام دولة إسرائيل.

إن عدم جاهزية الدول العربية، أو لنكن صرحاء ونقول إن عدم رغبة الأنظمة العربية في شن حرب استباقية على إسرائيل هو ما أدى إلى استئناف العمل الوطني الفلسطيني في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وأدى كذلك إلى ظهور عدد من التنظيمات العصابية التي ترأستها حركة فتح، والتي سعى قادتها إلى توريط الدول العربية في حرب مع إسرائيل على غير رغبةٍ من زعماء تلك الدول. وبالفعل كان العمل الفلسطيني المسلح خلال العامين السابقين على حرب حزيران يونيو 1967 عاملًا رئيسًا وإن لم يكن وحيدًا في التصعيد العسكري الذي شهدته الحدود الإسرائيلية السورية، والذي ازدادت وتيرته حتى اشتعل فتيل الحرب. إن الدعم السوري للهجمات الإرهابية الفلسطينية التي كان معظمها يتم عبر الحدود اللبنانية، قد أسدى خدمة عظيمة للمصالح الداخلية للنظام السوري ثم لمصالح جميع الأنظمة العربية الأخرى؛ حيث أكّد على مركزية القضية الفلسطينية في تحويل دفة السياسات الإقليمية العربية.

حقيقة التعاطي العربي الرسمي مع القضية الفلسطينية

إن بعض المحللين السياسيين والباحثين في قضايا الصراع الإسرائيلي العربي من منطلقات “قومية” غالبًا ما يشيرون إلى بعض الأحداث التاريخية من قبيل “تخوين الفلسطينيين” أو الصدامات المسلحة العنيفة بين الفلسطينيين وبين الأنظمة العربية لا سيما في الأردن ولبنان وسوريا، كدليل على أن القضية الفلسطينية ليست هي الشاغل الأكبر للدول العربية. لكن الاحتكاكات والمواجهات بين الفلسطينيين والدول العربية لا تعني في الوقت ذاته أن “القضية الفلسطينية” مجرد ورقة سياسية تتاجر بها الدول العربية.

إن العلاقات بين الفلسطينيين وبين الدول العربية تتخذ من قديمٍ طابعًا جدليًّا وتعُجُّ بالمفارقات العجيبة؛ إذ نراها تتقلَّب بين التضامن الأيديولوجي حينًا وبين الجفاء والتنكُّر الذي يصل إلى حد الاضطهاد والقمع أحيانًا أخرى. إنها تتأرجح دائمًا بين المصالح المادية الأنوِيَّة وبين عبء الهوية العربية الجامعة التي تُحتِّم على المنضوين تحت لوائها إظهار التآزُر والتكافُل وإبداء القوة والصمود، وخاصة في وجه المخاطر والتهديدات التي يُشكّلها كيان أجنبي دخيل على المنطقة العربية كما هي إسرائيل في عيون العرب. إن هذه المفارقات تخلق ضبابية حقيقية في فهم آليات تعاطي العالم العربي مع النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. ولكن نظرة فاحصة في آليات هذا التعاطي كانت كفيلة أن تصل بالعديد من المؤرخين الذين درسوا هذه العلاقات بعمق ورويّة إلى استنتاج مفاده أن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال عاملًا رئيسًا حتى وإن لم يكن الأهم في إنشاء الجامعة العربية وبقائها إلى الآن إطار عمل إقليمي جامع للدول العربية، وكذلك في بلورة مضامين فلسفة القومية العربية.

الالتزام بالقضية الفلسطينية بين الأقوال والأفعال

منذ مرحلة الانتداب البريطاني، أخذت الفجوة تتسع بين الخطاب الذي سوّقه القادة العرب حول الالتزام الأيديولوجي بالقضية الفلسطينية والوفاء لها وبين تطبيق ذلك الخطاب على أرض الواقع. فعلى الرغم من أن الأنظمة العربية حاولت مرارًا العودة للمقامرة بورقة القضية الفلسطينية واستثمارها لخدمة مآربها الأنويّة، إلا أنه بعد نكسة حزيران يونيو 1967 – عندما أصبح للفلسطينيين قدرات عسكرية خاصة بهم ونالوا زخمًا شعبيًّا جارفًا في جميع أنحاء العالم العربي – قامت بعض الفصائل الفلسطينية بعدد من الخطوات التي استفزت حكومات كلّ من الأردن ولبنان وسوريا، فتعاملت هذه الحكومات مع الفلسطينيين الموجودين على أراضيها تمامًا كما لو كانوا كيانًا يهدد سيادة الدولة. وكان هذا هو السبب الذي جعل معظم الأنظمة العربية تقف إلى جانب إسرائيل عام 1982 وتدعمها في مطلب طرد الفصائل الفلسطينية بجميع قياداتها وقواتها العسكرية من لبنان.

لكن التأييد الرسمي العربي لإنهاء الوجود الفصائلي الفلسطيني في لبنان لم يؤثر على رغبة الأنظمة العربية في إيجاد حل للقضية الفلسطينية حتى وإن كان حلًا جزئيًّا. وقد تجلى ذلك في أول مبادرة سلام تبنّاها مؤتمر القمة العربية الذي انعقد بمدينة فاس المغربية في أيلول سبتمبر 1982. والحق أن بنود تلك المبادرة هي نفسها الخطوط العريضة لقرار مجلس الأمن رقم 242 الذي طالب إسرائيل بالانسحاب إلى حدود عام 1967، إضافةً إلى التأكيد على حق الفلسطينيين في تقرير المصير في وطنهم الذي هو الضفة الغربية وقطاع غزة، على أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية الجهة المسؤولة عن ذلك.

اتفاقية أوسلو … العلامة الفارقة

إن أوضح دليل على أن القضية الفلسطينية هي قطب الرحى في الصراع الإسرائيلي العربي والمتحكمة في توجيه بوصلته، قد تجلى في أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل والقيادة الرسمية الفلسطينية برئاسة “ياسر عرفات”. لقد أحدثت تلك الاتفاقية شروخا عميقة في نفوس أعتى القوْمجـيّين العرب ونزلت عليهم نزول الصاعقة، وفي مقدمتهم القومجيين الفلسطينيين الذين درجوا على مهاجمة “عرفات” قبل توقيع الاتفاقية، ثمّ انتقدوه على بنود الاتفاقية ومضامينها. وبينما فرضت جميع الدول العربية تقريبا حصارًا سياسيًّا واقتصاديًّا على مصر عقابًا لها على خروجها عن الإجماع العربي وإبرامها اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل، لم تجرؤ الجامعة العربية أو أي نظام يرفع شعار العداء لإسرائيل أو يتاجر به على منازعة منظمة التحرير الفلسطينية في أحقيتها المطلقة توقيع اتفاقية مع إسرائيل، مع كونها هي الأخرى وقعت الاتفاقية بشكل منفرد. الأهم من ذلك أن الدول العربية لا سيما تلك البعيدة جغرافيا عن إسرائيل قد اتخذت من إقدام الفلسطينيين الذين هم “أصحاب القضية وأهلها” على توقيع اتفاقية مع إسرائيل ذريعةً لتتحلل من أعباء المسؤولية عن مصير الفلسطينيين.

ولم يكن مفاجئًا كثيرا أنْ تهرول الأردن غداة توقيع اتفاقية أوسلو إلى الدخول في مفاوضات مع إسرائيل؛ نظرًا إلى تشابُك العلاقات بين النظام الهاشمي والفلسطينيين في الأردن والضفة الغربية. لكن المفاجئ حقًّا كان مُسارعة كل من المغرب وتونس وموريتانيا وعُمان وقطر – وهي دول كانت نقطة خلافها الوحيدة مع إسرائيل هي القضية الفلسطينية – إلى الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها.  أضف إلى ذلك أن العديد من الدول العربية، بما فيها الدول التي لم تقم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، قد شاركت في المفاوضات متعددة الأطراف التي جرت بين عامي 1994 و 1996 وتناولت ملفات التعاون الإقليمي. بل أزيدك من الشعر بيتًا وأقول لك إن الجامعة العربية بشحمها ولحمها ألغت رسميًّا الدرجتين الثانية والثالثة من المقاطعة التي فرضتها على إسرائيل بخصوص حظر العلاقات غير المباشرة، ولم تبق إلا على المقاطعة من الدرجة الأولى التي تحظر إقامة علاقات اقتصادية مباشرة بين الدول العربية وإسرائيل، بل حتى هذه الدرجة من المقاطعة أصبحت حاليا محدودة للغاية، فكان ذلك كله كفيلا بالكشف عن مركزية القضية الفلسطينية في ضبط وجهة علاقات تلك الدول بإسرائيل.

إن الأنظمة العربية التي أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في عهد حكومات كلٍّ من “إسحق رابين” و”شمعون بيريس” قد تصرفت كما لو أن اتفاقية أوسلو أزاحت عن كاهلها عبئا ثقيلا لم تحمله جراء صراع مباشر مع إسرائيل، وإنما حملته رضوخًا للرأي العام الداخلي وإذعانًا لضغوط أنظمة عربية أخرى رفعت شعار العمل الموحّد لا لشيء إلا لخدمة مصالحها الأنوية الضيقة. وقد استمرت هذه الضغوط في السنوات التي شهدت تقدمًا في تنفيذ بنود اتفاقية أوسلو، حتى أن التيارات القومجية صارت تخشى من ضياع الهوية العربية الجامعة في ظل غياب المكون الفلسطيني الذي لعب دورا أصيلا في بلورة فكرة القومية العروبية.

ولكن كما كانت اتفاقية أوسلو هي الصخرة التي تحطمت عليها سفينة المقاطعة العربية والساحل الذي انطلقت منه سفينة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، كان انهيار عملية السلام واندلاع انتفاضة الأقصى عاملا حاسمًا في قرار تلك الأنظمة قطع علاقاتها مع إسرائيل، بعضها فور اندلاع الانتفاضة والبعض الآخر بعد بضع سنوات. وفي هذه المرة أيضا، كان السبب هو ردة الفعل الشعبية العنيفة على سقوط مئات الشباب الفلسطينيين لا سيما خلال الأسابيع الأولى من الانتفاضة، خاصة وأن تلك الأنظمة لم تكن لديها مع إسرائيل مصالح أمنية حقيقية تحجزها عن فعل ذلك. بل إن مصر والأردن – اللتين رأتا أنهما مقيدتان باتفاقيتي السلام الموقعتين بينهما وبين إسرائيل، احترامًا للولايات المتحدة الراعية لتلك الاتفاقيات – قد سحبتا سفيريهما لدى إسرائيل لفترة طويلة، تهدئةً للشعوب وذرًّا للرماد في عيون المعارضة التي طالبت بقطع كامل العلاقات مع إسرائيل.

خاتمة

غالبًا ما يلجأ كثير من الساسة والباحثين إلى استخدام الصراع العربي الإسرائيلي شماعة يعلقون عليها أغلب أزمات المنطقة، بدءًا من غياب التنمية الاقتصادية في العالم العربي، ومرورًا بالحروب الطويلة التي خاضها العرب مع إسرائيل، وانتهاءً بالإرهاب الدولي وتقاطُر الشباب المسلم وتسابُـقه على الالتحاق بفروع الحركات الجهادية كالقاعدة وتنظيم الدولة؛ لذلك ينبغي عدم التسليم بصحة الرأي الذي يُحيل أية ظاهرة سلبية في الشرق الأوسط وغيره إلى الصراع الإسرائيلي العربي أو النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.

وبالمثل فإن إنكار مركزية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني يعزز موقف أولئك الذين لا يرغبون في إحراز أية تسوية تُلزم إسرائيل بالتنازل ولو عن قليل من الأراضي المحتلة للفلسطينيين. إن هذا الإنكار لا يُسهم ولو بمقدار ذرة في تغييب الحقيقة التاريخية الساطعة وهي أن جوهر الصراع الإقليمي هو النزاع الداخلي الإسرائيلي الفلسطيني الذي تدور رحاه داخل حدود أرض فلسطين الانتدابية. إن استمرار هذا النزاع الداخلي يحجز بعض الأنظمة العربية والإسلامية التي لا زالت تتحرج من شعوبها عن إقامة علاقات سلام معلنة مع إسرائيل.

وختامًا فإن صعود أنظمة وقيادات عربية تسعى في مرضاة إسرائيل وتتزلف إليها وتحرص على إقامة علاقات معلنة معها وتتبنى من أجل ذلك “صفقة القرن” وتدفع باتجاه تمريرها وتعمل حثيثا على إنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني لوضع حد للصراع الإسرائيلي العربي، لهو خير دليل على إثبات دور القضية الفلسطينية في توجيه دفة العلاقات العربية بإسرائيل.

التاسع والتسعون سياسة

عن الكاتب

إبراهيم سعد عبد العزيز