في حِـمَـى الجَدّ

مظاهر تمرد أحفاد الخميني

 

بقلم: د/ ليئورا هندلمان بعفور

باحثة أولى في مركز أليانس للدراسات الإيرانية بجامعة تل أبيب، ومدرسة بقسم تاريخ الشرق الأوسط في الجامعة ذاتها.

 

توطئة:

بعد بضعة أشهر من الآن، وتحديدا في شباط فبراير القادم 2019، تحتفل جمهورية إيران الإسلامية باكتمال عقدها الرابع منذ تزعَّم آية الله “روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي الخميني” ملايين الإيرانيين في ثورة مشهودة أطاحت بالنظام الملكي للشاه “محمد رضا بهلوي”. ومن مفارقات الأقدار أنّ بعض أفراد الجيل الثاني والثالث لعائلة الأب الروحي للثورة هم مِن بين الذين تعالت أصواتهم خلال العقدين الأخيرين برفض الواقع الحالي الذي أفضى إليه ذلك التحول التاريخي الضخم في إيران. فمن بين أحفاد “الخميني” الخمسة عشر الذين ورثوا حميّة الثورة ورضعوا من دسم لبنها كابرًا عن كابر، هناك من لا يحجمون أو يجمجمون عن إبداء احتجاجاتهم اللاذعة في نقد أسلوب النظام في التشريع وصناعة القرار، كما عبّر بعضهم الآخر عن انتقاده لسيْر الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2013، وأبدى بعضهم دعمه الكامل لزعماء المعارضة الإصلاحية الذين يتناوبون الخضوع للإقامة الجبرية منذ الاحتجاجات العارمة التي أعقبت عملية التزوير الواسعة التي اعترت الانتخابات الرئاسية عام 2009. وخلال السنوات القليلة الفارطة، قوبلت طلبات ترشح بعض أحفاد “الخميني” للانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الخبراء بالرفض المطلق، وقد دعا أحدهم إلى إعادة النظر في منظومة الحكم الحالية.

إن المواقف التي يتخذها أحفاد “الخميني” وكذا التصريحات الصادرة عنهم تحظيان باهتمام ومتابعة استثنائيَّيْن، ليس فقط لكونهما تمثّلان تمظهُـرًا آخر من تمظهُرات الصراع الداخلي الذي تأججت ناره واستعر أُواره بين الجناحين الكلاسيكييْن داخل النظام السياسي الإيراني – الجناح الإصلاحي المعتدل وخصيمه الراديكالي المحافظ – حول مستقبل الجمهورية الإسلامية، بل لأنها تكشف عن حجم العوار الذي أصاب مسار الثورة الإسلامية، الذي تجلّى في حالة السخط العارم الذي تسرّب إلى أشدّ العائلات ولاءً للنظام ووفاءً للثورة.

مقدمة:

قبل نحو 90 عامًا جمعت عروة الزواج الوثقى بين السيد “روح الله الخميني” والسيدة “خديجة محمد ثقفي” (1913 – 2009) التي لُقبت لاحقًا بسيدة الثورة الإسلامية، وقد أثمرت تلك الزيجة إنجاب ثمانية أبناء هم:

  • مصطفى.
  • علي، وقد توفي في سن الرابعة.
  • صديقة مصطفوي، عقيلة آية الله إشراقي.
  • فريدة مصطفوي، عقيلة السيد الأعرابي.
  • زهراء مصطفوي، عقيلة الدكتور البروجردي.
  • سعيدة، وقد عاجلتها المنية في عامها الأول.
  • أحمد.
  • لطيفة، وقد وافتها المنية في طفولتها.

وسنستعرض في هذه الدراسة الموجزة مظاهر تمرد أفراد عائلة “الخميني” من خلال تقسيمهم إلى قسمين حسب نوع التعليم الذي تلقّوْه، سواء كان تعليمًا مدنيًّا دنيويًّا أو تعليمًا شرعيًّا دينيًّا؛ حتى نقف على حقيقة موقف الأحفاد مما آلت إليه ثورة جدهم والنظام الذي أسسه بنفسه، وما إذا كان للخلفية التعليمية دور في تشكيل ملامح ذلك الموقف.

 

تمرد ذوي المؤهلات المدنية

دعونا نستهل حديثنا بابنة الإمام “الخميني” السيدة “زهراء مصطفوي” الحاصلة على درجة الدكتوراه في الفلسفة والعقيدة، ورئيسة جمعية المرأة في الجمهورية الإسلامية، وهي الجمعية التي تقوم بأنشطة بارزة في مجال تعزيز مشاركة المرأة في الحياة السياسية. لقد تصدّرت “مصطفوي” عناوين الصحافة ووسائل الإعلام في السنوات الأخيرة، بعدما وجّهت في أيار مايو من العام 2013 رسالة استثنائية مفتوحة إلى المرشد الأعلى السيد “علي خامنئي”، تناشده فيها بإلغاء قرار “مجلس صيانة الدستور” بشطب اسم الرئيس السابق “علي أكبر هاشمي بهرماني رفسنجاني” من سباق الترشح للرئاسة. وقالت “مصطفوي” في رسالتها: “إن قرار رفض ترشح “رفسنجاني” يخالف الإرادة الشعبية كلّ المخالفة، ويؤدي للوقيعة بين “خامنئي” و”رفسنجاني” اللذين يُعدّان من كبار حواريّــي الإمام “الخميني”، وينال من طهارة الثورة وسمعة النظام، ويُفضي إلى تسلل الديكتاتورية إلى الحياة السياسية الإيرانية”. وعلى الرغم من أن رسالة “مصطفوي” لم تغيّر شيئًا من قرار استبعاد ترشيح “رفسنجاني”، الذي لم يطعن على القرار وفضّل عِوضًا عن ذلك أن يدعم ترشيح “حسن روحاني”، لكنّ الأمر الأكيد هو أن تلك الرسالة قد دقَّت أمام “خامنئي” ناقوس خطر يُذكّره بمسؤولياته تجاه الثورة والنظام، ويضعه أمام واجباته حيال أصهاره، ويُحذّره كذلك من اتساع الشرخ بين العائلات الحاكمة للجمهورية الإسلامية. وفيما يلي مخطط بياني يوضح وشائج المصاهرة بين أبرز العائلات التي حكمت الجمهورية الإسلامية منذ نشأتها.

أما السيدة “زهراء إشراقي” – ابنة السيدة “صديقة مصطفوي الخميني”، وزوجة الإصلاحي البارز “محمد رضا خاتمي” نائب رئيس البرلمان بين عامي 2000 و2004، والناشطة الحقوقية التي شغلت مناصب عديدة في عهد صهرها الرئيس الإصلاحي الأسبق “محمد خاتمي”، من بينها منصب نائب رئيس قسم الشباب في وزارة الداخلية – فقد تفوّقت على خالتها “زهراء مصطفوي” في نقد النظام. فمنذ مطلع الألفية الجديدة وهي تهاجم بشراسة سياسة التمييز التي ينتهجها النظام بحق المرأة، كما تحتفظ لها الذاكرة الشعبية الإيرانية بعددٍ من التصريحات المناهضة لفرض الحجاب قسرًا على النساء والفتيات في الجمهورية الإسلامية التي فقدت – على حدّ تعبيرها – روحها الثورية. ويبدو أن تصريحات من هذا القبيل كانت السبب في عدم قبول أوراق ترشحها للانتخابات البرلمانية عام 2004.

وفي عام 2006 أعلنت “زهراء إشراقي” خلال مقابلاتها مع بعض وسائل الإعلام أنها معتادة على إنشاء مدونات إلكترونية والكتابة فيها بأسماء مستعارة. وفي العام نفسه انضمت إلى جماهير الموقعين على العريضة المسمّاة “مليون توقيع من أجل المساواة”، وهي مبادرة شعبية كانت تسعى إلى تعبئة الرأي العام الإيراني من أجل إنهاء التمييز ضد المرأة في القانون والدستور. وفي أعقاب المظاهرات التي عمّت الشارع الإيراني احتجاجًا على تزوير الانتخابات الرئاسية عام 2009، كتبت “زهراء” على صفحتها الشخصية في منصة “فيس بوك” أنه: “إنْ كان السيد “مير حسين موسوي” وأنصاره والسيد “مهدي كروبي” وأنصاره – الذين أشرُف لكوني واحدة منهم – من أعداء الثورة، لكان أحرى أن يكون جدّي الإمام “الخميني” هو العدو الأول للثورة”.

أما مهندسة البتروكيماويات “نعيمة إشراقي” فهي – تمامًا كشقيقتها “زهراء” – لا تتوجس من إبداء دعمها لمبادرات تحرير المرأة الإيرانية لا سيما في قضايا اللباس. وعلى غرار صنيع خالتها “زهراء مصطفوي”، شنت “نعيمة” في العام 2013 انتقادات علنية ضد استبعاد “رفسنجاني” من السباق الرئاسي. وخلال السنوات القليلة الفارطة خرجت “نعيمة” بعدد من التصريحات المناهضة للرقابة الصارمة التي تفرضها الدولة على الفضاء الإلكتروني والمنصات الاجتماعية، وتصريحات أخرى تدعو إلى التقارب بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة باعتباره سيكون مُربِحًا للطرفين.

وتُعد “نعيمة” هي أكثر أحفاد “الخميني” نشاطًا وتفاعلًا على وسائط التواصل الاجتماعي، لكن نشاطها تراجع منذ أيلول سبتمبر 2013 حين تعرضت لانتقادات لاذعة ومعاتبات شديدة من قبل متابعيها على المنصات الاجتماعية بعدما نشرت صورة لابنتها وهي تتسلّم جائزة من إحدى الجامعات الكنديّة، وتبيّن أنها قامت – بنفسها أو بفعل أحد من طرفها – بإجراء تعديلات جرافيكية على الصورة؛ حتى يبدو مظهر الفتاة أكثر تماشيا مع معايير حشمة لباس المرأة الإيرانية.

أما المهندس المدني “علي إشراقي” – الشقيق الأصغر لـ “نعمية” و”زهراء” – فقد حاول هو الآخر أن يشقّ طريقه نحو السياسة، لكنه لم يحقق نجاحا يُذكر. ولم يتردد “علي” في كثير من المناسبات أن يعبّر عن احتجاجه على انحراف المحافظين عن مسار الثورة الذي اختطَّه جدّه. وعلى الأرجح إن مثل تلك التصريحات، بالإضافة إلى نمط حياته العلماني، كانت ضمن الاعتبارات التي اتّخذ بموجبها أعضاء “مجلس صيانة الدستور” قرار استبعاد “علي” كممثل للمعسكر الإصلاحي في الانتخابات البرلمانية لعام 2008.

تمرد ذوي المؤهلات الدينية

من بين أحفاد “الخميني” هناك أربعة رجال دين يحملون درجات علمية متوسطة، أبرزهم هو “حسن الخميني”، الذي يُعدّ أكثرهم وفاءً لإرث جدّه. و”حسن” هذا هو نجل “أحمد الخميني” (1946 – 1995)، ثاني اثنين هما أبناء “آية الله الخميني” الذكور الذين أفلتوا من براثن الموت صغارا. فبعد وفاة شقيقه الأكبر “مصطفى” في ظروف غامضة في العراق عام 1977 حينما كانت الأسرة لا تزال في المنفى، أصبح “أحمد” هو الساعد الأيمن لوالده وظل يمثّل شخصية محورية في الأسرة حتى بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية وتولي “الخميني” منصب الزعيم الروحيّ الأعلى. وفي عام 1993 عُـيِّن “حسن” سادِنًا لمرقد جده الإمام “الخميني” في مدينة قم، كما تولى إدارة الهيئة المكلّفة بحفظ تراث زعيم الثورة ونشره والاحتفاظ بوثائقه وأُخطوطاته الأصلية. وقد ظلّ “حسن” مُحتجبًا عن الأضواء حتى تشرين الثاني نوفمبر 2002، عندما شارك في مظاهرة طلابية ضمّت قرابة ألف شاب خرجوا احتجاجا على حكم الإعدام بتهمة الردة الصادر بحق المؤرخ والأكاديمي المرموق “هاشم آقاجري”، وهو بطل قومي فقد شقيقه وخسر ساقه اليمنى خلال الحرب الإيرانية العراقية. وقد استند حكم إدانة “آقاجري” إلى دعوته آنذاك إلى الإصلاح و”البروتستانتية الإسلامية”، وتوجيهه انتقادات حادة لكثير من سلوكيات النظام الإيراني، التي تخالف – حسب قوله – المبادئ الإسلامية الأصيلة.

وقد تصدّر اسم “حسن الخميني” عناوين الأخبار مرة أخرى عام 2008، عندما انتقد انغماس القوات الأمنية والحرس الثوري في السياسة خلال العُهدة الأولى من حكم الرئيس السابق “محمود أحمدي نجاد”. كما أصبح منذ ذلك الحين محسوبًا على المعسكر الإصلاحي، وأيّد ترشيح الزعيم المعارض “مير حسين موسوي” في الانتخابات الرئاسية لعام 2009. وقد عُـدَّ غيابه الـمُتعمّد عن المراسم الاحتفالية التي أقيمت في الديوان الرئاسي على شرف تسليم “نجاد” مهام عُهدته الرئاسية الثانية مؤشرًا رمزيًّا لاحتجاجه على تزوير نتائج الانتخابات.

وفي حزيران يونيو 2010، وخلال مراسم الذكرى السنوية الحادية والعشرين لوفاة جده، اضطُرّ “حسن الخميني” إلى التوقف والانسحاب في منتصف كلمته بعدما تعالت أصوات نشطاء مؤيدين للنظام بشعارات مناهضة للمعارضة الإصلاحية، تضمّنت هتافات تنادي بموت “موسوي” وتأييد “خامنئي”؛ فكانت تلك هي المرة الأولى التي يتعرض فيها أحد أفراد عائلة “الخميني” لإهانة قاسية على الملأ. وفي أعقاب تلك الواقعة، نشرت صحيفة “Javanan online” المحافِظة أن “حسن الخميني” قام – ردّا على التشويش الصاخب الذي أجبره على عدم إكمال كلمته – بلكم وجه وزير الداخلية “محمد مصطفى نجار”، الذي تبيّن لاحقا أنه خضع للعلاج بسبب إصابة أنفه. ولم تتأخر صفحة “حسن” على منصة “فيس بوك” في نشر تكذيبٍ لوقوع اعتداء جسدي على الهيئة المذكورة، كما سارع أنصار “حسن” إلى القول بأن الرجل يتعرض لحملة تشهير ممنهجة تهدف إلى تقويض طموحاته السياسية. وفي الـ 22 من نيسان أبريل 2015، أصدرت جماعة “أنصار حزب ‌الله” الإيرانية المتطرفة بيانًا تحذيريًّا تتوعد فيه “حسن” باستقبال عدائي وعنيف إذا ما قرر المجيء إلى محافظة “گلستان” ليخطب في الناس عن ضرورة اختيار الإصلاحيين في الانتخابات البرلمانية التي جرت في شباط فبراير 2016. ولكن الجماعة نفسها نشرت بعد ذلك بوقت قصير خطابًا تنفي فيه علاقتها بإصدار البيان المذكور. ومع ما تعرض له من تهديدات وما وجهه له بعض رجال الدين المحافظين من تحذيرات زعموا فيها أنه يجري استغلاله من قِبل المتآمرين (في إشارة إلى رفسنجاني) لخدمة الأجانب (في إشارة إلى الغرب)؛ إلا أن “حسن الخميني” تقدّم في الـ 18 من كانون الأول ديسمبر 2015 بأوراق ترشحه لانتخابات مجلس خبراء القيادة التي جرت في نهاية شباط فبراير 2016، ومجلس الخبراء هو هيئة تتألف من نحو 80 عضوًا، وهي مسؤولة عن انتخاب الزعيم الروحي الأعلى ومراقبة عمله.  وقد أعلن مجلس صيانة الدستور في نهاية كانون الثاني يناير 2016 رفضه لترشح “الخميني” الحفيد بدعوى عدم أهليته الدينية، ثم رفض المجلس في 10 شباط فبراير 2016 الطعن الذي قدمه “حسن” على قرار استبعاده.

إن دعم عائلة “الخميني” لزعماء المعارضة الإصلاحية يمكن الوقوف عليه أيضًا من خلال تتبُّع النشاط الإلكتروني لـ “أحمد” بن “حسن الخميني”، البالغ من العمر 18 عامًا. ويقوم نحو 200 ألف شخص بمتابعة ما ينشره على حسابه الشخصي في منصة “انستجرام”، الذي يغصّ بالصور العائلية واللقاءات الاجتماعية القديمة والحديثة بصُحبة شخصيات كبيرة مثل “خاتمي” و”موسوي”، كما يمتلئ الحساب بشعارات التأييد للرئيس “روحاني” ووزير الخارجية “ظريف”. ويعتقد كثير من المراقبين أن أنشطة “أحمد” تُعِين والده على توسيع دائرة مؤيديه بين أوساط الشباب في إيران.

أمّا “ياسر الخميني” شقيق “حسن”، فأعلن في انتخابات الرئاسة عام 2009 عن تأييده لترشيح “كروبي”، الذي سبق أن تولى رئاسة البرلمان من عام 1989 إلى 1992، ثم من عام 2000 إلى 2004، كما خاض سباق الانتخابات الرئاسية في عام 2005 ثم في عام 2009، ويُصنّف على أنه أحد زعماء معسكر المعارضة الإصلاحية. وفي أيلول سبتمبر 2010 استنكر “ياسر” بشدة ما قام به أنصار المعسكر الراديكالي من هجوم وحشي على العمارة التي يسكن فيها “كروبي” وإتلافها، حيث حطّموا بوابتها وقطعوا المياه عنها وكتبوا على جدرانها عبارات السباب واعتدوا على حراسه الشخصيين.

أما “علي الخميني” شقيق “حسن” و”ياسر”، فقد حظي بشهرة واسعة منذ أن كان صغيرًا؛ إذ تحوّلت الصورة الرائجة التي يُقـبِّل فيها وجنة جدّه إلى أيقونة للعلاقة الحميمية والحنونة بين زعيم الثورة وأفراد عائلته. وعندما بلغ حفيد “الخميني” أشدّه تزوج من حفيدة رجل الدين الشيعي العراقي الأكبر “علي السيستاني”. وقبل انتخابات 2009، خرج “علي الخميني” في عدّة جولات جاب فيها مختلف أنحاء إيران، داعيًا الجماهير إلى التصويت لصالح “موسوي”. وبينما يُؤثر عنه قولُـهُ: “كلما تنكّبتم عن تراث جدي كلما تآكلت شرعية النظام”، نجد في المقابل أن بعض رجال الدين من المعسكر الراديكالي يرمُونه هو وقادة المعسكر الإصلاحي بالانحراف عن مسار الثورة وخيانة الأمانة التي عاش من أجلها الإمام “الخميني” واستودعها أهلَهُ وشعبَهُ عند موته.

أما أكبر أحفاد الخميني سنًّا وألدّهم خصومة مع النظام فهو “حسين بن مصطفى الخميني”، الذي زُجَّ به في السجن عام 1981 بسبب ما نُسب إليه من تصريح بأن “النظام الإسلامي الوليد أسوأ من حُكم الشاه، بل أسوأ حتى من المغول الذين غزوْا إيران في القرن الثالث عشر”. وفي عام 2003، وخلال مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، دعا “حسين” إلى إعادة النظر في نظام الحكم؛ لأن مؤيدي ثورة 1979 باتوا أقلية في إيران. وبعد سقوط نظام “صدام حسين” عام 2003 رحل “حسين” إلى مدينة كربلاء وصرّح مرارًا أن “الحرية مُقدَّمَة على الخبز”، وفي العام نفسه قام بزيارة قصيرة إلى واشنطن عقد خلالها اجتماعًا غريبًا ومثيرًا للجدل مع نجل الشاه المنفي بشحمه ولحمه. وفي مقابلة أخرى أجراها في كانون الثاني يناير 2009 مع هيئة (BBC) الناطقة بالفارسية، سأله المحاور عما إذا كان النظام الحالي الذي يحكم إيران يُجسد أحلام جدّه، فردّ قائلا: “إن مَن يعانون من اضطرابات نفسية هم فقط من يعنيهم شيء كهذا؛ إذ ليس أحد سواهم يريد نظاما ينتهك حقوق الشعب باسم الإسلام”. وقد سُمح لـ “حسين” بالعودة إلى إيران بفضل تدخل جدّته “أُمّ الثورة” “خديجة ثقفي”، التي أظلّته في كنفها حتى وفاتها في آذار مارس 2009. ومنذ عودة “حسين” إلى إيران، وهو يخضع لمراقبة لصيقة من جانب السلطات وممنوع من إجراء مقابلات صحفية مع وسائل الإعلام الأجنبية.

خلاصة:

بعد هذا العرض الموجز تبيّن أن جميع أحفاد “الخميني” ممن لهم ظهور إعلامي أو نشاط مجتمعي يعارضون الاتجاه الراديكالي السائد في النظام الإيراني لسبب أو لآخر ويؤيدون المعارضة الإصلاحية، كما تبين على غير المتوقع أن ذوي المؤهلات الدينية منهم أشد سخطا على النظام من ذوي المؤهلات المدنية.

ولكن حذارِ أن ننخدع بمظاهر السخط التي تتجلى في المواقف والتصريحات النقدية العلنية المنسوبة إلى أفراد عائلة “الخميني” ونظن أنهم يعارضون النظام في كل كبيرة وصغيرة، بل علينا أن نعلم أنهم يدعمون سياسات النظام في كثير من الملفات الأخرى. فها هي “زهراء مصطفوي” المعروفة بتديُّـنها الشديد تؤيد النظام بشكل مطلق – خلافا لابنتيْ أختها – في فرض الحجاب على المرأة الإيرانية. وفي إطار عملها كرئيس لجمعية الدفاع عن الشعب الفلسطيني في إيران، صرّحت “مصطفوي” في أيار مايو 2002 أنه “إذا كان الإمام الخميني قد شدّد على ضرورة استئصال الورم السرطاني المسمّى إسرائيل وحتمية القضاء عليه، فذلك لأن الاعتراف بإسرائيل يعني اشتعال توترات لا تنتهي في الشرق الأوسط”. وفي الـ 18 من كانون الثاني يناير 2015، زعمت “مصطفوي” – خلال المؤتمر الدولي الخامس لنصرة غزة الذي عُقد في طهران – أن روح الثورة الإسلامية أحدثت تحوّلا هائلا في المستجدات الإقليمية وخاصة في فلسطين، وأن غزة والجنوب اللبناني هما الجبهة التي تتصدى لجرائم النظام الصهيوني. وعلى مر السنين أعرب معظم أفراد عائلة “الخميني” عن تأييدهم لأنشطة حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة ونظام الأسد في سوريا، وأن على النظام الإيراني أن يقف إلى جانب حلفائه في وجه قوى الاستكبار العالمي مهما كان الثمن.

خاتمة:

يبدو أن قيادة الجمهورية الإسلامية بزعامة “خامنئي” قد أظهرت حتى الآن قدرا كبيرا من الحِلم ورحابة الصدر تجاه مظاهر التمرد المتكررة التي تصدر عن أفراد عائلة “الخميني”. والحقّ أنهم يتمتعون بحصانة فريدة ومنقطعة النظير بـحُكم ما تُكـنّه القيادة الإيرانية من إجلال بالغ وراسخ لروح زعيم الثورة الإسلامية، كما أنّ أواصر المصاهرة التي تربط بين النخبة الدينية في الجمهورية الإسلامية تحمي هذه الحصانة بشكل كبير. ومع ذلك فإن تلك الحصانة ليست أبديّة أو مطلقة، فقد اعترتها بعض التصدعات خلال السنوات الأخيرة، وقد بدا ذلك واضحًا في تدهور العلاقات بين “خامنئي” و”رفسنجاني” الذي سبق أن حُكم على اثنين من أبنائه بـمُدد من السجن واجبة النفاذ لإدانتها في بعض الجرائم.

ومنذ وفاة “الخميني” عام 1989، توارت عائلته عن أضواء السياسة وانزوت إلى ما وراء كواليس العمل العام. ومنذ ذلك الحين تُوأد في مهدها أي محاولة من جانب أفراد العائلة للدخول إلى أروقة السياسة؛ وذلك خوفًا على زعامة “خامنئي” وتحجُّجًا من النظام بالسعي إلى الحفاظ على سمعة عائلة قائد الثورة خِلوًا من كل شائبة ومنزهةً عن كل نقيصة. وقبيل الانتخابات البرلمانية التي جرت في شباط فبراير 2016، لم تتم الموافقة على ترشيح حفيد آخر من أحفاد “الخميني” للانتخابات البرلمانية، هو رجل الدين “مرتضى إشراقي”. كما رُفض ترشيح الحفيد الأكثر شعبية “حسن الخميني” لانتخابات مجلس الخبراء، ومن ثمّ أصبح الغموض يلف مستقبلهما السياسي.

وفي ظل ما عرضناه في هذه الدراسة الوجيزة، نستطيع أن نقول بقدر كبير من الثقة إنه من المستبعد أن يعود لقب “الخميني” للظهور قريبًا للعب دور فعال في منظومة الحكم داخل الجمهورية الإسلامية. ومع كل ما سبق، ربما يتطلع أحفاد “الخميني” إلى مستقبل أكثر مرونة وانفتاحًا قد يأتي بعد انقضاء حقبة “خامنئي”، وحتى يأتي ذلك المستقبل المنشود فإنهم يطمعون في الحفاظ على التعاطف الشعبي الجارف الذي تكنه الجماهير تجاه جدهم وتجاههم من بعده، بما يُمكّنهم من ترجمة ذلك التعاطف إلى مكسب سياسي حين تُواتيهم الفرصة.

المئة سياسة

عن الكاتب

إبراهيم سعد عبد العزيز