في الغصيبة

 

في الغصيبة يطير صوت أبي متنقلا من العقيبة الفوقية حتى شرب الاثنين، ومن مسجد الحيقي حتى المقطع تتناثر جواهر روحه وعبق طفولته، لم يكن يلصق صور المقطع ولا الغصيبة في جدران بيتنا؛ لكنهما كانتا هناك دوما!. في الليمونة البائدة، وأختها البيذامة، في مسامات الإسمنت العتيق، في النخيل والشرفات. وفي جبل شعبوه؛ تجتمع أرواح الأسلاف لرؤية أعمال السلالة، فتطوف من نهايات الدن ووقيف المزانيج حتى نهاية الغصيبة وبدايات الصفا، وبين تطواف وآخر، تهب نسمة باردة معلنة عبورهم في صيف كالح لا يعدو أن يكون قطعة من الفرن الكبير !.

أشعر بأرواح الأسلاف وهي تتحسر على أفعال السلالة اللاحقة. لا يريد الأسلاف من الإنسان أن يكون ذئبا، ولا من النخلة أن تصير كرمة، ولا من الزرع أن يخرج فجلا أو خسا؛ لكنهم يريدون للإنسان أن يظل إنسانا، وللنخلة أن تظل وافرة، وللزرع أن يكون رطبا وكثًّا متراصا، يريدون للروح أن تظل روح البدء، روح الغيث والوفرة، روح الحب والحياة، روح الإنسان قبل أن تغشاه عواصف الرغبة والشُّح.

في زمن أمي شيخة، لم يكن أبي يحتاج الكهرباء ليحفر لأبيه نبع ماء لا بئر مزرعة فحسب. وفي زمنها كانت الأغنام تُعطي اللبن والسمن والموسيقى. لم تعرف أمي شيخة القراءة يوما؛ لكنها قرأت الوجود أكثر مما فعل دكتور جامعي! ، لم تعش لتروي، كانت رواية في ذاتها.

وحين تمر ذكراها، يفوح أريج عبق من رائحة العجائز الأصيلة، والبخور المُطَّوِفِ في الأرجاء، نشعر بها وهي تروي بقرتنا ماء وطعاما وحبا!. لم تكن البقرات ولا الغنمات عندها آلات لبن ولحم، كانت أرواحا تروى بالحب والعطف، كانت البقرات تمنح الحب واللبن والسمن وأثيرا روحيا يتغلغل في روح الجدات الطيبات.

حين كانت الأرض تجدب؛ كانت تشعر بحزن الراعي على غنماته الفتية، والبيدار على فسائل الفرض والزبد وصنوف النخيل الوافرة، كانت الثيران تشتاق حراثة الأرض، والصفارد تنوح طالبة الماء، والعشب يسجد يستجدي إله المطر، لم تكن الجدات يرعين أنفسهن في وقت القحط والأزمنة الجدباء، كانت الجدات أمهات لأبنائهن وأزواجهن وللطير والمرعى والعشب والغنم والبقر وحتى للجبل والفلج ولطيور الأرض الدارجة من صفارد ودجاج. لم تكن الجدات يمنحن الحب لمن يمنحهن إياه، كانت الجدات أرضًا وخصبًا ، كانت الجدات سماء وسحبا متدفقة، كانت  الجدات ولم يكن أحد!. وفي وقت العتمة المكفهرة، لم تكن السماء تمنع الماء وكانت الجبال تربت على صخورها لتفسح للشراج مجاريها. كانت الجدات يبتسمن تارة؛ حينها كانت السماء تمنح الماء والحب، وحين يبتسمن أخرى، كانت الأرض تمنح الخير والبهجة.

في البدء كانت الجدات ، ولم يكن بعدهن أحد.

في الغصيبة لم يكن الرجال يتسلقون ظهور غيرهم لينالوا المكانة والوجاهة، كان الرجال رجالا لأنهم استحقوا أن يكونوا كذلك بأفعالهم. لم يكن المرء منهم يأكل وجاره يتضور جوعا، لم يكونوا بناة للقصور ولا جامعي ثروات؛ كانوا من الأرض وإليها. حين كان الواحد منهم يفسل صرمة، كانت الأرض تقبلها في رحمها كما تقبل المنحة. كانت الفسيلة تُغرس بالروح والدفء، كانت فسائل ذلك الزمن فسائل الدفء، لم يكنَّ فسائل الحصاد والثمر. كان الرجل يتخير لنخلة الوادي التي فسلتها الطبيعة اسما كاسمه، لم تكن النخلة شجرة، لم تكن النخلة نباتا جامدا؛ كانت روحا، كانوا يمنحونها اسما كاسمهم ودفء أبوتهم ورعاية وسمادا. كانت النخيل تمنح الرطب والظل والبهجة، كانت النخلة تداعب البيدار وهو يجز الحشائش الضارة من حولها، فكانت ترمي إليه رطبة وتمرة وخلالة ! كانت النخلة تميل بظلها على رأس البيدار النائم تحتها. كانت تحبس العقارب والثعابين الحاقدة ، كانت النخلة حارسا وأما بأثداء ممتلئة رطبا وتمرا وعِذقا.

لم يكن الرجال حينها يعرفون الحقد ولا الغل، كانت العقارب والأفاعي تفعل فحسب. وحين وصل الغريب يوما، لم يكن النخل فرحا بقدومه، وكانت الغنم تلوك زرعه وثيابه وأسماله السُّمِّيَّة. كان الرجال يرون الغريب أخا وقريبا؛ لكن الغريب كان يتوق للحيّات والعقارب. وحينما كان الرجال يمنحون الغريب مسكنا وخبزا، كانت الأرض تلفظ آخر نفس من صبرها. ابتلعت الأرض الغريب والحيات والعقارب.

كان زمن الوفرة. لم تكن الوفرة مالا ولا ذهبا، كانت وفرة الناس التي علّمت الأرض الحنان الدافق من فيض الأمومة والأبوة والصداقة. كانت الأرض شريكا وصديقا وأما. كان الماء آبارا ووديانا وأفلاجا. كانت السماء غيثا وظلا وعزفا. كانت النخيل والسدر وأشجار كثيرة الصنوف تمنح الثمار والظلال والخضرة والعسل. كانت الغصيبة كلمة الله. في البدء.. كانت الغصيبة وجبلا واخضرارا ، في البدء كانت الجدات والرجال، في البدء كانت الحياة!.

 

_____________________________

المفردات والمصطلحات:

الغصيبة : منطقة زراعية تضم مساحة تقارب الكيلومتر ونصف طولا وكيلومتر واحد عرضا –مسافة تقريبية- وفيها مزارع تعود ملكية أغلبها إلى أهالي منطقة الغبرة، وقد تعارف أهل بلدة الغبرة من أعمال ولاية سمائل على تسميتها بهذا الاسم، ولا يُعرف على وجه التحديد سبب هذه التسمية.

العقيبة الفوقية، شرب الاثنين: أسماء مزارع معينة في “الغصيبة” ، وكلمة “شُرب” تطلق على ميقات ري هذه المزرعة الصغيرة.

مسجد الحيقي : مسجد سُمّي –كما جرت العادة- باسم الفلج الذي يجري بجواره. وهو من أفلاج ولاية سمائل.

المقطع: اسم مزرعة كانت على ارتفاع مساو لما جاورها من المزارع، وقد سميت بهذا الاسم بعد اقتطاع التربة منها وجعلها منخفضة حتى تُسقى بفلج أكثر وفرة كان يسقي المزارع المنخفضة ولا يصل ماؤه للمرتفع منها.

البيذامة : مفرد ، ويجمع على بيذام. وهو شجر له ثمر أحمر اللون حلو المذاق.

جبل شعبوه : جبل في وادي سمائل تعارف أهل قرية الغبرة على تسميته بهذا الاسم، ولا يُعرف سبب تسميته كذلك.

الدن ، الصفا: قريتان من قرى ولاية سمائل بمحافظة الداخلية من سلطنة عمان.

وقيف المزانيج : وقيف مفرد، وجمعه وُقفان –على لسان القرويين والمزارعين- وهي أرض زراعية خصبة. والفرق بين الوقيف والبستان أن الوقيف أرض فضاء مكشوفة على عكس البساتين التي تكون محاطة بالنخيل الأشجار ، وهي أرض مقتصرة على الزراعة الموسمية وعادة يُزرع فيها “القتّ” –كما يسميه العمانيون- وهو نبات البرسيم، والمزروعات الأخرى كالفجل والخس والطماطم والبُرّ –القمح- ؛ ويُضيف والدي –وهو عليم بالزراعة- : “..وأظن أن سبب تسميته كذلك، لأنه موقوف أي مقصور على زراعة هذا النوع من المزروعات المحدودة، أما ما تُزرع –الأرض- نخيلا أو شجرا ، فتعد بستانا”.

البيدار: المُزارِع.

الفرض والزبد : صنفان من صنوف النخيل.

الصفارد : جمع ، ومفرده صفرد. وهو طائر أكبر حجما من العصفور وأصغر من الدجاجة. ويألف العيش في المزارع والأمكنة الفضاء أيضا.

الفلج : قناة مائية محفورة بفعل الإنسان ، وتجري فيها المياه إلى المزارع.

الشراج : جمع مفرده شرجة، وهي شعاب الجبال التي تجري فيها مياه الأمطار.

الفسيلة : مفرد، وجمعها فسائل. والفسيلة هي النخلة الصغيرة التي تُفصل عن الأم وتقتطع منها أو تقلع من بقعة لتغرس في أخرى. وتسمى “الصرمة” في اللغة الدارجة.

الخلال : جمع ، مفرده خلالة. وهو ثمر الرطب قبل أن يينع ويصير الرطب المعروف.

تلوك : لاك يلوك لوكا، أي مضغه مضغا. وتأتي أيضا بمعنى التلعثم في الكلام ، فيقال فلان يلوك الكلام؛ أي يتلعثم في كلامه ويتردد.

الأسمال : جمع مفرده سَمَل، وهي الثياب.

وكل هذه المفردات وغيرها ما زالت متداولة في قرى الريف في سلطنة عمان.

أدب الثاني بعد المئة

عن الكاتب

علاء الدين الدغيشي