أومبرتو إيكو: عن الأدب وأشياء أخـرى

كتب بواسطة أحمد الزناتي

 

في سنة 2005 نشرتْ دار Mariner Books ترجمة إنجليزية أنجزها مارتن ماكلاين تحت عنوان (عن الأدب). الكتاب في الأصل، شأنه في ذلك شأن معظم أعمال إيكو غير الروائية، مجموعة من المحاضرات التي كان إيكو قد ألقاها في مناسبات علمية متفّرقة من سنة 1980 وحتى سنة 2000، ثم نقّحها وزوّدها بتعليقات جديدة، لتصدرَ سنة 2005 تحت هذا العنوان.

من خلال ثمانية عشر فصلًا يحاول إيكو تحليل سِـرّ شغفه بعالم الأدب والكلمات، بدايةً من تأثير كتاب “فن الشعر” لأرسطو، مرورًا بتأملات عميقة في “الفردوس” في كوميديا دانتي الإلهية، وكذلك رؤيته لعوالم كاتبيه الأثيريْن جيمس جويس وخورخي لويس بورخيس، منتقلًا بعدها إلى موضوعه المفضلّ، الذي كتب عنه أغلب رواياته، وهو قـوة التزوير والكذب في صناعة الواقع، وكتابة التاريخ (على نحو ما نرى في روايات اسم الوردة، باودولينو، بندول فوكو، مقبرة براج وروايته الأخيرة الرقم صفر)، وصولًا إلى الفصل الأخير، وهو الأكثر تشويقًا، الذي يناقش إيكو فيه أسلوبه في الكتابة من خلال تسليط الضوء على ظروف تأليف الروايات السابقة.

***

في الفصل الأول بعنوان: ” حول بعض وظائف الأدب”، يؤكّد إيكو على حقيقة تأسيسيّة، يبني عليها أطروحاته، فيقول:” الأدب هو ما يكفل بقاء اللغة حيّة في قلوب أبنائها بوصفها تراثًا جـمـعيًا، فبدون دانتي آليجيري، مؤلف الكوميديا الإلهية، لم نكن لنحظى بلغة إيطالية موحّدة“، مشيرًا إلى شيوع اللهجات المحلية وتعدّدها في وقت دانتي، وافتقار الأراضي الإيطالية آنذاك إلى لغّة موحّدة، يتحدّث بها أهل البلاد.

يضيف إيكو:” صحيحٌ أن الأمر استغرق بضعة قرونٍ حتى تتحول اللغة التي كتب بها دانتي الكوميديا الإلهية إلى اللغة التي نتكلّم بها اليوم في إيطاليا، لكن النجاح الحقيقي يكمن في إيمان دانتي بقدرة الأدب على صون كيان اللغة. يواصل إيكو حديثه قائلًا:” من خلال المساعدة على ابتكار لغةٍ جديدة، يصنع لنا الأدب هويّة حقيقية ومجتمعًا مستقلًا”.

حول أخيلة الأدب” يذهب إيكو إلى أنّ الأدب هو الذي يُبقي اللغة حيّة، فالأدب يصنع من الحكايات والشخصيات جسدًا مشتركًا، ينفخ فيه كل كاتبٍ من روح إبداعه، ويتركَ على هذا الجسد بصمته الخاصة، ولا يجمعهم سوى الوعي الجمعيّ. وفي الفصل الثاني بعنوان “قراءة في فردوس دانتي آلليجيري”، وهو قراءة في الجزء الأول من الكوميديا الإلهية كما يفصح العنوان، يعدّ إيكو الفردوس” بمثابة نقطة مفصلية مهمّة لفهم تاريخ القرون الوسطى سواء بالنسبة للمفكّرين أم القراء.

ينتقل إيكو بعدها إلى فصلٍ بعنوان “حول أسلوب البيان الشيوعي”. فيبدأ، من حيث استهلّ كتابه، بالعبارة التالية: “من الصعب تصوّر أن صفحات قليلة استطاعت وحدها تغيير العالَم“. يوصي إيكو بقراءة البيان الشيوعي، لا كنصّ سياسي، بل كنصّ أدبي خالص، فيحلّل نصّ البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريش إنلجز بوصفه خطابًا أدبيًا خالصًا، مؤكدًا أن طريقة كتابة البيان الشيوعي -على الصعيدين اللغوي والأسلوبي- تعدّ نموذجًا لافتًا لكيفية كتابة خطابٍ مفعم بالقوّة، وقادرٍ على تحريك الجماهير من خلال كلمات دقيقة مركّزة، مشيرًا إلى أنّ: البيان الشيوعي تتوافر فيه كل عناصر النصّ الأدبي القويّ: نصاعة العبارات، قوّة الحجج والمنطق، وهو ما يجب أن يكون عليه نصّ أدبي جيّد. يطرح أمثلةً دالة من خلال أسئلة البيان الشيوعي. يسوق إيكو مثلًا من البيانا لشيوعي لتوضيح وجهة نظره، فيقتبس السؤال الآتي من البيان الشيوعي: “هل تريد الشيوعية إدخال إشاعة النساء للجميع”؟ هل تريد الشيوعية تدمير الأمة والأسرة، فتكون الإجابة: البرجوازية هي التي تسلب النساء حقوقهنّ، البرجوزاية هي التي ترى في المرأة مجرد أداة إنتاج، وأنّ الشيوعية تسعى لإلغاء هذا الوضع، فمشاع النساء وُجِدتْ في المجتمع البرجوازي دائمًا، ولا أدلّ على ذلك من  ابتكار بيوت البغاء لقاء مقابل ماليّ. يقول إيكو:”هنا نكتشف سحر الكلمات وقدرتها على تقديم الحقائق في ثوبٍ مختلف”. 

أما في فصل “ثغرات الشكل” فيناقش إيكو العناصر الرئيسة المكوّنة لبنية النصّ السرديّ، متسائلًا: إذا كان جمال العمل الفنيّ نابعًا مِن تكامل وحدات النصّ، فكيف نحدّد الأجزاء الضرورية؟ وإن كانت ثمّة عناصر رئيسة، فهل يعني ذلك أنّ كل ما سواها “ديكور” أو “حشو زائد” ؟ وهل سيبقى جمال العمل الفنيّ بعدها إذا ما حذفنا العناصر غير الضرورية ؟ وماذا عن محاولات الكاتب لسدّ الثغرات؟ أي من خلال الأجزاء السردية الصغيرة (الاستراجعات الزمنية، التفاصيل، التعليقات غير المباشرة، إلخ)، التي تعزّز من تدفق مسار السرد، وتضمن انسجام النصّ وترابط مكوناته؟

يعود إيكو إلى نصّه الأثير، الكوميديا الإلهية، محللًا هذا السِفر الضخم من وجهة النظر القائلة إنّ المضمون هو روح الشكل، فيقول :”إن جمال نصّ الكوميديا الإلهية النابع من البنيةّ اللاهوتية (الفردوس، الجحيم، المطهر) يفوق جمال الأبيات الشعرية التي كُتبَ بها النصّ، فالأبيات الشعرية في الكوميديا الإلهية تنقل إلينا شيئًا عرضيًا، ثانويًا، بينما الأساس هنا للبنية اللاهوتية/الدينية للكوميديا، لا للشعر. ولكن هل يُمكن حذف الشعر من النصّ؟ بالطبع لا. هناك مثال آخر وهو رواية يوليسيس لجيمس جويس، فشكل ملحمة هوميروس “الأوديسة” القابع في طبقات رواية “يوليسيس” – من الناحية الجمالية- يقف على نفس درجة أهمية المونولوج الطويل لبطلة الرواية موللي بلوم في نهاية العمل، وهو المونولوج الذي لم يكن من الممكن أن يحدِث الأثر نفسه على القارئ، لو يشيد جويس روايته على النسق الهوميري”.

في فصلٍ آخر بعنوان “مفارقة التناصّ ومستويات القراءة”، يتناول إيكو بشكل مسهبٍ روايته “اسم الوردة”، معترفًا أنه كاتب شغوفٌ بحفر طبقات دلالية متعددة داخل نصوصه الروائية، وعلى الأخصّ رواية اسم الوردة، إذ ليس في وسع جميع القراء الوصول إلى مستويات النصّ جميعها، فبعض القُرّاء محتاج إلى قدر معين من الثقافة لسبر أغوار النصّ وتأويله، لكنه في الوقت نفسه، لم يبخل على سائر القرّاء في الاستمتاع بالرواية كنصّ أدبي من خلال شكل الرواية البوليسية التي غـلّفَ بها أفكاره.

أما في فصل “بين دون كيخوته دي لا مانشا ومكتبة بابل”، فيعقد إيكو مقارنة شائقة بين موقف الفارس النبيل دون كيخوته في رواية سرفانتس الشهيرة وبين قصّة مكتبة بابل الشهيرة للقاصّ الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. عند سرفانتس يغادر دون كيخوته مكتبته، ويفارق كتب الفروسية التي كان غارقًا فيها ليكتشف العالم الحقيقي، بينما يهرب بطل “مكتبة بابل” لبورخيس إلى قلب المكتبة، التي كان يصفها الآخرون بأنها جنّة، ليكتشف العالم الحقيقي من خلال الكتب. وهي مقارنة مائزة يرى فيها إيكو أنّ الكلمات هي بداية العالم (في حالة الكيخوته)، ونهايته المحتومة (في حالة مكتبة بابل لبورخيس).

 

 

كان  إيكو قد صرّح في مفتتح الكتاب أنّ روح بورخيس ترفرف على فصول العمل، إذ لا يكاد يخلو فصل من إشارة، ولو هامشية إلى بورخيس، الأمر الذي دفعه لأن يفرد فصلًا مستقلًا تحت عنوان “بورخيس وقلقي من التأثّر”. في هذا الفصل ينقل إلينا إيكو مشاعر القلق المتزايد التي استولتْ عليه بسبب تأثير الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس فيه، وهو التأثير الذي لازمه منذ بداية رحلته مع الكتابة، وحتى الانتهاء من تأليف روايته الأولى “اسم الوردة”، حيث جعل إيكو أمينَ مكتبة الدير البندكتي، رجلًا أعمى، ومنحه اسم “يورج”، في إشارةٍ إلى خورخي ل. بورخيس بطبيعة الحال، فضلًا عن فكـرة المخطوط الذي عثر عليه بطل الرواية، وهي فكرة وإن كانت قديمة، لكن إيكو يقول إنّ قصة بورخيس الشهيرة “طلون، أوربس تورتيس”، كان لها تأثير بالغ في أثناء كتابة اسم الوردة.

أما الفصل المعنون “قـوّة الكذب”، فهو قطعة نثرية وفلسفية خالصة. يدرس إيكو في هذا الفصل تأثير الأكاذيب والتزوير على مدار التاريخ، وكيف يُمكن للكذب تحويل عوالم تخييلية إلى حقائق لا يمكن الطعن فيها، فيختار نماذج مثل “بروتوكولات حكماء صهيون” الذي كان محور روايته الشهيرة مقبرة براج، وجماعة “الصليب الوردي”، وهي جماعة باطنية نشأت في أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي وتردّد ذكرها في رواية “بندول فوكو”، فضلًا عن رسالة الكاهن يوحنا (* الكاهن يوحنا هو ملك مسيحي أسطوري قيل إنه كان يحكم آسيا الوسطى أو إثيوبيا في  القرون الوسطى، وقد حِيكتْ حول أعماله حكايات مُلفّـقة، وهناك من يشكّك في وجوده التاريخي من الأساس).  يقول إيكو: ” كانت رسالة الكاهن يوحنا المنحولة باعثًا قويًا لقيام الغرب المسيحي بغزو الشرق تحت اسم الحملات الصليبية”. يحفل هذا الفصل بالأمثلة على قوّة الكذب/الانتحال، وقدرته على تحويل الأكاذيب والحكايات الملفقّة إلى حقائق راسخة، بل ومُحدّدة لمسار التاريخ، ولا أدلّ على ذلك من رواية إيكو قبل الأخيرة مقبرة براج.

***

 

 

في فصل آخر بعنوان “عن الأسلوب” يشرح إيكو مفهومه “الأسلوب” داخل العمل الفنيّ. فيحدّد ثلاث طرائق لدراسة الأسلوب. الطريقة الأولى هي أن يقوم الكاتب بوصف شعوره أثناء إنتاج العمل الفنيّ، والطريقة الثانية هي أن ينهج نهج الفلاسفة، شارحًا لماذا نـصِف عملًا ما بأنه عمل فنيّ جميل، مُبـرزًا السمات الفنية التي تؤهل عملًا أدبيًا لأن يوسَم بالجمال. والطريقة الثالثة هي طريقة إيكو نفسه، أي طريقة التحليل السيميائي (تحليل العلامات داخل النصّ)، ضاربًا المثل بروايته الأولى اسم الوردة، فيسهب في شرح هذه النقطة. تبدأ رواية اسم الوردة بتدريب سيميائي حقيقي، حيث يؤول المحقّـق الفرنشسكاني “جوليالمودا” علامات مادية مختلفة، بهدف الاستدلال على حادثة لم يكن حاضرًا فيها، وهي فرار جَـواد رئيس الدير. ويتضح للقارئ من خلال الاستراتيجية التي اتبعها المحقّق “جوليالمودا” أن العلامات تكون مُحمَّلة بعدة معانٍ إذا ما كانت موجودة سابقًا في تجربة الشخص، وأن علامةً ما قد تكون بلا معنى إذا وُجِدت بمعزلٍ عن شبكة العلامات المحيطة بها. ففي الوقت الذي لم ينتبه فيه بطل الرواية الراهب المبتدئ “إدسو دي مالك” إلى وجود علامات كبقايا الوبر الأسود، والآثار على الثلج، تنبّه المحقّق غوليالمودا إلى وجود هذه العلامات، ووضعها بحكم تجربته في علاقاتها المتبادلة، ليستدلّ منها على مرور جواد، وعلى صفات ذلك الجواد، من حيث اللون والقامة والرشاقة، ثمّ تكهّن بمالِك الجواد واسمه، وبالوجهة التي اتخذها.

***

أما الفصل الأخير، وهو من أكثر فصول الكتاب إمتاعًا واقترابًا من روح إيكو الساخرة، فيحمل عنوان “كيف أكتب”؟ يتناول إيكو في هذا الفصل طريقته في الكتابة، ومنهجه في تشييد عوالمه الروائية، متناولًا روايات “اسم الوردة” و”بندول فوكو” و”باودولينو” و”جزيرة اليوم السابق”، معرجًا على تجربته الشخصية أثناء كتابة هذه الروايات. من بين الفقرات اللافتة، نصائح يوجهها إيكو إلى نفسه، وإلى المهتمّين بالكتابة الإبداعية بوجه خاص، انتقيتُ منها الفقرتيْن الآتيتين (ص 334):

  • هناك شيء واحدٌ فقط تكتبه من أجل نفسكَ: قائمة التسوّق؛ فهي تساعدكَ على تذكّر ما تحتاج شراءه، وحالما تنتهي من شراء ما تريد، يمكنكَ تمزيقها، لأنها لا تهمّ أحدًا. فيما عدا ذلك، فأي شيء تكتبه، إنما يُكتبُ لكي تقول شيئًا ما إلى شخصٍ ما.
  • طالما سألتُ نفسي: هل سأواصل الكتابة لو أخبروني أنّ كارثة كونية ستدمّر العالم غدًا، وأن أحدًا لن يقرأ ما كتبته أنتَ اليوم؟ أول إجابة ستقفز إلى ذهني ستكون: “لا”؛ ولماذا أكتبُ طالما أن أحدًا لن يقرأني؟ أما فطرتي فستقول نعم، لا لشيءٍ إلا لأنني دائمًا أتمسّك بالأمل البائس، فقد يفلتُ نجمٌ ما من هذه الكارثة الكونية، وربما يظهر شخصٌ في المستقبل يستطيع فكّ شفرة العلامات التي وضعتها داخل أعمالي. وفي هذه الحالة، فالكتابة، حتى لو سبقت نهاية العالم بساعات، ستصير ذات معنى.

 

الثاني بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد الزناتي