هيرمان هـسّه وعالم الكتب

كتب بواسطة أحمد الزناتي

 

كتب الروائي والشاعر الألماني الأشهر، الحائز على جائزة نوبل هيرمان هسّه (1877-1962) مجموعة ضخمة من المقالات والمراجعات والقراءات لنصوص أدبية وفلسفية متنوّعة من الأدب العالمي، نُشرَ بعضها، وبقي الآخر حبيس الأدراج. وفي أواخر الثمانينيات قامت دار نشر زوركامب الألمانية بنشر هذه المقالات وعددها ثلاثة آلاف مقال، لتظهرَ في خمسة مجلداتٍ ضخمّة تحت عنوان “العالم داخل كتاب“، نُشِر المجلد الأول منها في أكتوبر 1988، ويضم مقالات كُتبت في الفترة من سنة 1900 حتى 1910، ثمّ توالَت بقية الأجزاء حتى صدر الجزء الخامس والأخير من السلسلة قبل سنواتٍ، ويضمّ مقالات ومراجعات هسّه الأدبية في الفترة من سنة 1925 وحتى وفاته سنة 1962، وقد بلغ إجمالي عدد صفحات المجموعة مكتملةً زهاء ثلاثة آلاف وأربعمائة صفحة.

ونظرًا لضخامة الكتاب، فقد أصدرت الدار نفسها Suhrkamp  كتابًا مضغوطًا تحت عنوان ” عالم الكتب”، يضمّ مختارات من مقالات وتأملات هيرمان هسّه حول الأدب والفن، ومراجعاته لأعمال أدبية مهمّة لكتاب كِبار من بينهم كافكا، وبروخ وروبرت موزيل وروبرت فالسر وفالتر بينيامين وماجدا سابو وغيرهم، نناقش محتواه في السطور القادمة.

في بداية الكتاب يقول هيرمان هسّه عن الكتب: “ليست وظيفة الكُتب مساعدة البائسين على توفير حياةٍ بديلة، بل العكس تمامًا، فلا قيمة لأي كتابٍ إن لم يأخذ بيد قارئه نحو حـياةٍ حقيقية، وإن لم يكن في خدمة الحياة، وساعة القراءة هي ساعة ضائعة مهدورة، إذا لم تمنح قارئها دَفعةً من القوة لمواصلة الحياة، وشعورًا بالتجـدد، ونـفـحةً من الطاقة”.

***

تاريخ علاقة هسّه بالكتب والمكتبات قديمة، تضرب بجذورها في طفولة هسّه. نقرأ في الفصل الأول من مذكراته فقرة عن الكتب والمكتبات تقول: وكان يوجد في مكتبة جدّي الكبيرة، كتابٌ بالغ الضخامة والثقل، غالبًا ما كنتُ أتصفّحه وأقرأ فيه في أماكن متفرقة، وكان هذا الكتاب الذي لا ينضب يحوي صورًا قديمة رائعة. أحيانًا يمكنكَ العثور عليها بمجرد أن تفتحَ الكتاب وتقلّبَ صفحاته، وأحيانًا تبحثُ عنها فترة طويلة، فلا تجدها أبدًا. اختفَتْ، تلاشَتْ بفعل السِحـر، كما أنها لم تكن موجودة أصلًا. في الكتاب توجد قصّة، جميلة للغاية، عصيّة على الفهم، حتى إني قرأتها مرات ومرات، ولم يكن العثور عليها ممكنًا دائمًا، كثيرًا ما كانت تختفي تمامًا وتبقى متوارية، وكثيرًا كانت تبدو لو أنّها غيَّرت مكانها وعنوانها. وعندما تقرأها في بعض الأوقات تكون قريبةً للنفس، وفي وقتٍ آخر غاضبة وممـتـنـعة.”

نستدلّ من الفقرة السابقة على علاقة هسّه السحرية بالكتب، وهي علاقة روحية أقرب إلى الكشف العرفاني الذي يحدث للمريد حينما يلتقي بشيخه، وفي حالة هسّه حينما يلتقي بالكتاب السحري الذي قد يختفي معناه ويظهر بحسب قلب العارف/القارئ وتعلّقه بشيخه.

***

بدأت فكرة الكتاب في مطلع القرن الماضي، حينما كتب هسّه في أحد دفاتره فكرة تكوين مكتبةٍ للأدب العالمي، أو ربما مكتبة بابل كونية إذا استعرنا تعبير بورخيس، تضمّ مختارات شخصية لأهم الأعمال الشعرية والروائية في شتى العصور ومن شتى الثقافات، بدءًا من ملحمة الأوبانيشاد الهندية، وصولًا إلى أعمال كونراد فيرديناند ماير وجوتفريد كيللر (أديبان سويسريان ينتميان إلى القرن التاسع عشر). كما أولى هـسّه عناية خاصةً للأدب والفكر الصيني داخل مـُخطّطه الطموح. الحقيقة أنّ هسّه لم يكن قارئًا نهِمًا وحسب، بل كان كاتبًا نهمًا أيضًا، ولا ينسحب ذلك على الروايات والأعمال الشعرية وحدها، بل على المراسلات المُتبادلة بينه وبين أدباء ومفكّرين كِبار من بينهم أستاذه توماس مان وشتيفان تسفايج وكارل جوستاف يونج وغيرهم.

تشير مقدمة الكتاب إلى أنّ هسه كتب ما يزيد عن ثلاثة آلاف مقال ومراجعة لأعمال أدبية وفكرية، وقد نشر أغلبها في حوالي ستين مجلة ودورية ثقافية متخصّصة على مدار حياته، فضلًا عن عشرات المقدّمات التي كتبها لأعمال روائية لُكتّاب وكاتبات من جيل الشباب. نعرف من حياة هيرمان هسّه أنه انتقل إلى مدينة توبنجن سنة 1895 ليعمل بائعًا في متجرٍ لبيع الكتب، فركّز فيها على القراءة المعمّقة، وبناء مفاهيمه الثقافية والجمالية. ويبدو أنّ هذه المهنة أكسبتْ هسّه عادة ترشيح الكتب المهمّة والشائقة فقط للقراءة وللزبائن فقط، وعن هذه النقطة نقرأ في صفحة 54 من الكتاب الفقرة الآتية:

 

لا أومن بقائمة أفضل مائة كتاب أو أفضل ألف كتاب، فلكل إنسانٍ منا مجموعة كتب جميلة وقيّمة ينتقيها بعناية، هي المجموعة القريبة إلى نفسه وعقله. لا يُمكن لأي قارئ تكوين مكتبته الشخصية بمجرد شراء الكتب وتكدسيها فوق الرفوف، والأولى بالقارئ أن يصغِي لصوت احتياجه المعرفي، وشغـفـه الشخصيّ، فيكّون مكتبته الشخصية مثلما يكون صداقاته“.

***

تبنّى هسّه في هذا العمل الضخم (الذي يمثّله الكتاب موضع النقاش هنا بطبيعة الحال) استراتيجية واضحة، وهي ألا يكتب نقدًا أو تحليلًا لأي من الأعمال الأدبية بالمعنى التقليدي لكلمة “نقد”، إذ كان شاغل هسّه أن يقدّم للقارئ عملًا قـيّمًا ومُلهمًا، يفيده وينير له طريقه. يقول هسّه عن هذه النقطة تحديدًا:

تكتسب أحكامنا على الكتب أهميتها حينما نمدح كتابًا ما، أما الأحكام التي تقدح في كتاب، فهي أحكام جائرة، وأغلب ما يتبادله الناس من آراء حول الكتب هي أحكام من هذا النوع. فحينما أقول عن شخصٍ ما – مثلًا- أنني لا أفضّل صحبته، فهذه مقولة موضوعية، لأنني بذلك لا أُقـيَّـمه ولا أصدر عليه حُكمًا، بل أترك القرار إلى مَن يسمعنا، فإن شاء صاحبَ هذا الشخص، وإن لم يشأ لم يفعل. إما إذا وصفتُ شخصًا بأنّه “وضيع أو سكّير” مثلًا، فهذا عمل يجانبه الصواب. الأمر ذاته ينطبق على الكتب؛ فسلوك تـرصّد الأخطاء داخل كتاب ليس تقييمًا، بل نميمة بغيضة”.

تدلّنا الفقرة السابقة على طريقة هـسّه في تناوله للكتب والأعمال الأدبية، وهي تقديم الكتب تقديمًا إيجابيًا، وترشيح ما يستحقّ منها للقراءة، مبتعدًا عن إصدار الأحكام السلبية على الكتب ومؤلّفيها، أيًا ما كان نوعها. وقد استمرّت هذه الطريقة في تناول الأعمال الأدبية وتقديمها دون التورّط في تسييس آرائه، أو مجاراة السائد حتى في سنوات حكم الاشتراكيين القوميين. ففي سنوات 1935/1936 اشتغل هسّه محررًا بإحدى المجلات الأدبية السويدية، وتناول بالعرض والتحليل أعمالًا لكتّابٍ يهود ( مثل فرانتس كافكا)، أو شيوعيين (بلوخ)، وهو ما أثار عليه حنق الاشتراكيين القوميين وقتها، إلا أنه لم يرضخ لتوجيهات الدار، ورفض رفضًا قاطعًا

 

 

تغيير خطّة بناء كتابه حول “مكتبة الأدب العالمي” تماشيًا مع سياسات دار Reclam الشهيرة، التي كانت تنتهج آنذاك نهجًا اشتراكيًا قوميًا صريحًا.

في مقالاته ومراجعاته، ألقى هسّه الضوء على مجموعة من الكتّاب المغمورين، الذين آمن بموهبتهم الأدبية، فقرّر تقديمهم إلى القرّاء؛ من بينهم على سبيل المثال الكاتب السويسري روبرت فالسر، والنمساوي روبرت موزيل، بالإضافة إلى فالتر بينيامين، وإلياس كانيتي، وآرنو شميدت والأمريكي جيروم ديفيد سالنجر.

الجدير بالذكر أن هسّه كان من كبار داعمي فرانتس كافكا، بل يمكننا القول إنّ هسّه كان أحد مكتشفي “كافكا”، وعَـدّه كاتبًا واعدًا، ووصف أعماله بأنّها:” واحدة من أكثر الظواهر الأدبية إثارة للدهشة والإعجاب في عصرنا”، بل وصل الأمر إلى سعيه لنشر أعمال كافكا الكاملة بعد وفاته، بعد أن بادر بالاتصال بماكس برود، صديق كافكا والقائم على تركته الأدبية. إلى جانب ذلك، عمل هسّه محررًا أدبيًا ومراجعًا لعدد كبير من الأعمال الكاملة لكبار الأدباء الألمان، من بينها الأعمال الكاملة للشاعر الشهير نوفاليس، وهولدرلين وآيشندورف، كما تولّى تحرير ما يزيد عن أربعين كتابًا، وكتبَ مقدمات لعشرين روايةً ومجموعة شعرية، دعمًا منه للأدباء الشّبان، والأدباء الذين أغفلهم الزمن.

كما رسم هسّه قبل وفاته الخطوط الأولى لمشروع ضخم، وهو سلسلة تاريخ الأدب الألماني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحت عنوان:”الروح الألمانية منذ سنة 1750 حتى سنة1850 ، إلا أن القدر لم يمهله فرصة تنفيذ مشروعه، حيث وافته المنيّة التاسع من أغسطس سنة 1962.

أدب الثاني بعد المئة

عن الكاتب

أحمد الزناتي