الروائي الإسباني خافيير مارياس: القصة تُروى مرة واحدة فقط.. وإلى الأبد!

كتب بواسطة أحمد الزناتي

ولد الروائي والقاص والمُترجم الإسباني خافير مارياس في مدريد عام 1951. والده هو الفيلسوف جوليان مارياس، الذي سُجن لفترة وجيزة، ومُنع من التدريس لأنشطته المعارضة أثناء فترة حكم الجنرال فرانكو. قضى خافيير مارياس فترةً من طفولته في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان والده يُدرّس في بعض المؤسسات العلمية، كجامعة ييل وكلية ويليسلي. تُرجمت أعماله إلى اثنتين وأربعين لغة من بينها اللغة العربية، ومنها رواياته: “أوكسفورد”، “قلب ناصع البياض”، “وقت للعبث” و”فكّر فيَّ غدًا أثناء المعركة”. من بين أعماله الشهيرة ثلاثيته الروائية “وجهكَ غدًا”، ورواية “الإنسان العاطفي” (نال عنها جائزة الرواية عام 1986)، وكتاب “حيوات متخيلة” وهو كتاب شائق يرسم  بورتريهات مُتخيلة لسيرِ عددٍ من الروائيين والروائيات. يعدّ مارياس حاليًا أشهر الكُتاّب الإسبان على قيد الحياة، وهو مُرشّح دائم لجائزة نوبل في الأدب منذ سنوات عديدة.

في أوائل سنة  2016 أجرت مجلة The Millions  الإلكترونية مقابلة مع خافيير مارياس، تحدّث فيها عن رؤيته للأدب وللكتابة السردية، ننقله إلى العربية في السطور القادمة.

***

The Millions

قرأتُ مقابلة شخصية تحدّثت فيها – لستُ متأكدًا إلى أي حد كنتُ تمزح– عن كتابة الروايات بغرض تضمين فقرات أو عبارات قليلة لا تستطيع الصمود وحدها، بحيث تكون الرواية أشبه بشكل قوسٍ منصوب تتربّع هذه الفقرات أعلى قمته. كان المثال الذي ضربته في المقابلة هو رواية “فكّر في غدًا أثناء المعركة”. أتساءل إذا ما كانت روايتك Thus Bad begins قد ضمّت مقطعًا أو صورةً مشابهة أو ربما مجموعة من المقاطع والصور، شعرتَ أثناء الكتابة أنّك تحوم حولها، أو تتحرك نحوها، أو حتى تستهلّ بها الرواية.

مارياس:

حسنًا.. إن كان الأمر كذلك، فلن أفصح أيّة رواية؛ لكنني كنتُ أقصد وقتها أنّ أغلب الروائيين، أو ربما يعد ذلك افتراضًا من ناحيتي، فلأتحدث عن نفسي على الأقل كروائي، وربما هناك آخرون يذهبون إلى أنّ ثمة فقرات قليلة أو بضع صفحات معدودة أفضل مما سواها.

أفكّر – وربما أكون مخطئًا- في تلك الفقرات التي تحمل روحًا شاعرية خفيفة، أو استطرادًا، أو انعكاسًا أو فكرة تأملية قصيرة، قد لا تتجاوز نصف صفحة، وأحيانًا أكثر قليلًا، فتشعر بالرضا عن ذلك، وتقول بعدها: هذا هو جوهر العمل. جوهر العمل؟ أنستطيع قول ذلك؟

 

The Millions:

أظن ذلك. أظن يمكنكَ القول: جوهر العمل.

 

مارياس:

أقصد أنه بمجرد الانتهاء من كتابة الرواية، تلّح على ذهني فكرة مفادها: “الآن أدركتُ الأمر”. على الأقل في حالتي، وأنا أتحدّث دائمًا عن نفسي. نظرًا لأني لستُ شاعرًا، ولم أكتب الشعر يومًا، ولا حتى حينما كنتُ شابًا أو مراهقًا، تقفز إلى ذهني أحيانًا فكرة مؤداها: “ينبغي لي أن أحيط تلك الفقرات بشيء إضافي، بشيء ضخم، بمعمار يصون الفكرة، ويجعلها مقبولة لدى الجمهور. فيتركّز تفكيري في جذب انتباه القارئ إلى هذه الصفحات، لكنني يجب أيضًا أن أُلهيَ القارئ أو القارئة من خلال القصة والحبكة والحوارات.

 

 The Million:

بكل هذه العناصر ..

مارياس:

نعم، بكل هذه العناصر. لكنك لا تكتشف ذلك إلا بعد الانتهاء من الرواية، فهو أمر لا تخطط له مسبقًا.

 

The Millions

تمام. أنتَ تتحدّث إذن عن تلك الفقرات التي تقول لنفسك في نهاية المطاف:” قطعت طريقي على مدار الرواية للوصول إليها”.

مارياس:

نعم، إلى حد ما. لكنه ليس أمرًا مُخططًا. أظنّ أن التخطيط لذلك سيكون شيئًا مبتذلًا، لكنك أحيانًا تقول لنفسكَ لاحقًا، هاتان الصفحتان هما مبرر وجود الرواية بأكملها.

 

 The Million:

تكلمتَ عن الحبكة والشخصيات و”كل هذه العناصر”، وأودّ الحديث عن عنصر واحد من بين العناصر التي تدفع القارئ لمواصلة القراءة، أي تلك التي تسهم في خلق جـوّ التشويق، وعلى الأخص في رواياتك. حينما أقرأ أعمالك، وحتى قبل أن أعرف القضية التي تطرحها الرواية، أشعر بنفسي في انتظار الحلّ. فمثلًا، وأنا أقرأ رواية  ” Infatuations“، أذكر اللحظة التي هُرعتْ فيها (ماريا) إلى الباب لتسترق السمع، كنتُ أقرأ كما لو أنني وسط صالة عرض سينمائية، مُغطيًا عينيّ، كدتُ أقول: “ماريا .. لا تذهبي ناحية الباب”.

أتسائل إلي أي حدٍ تشحذ وعيكَ لخلق عنصر التشويق في أثناء عملية الكتابة، أهو شعور يهبط عليكَ بشكل طبيعي، أم هي ظاهرة لصيقة بأسلوبكَ، أم إنك تعاود التحرير والمراجعة؟

مارياس:

لا، لا تسير الأمور على هذا النحو، فطريقتي في الكتابة طائشة للغاية.

 The Millions

جميع طرائق الكتابة فيها طيش.

 

مارياس:

ربما، لكنكَ تشعر أنكَ أكثر طيشًا من طريقة الكتابة التي اخترتها، أو ربما التي اختارتكَ.

تعلم أنّ واحدة من مشكلات الروائيين هي أنّنا لا نتعلم المهنة أبدًا، على الإطلاق، مثلما يفعل في العادة سائر البشر. طبعتُ روايتي الأولى وأنا في سنّ التاسعة عشرة، أي منذ ما يزيد عن أربعين عامًا.

يذهب الأستاذ إلى الجامعة لإعطاء الدروس، يعني أنّه سيعطي دروسه على نحو جيد، أو على نحو لائق، وسوف يؤدي المهمة بمنتهى السهولة، أو مثل النجار الذي يصنع الطاولات لمدة تزيد عن أربعين سنة، يعرف تمام المعرفة أنّه لن يخفق في صنع غيرها من الطاولات. أما الروائي فيجهل تمامًا ما هو مُقدِم عليه.

 The Millions

هل مررت بلحظاتٍ جلستَ فيها إلى مكتبكَ لتكتب روايتكَ القادمة، وفكّرتَ في أنك تعلّمتَ شيئًا من المرة السابقة.

 

مارياس:

لا لا. الدرس الوحيد الذي تتعلمّه أنك لم تتعلّم شيئًا على الإطلاق. حتى لو أن كتبًا سابقةً حظيت ببعض الثناء، وحتى إن استمتع بها القُرّاء، لن يغير  ذلك من الأمر شيئًا. في حالتي أقول: حسنًا.. لقد حالفني الحظ، أو ربما خَدِع القُرّاء.. شيء من هذا القبيل. لكن كل ذلك لا يضمن أي شيء لنجاح العمل الذي أشرع في كتابته.

لكن، ما كنتُ بصدد قوله إن طريقتي المعتادة في الكتابة … حسنًا .. لقد ذكرت قبل ذلك في مناسبات عديدة، أن هناك بالطبع كل أنواع الكُتّاب، لكن بعضهم من يمارس الكتابة مستخدمًا خارطة طريق، أقصد أولئك الذين يعرفون طريقهم جيدًا، ويستخدمون مخططًا.

 

 The Millions

أكره هذا النوع من الكُــتّــاب، ولا أفهمهم على الإطلاق.

 

مارياس:

لا..لا… ولِمَ تكرههم؟ كل أساليب الكتابة مرتبطة بالنتيجة النهائية. فقبل شروعهم في كتابة الرواية، تكون القصة فد اكتملت داخل رؤوسهم، فهم يعرفون على وجه الدقّة ما الذي سيجري لكل شخصية ومتى، إلخ، لكنني لستُ من هذا النوع. أعتقد لو أنني أعرف مسار القصة من أولها لآخرها قبل الشروع في كتابتها، فلن أكتبها على الإطلاق .. سأهتف بالضجر ساعتها.

يحلو لي ممارسة فعل “الاكتشاف” أثناء الكتابة. لقد أشرتُ في مناسبات عدة أنّ كلمة “يبتكر”، وهي الكلمة نفسها في اللغة الإنجليزية والإسبانية وعدة لغات أخرى، مُشتقة من المفردة اللاتينية invenire ، التي تعني في لغتها الأصلية “يعثر على شيء”، أو “يكتشف شيئًا”. ومن ثم أن “تكتشف” في الكتابة، سواء في الإنجليزية أو اللاتينية أو الإسبانية هو أمر له علاقة اشتقاقية بفكرة العثور على شيء، وهو ما يحلو لي ممارسته في الكتابة.

عادةً ما أشرع في الكتابة وفي يدي بوصلة، لا خارطة طريق. مجرد بوصلة، فأتجّه شمالًا حيث تقودني. بشكل أو بآخر يكون لدي علم بوجهتي، لكني لا أعرف الطريق، إطلاقًا. بل حتى إنني لا أعرف هل سيقودني مؤشر البوصلة إلى صحراء في منتصف الرواية، أم إلى منحدر صخري، أم إلى نهر أم إلى غابة. ويجب عليّ تجاوز كل ذلك حيثما وجدته. بينما الكاتب الذي يضع أمامه خارطة طريق يكون على دراية مُسبقة بأنه سيواجه صحراء أو جرفًا صخريًا أو غابة، فهو يعرف ذلك مسبقًا، يعرف متى وكيف.

الحقيقة أنني لا أعرف على وجه الدقة كيف أُنجزُ رواياتي. في كل مرة، أكتشف أنني لا أعرف كيف كتبتُ هذه الرواية، ولا كيف كتب غيري رواياتهم. ما يحدث أنّكَ تجد نفسكَ أمام ثلاثمائة أو أربعمائة أو حتى خمسمائة ورقة، فتهتف قائلًا: ها قد اكتملت الرواية”. إلا أنني أعمل صفحة تلو الأخرى. لم يسبق ليس تحرير مسوّدة من خمس أو عشر صفحات، إطلاقًا.

أبدأ العمل في الرواية- ما زلتُ أستخدم آلة كاتبة- فأنزع الورقة من الآلة، وأخطّ التصويبات بقلمي، أمحو أشياء، وأضيف أقواسًا، أحذف فقرات، وأرسم أخرى، أفعل كل شيء. ثمّ أنتقل بعدها إلى الكتابة على الآلة الكاتبة من جديد: أكرر ذلك مرّة، مرتين، ثلاث مرات، أربعة وخمس في بعض الأحيان، حتى أقول لنفسي:”ليس في الإمكان أبدع مما كان”، أو “لقد أصبتُ بالتعب” وهو ما يحدث. بعدها تنتقل الورقة إلى مرحلة الطبع، صفحةً تلو الأخرى.

لا أعيد قراءة ما كتبت حتى أنهي كتابة الرواية. أقول:” مهلًا .. لديّ الآن مائتي ورقة .. هل ينبغي إعادة قراءتها”؟ ماذا إن وجدتُ ما كتبته رديئًا؟ سأفسد الأمر برمته، وسأفقد الإيمان اللازم لمواصلة الكتابة. فأقول لنفسي: لن أقرأ ما كتبتُ”. وهكذا، صفحة تلو الأخرى، صفحة بصفحة، كما لو كانت هذه الصفحة هي الوحيدة التي كتبتها، أحشد تركيزي على ورقة واحدة، أبذل قصارى جهدي عليها، لكنها تكون بمعزل عن الورقة التالية والسابقة، حتى تصير شيئًا غامضًا في نهاية المطاف، إلا أنّ بعض القرّاء الودودين أخبروني:” لم أستطع ترك الرواية حتى فرغتُ من قراءتها كاملة”. “إن رواياتك محبوكة حبكة مثالية، لا ثغرة فيها”. فكنتُ أقول:”..آه يا عزيزي خافيير..إنها على عكس ما قيل تمامًا”.

 The Millions

أعتقد أن سبب ما قلته أنني أكره الكـُــتّاب الذين يخططون مسبقًا كل شيء، هو تصوّر لدي أنّ هؤلاء ليسوا طائشين.

 

مارياس:

لا.. هؤلاء الكتاب طائشون أيضًا. والسبب راجع إلى اعتقادي بأنّ ثمة شيئا واحدًا يقف في طريقهم، قد يكون معرفتهم السابقة بمسار الأحداث، أو وعيهم بدرجة التشويق المطلوبة عند لحظةٍ معينة، ومن ثمّ فهم أكثر تنبؤًا بالأحداث. في أحيان أخرى قد لا ينتبهون إلى هذه النقطة، لأنهم يعرفون خاتمة الرواية بالفعل، فالقارئ عندها سيقفز إلى النهاية بشكل أسرع، مما لو كانت النهاية قد كُتبت على يدّ كُـتّـاب البوصلة المرتجلين، الذين  لا يعرفون نهاية الأحداث حتى في الثلاثين صفحة الأخيرة قبل نهاية الرواية.

أذكر أني في سنة 1986 كتبتُ رواية قصيرة، وكنتُ على مسافة ثلاثين صفحة فقط من نهاية العمل، لكني لم أكن أعرف مَنْ سيموت أو إذا كان أحدٌ سيموت من الأساس أم لا. وكان عليّ اتخاذ القرار: “هل ينبغي لي أن أجعله يلقى حتفه”؟ أما الآن فيبدو أنه من المستحيل أن يموت رجل آخر بدلًا من الرجل الذي مات بالفعل.. لكن لقد انقضى وقت طويل على ذلك.

بالمناسبة، إذا أذنتَ لي. أعتقد أن هذا الموضوع يستحق مزيدًا من التعليق. أظنّ أن ذلك من بين الأسباب التي تدعونا لمواصلة كتابة الأدب وقراءته. قبل سنوات قليلة، كتبتُ مقالًا عن السرد، وقلتُ إن السرد مسألة في غاية الصعوبة، وإنّ سرد أمورٍ حقيقية ضرب من المستحيل، بالنسبة للمؤرّخ على سبيل المثال. فالمؤرخ يخبرنا بحقائق بقدر ما تسعفه المعرفة، لكنه قد يجد مؤرخًا يأتي ليعارضه، قائلًا:”لا..لا..لا.. لقد جانبك الصواب، أو يقول مثلًا: لقد عثرنا للتوّ على مجموعة رسائل بقلم نابليون ستقلب الموضوع رأسًا على عقب”.

بل إننا حتى إذا حكينا شيئًا شهدناه بأنفسنا، كحادث وقع في مترو الأنفاق صباحًا ونحن في الطريق إلى العمل، فنقول مثلًا:

” حسنًا.. لقد شاهدتُ هذا الرجل يضرب رجلًا آخر. انظر أنت تروي حدثًا بسيطًا، ولكن لو أن أحدًا آخر شهد معك هذه الواقعة، سيقول: مهلًا.. انتظر لحظة.. لقد أتيتَ أنتَ في وقت لاحق، أما أنا فقد رأيتُ ما لم تره، ما حدثَ أن الرجل الذي ضُرب سبق أن استفزّ الرجل الأول، وهكذا فلا شيء مؤكد تمامًا. السرد باستخدام اللغة أمر في غاية التعقيد. فكل شيء قابل للتفنيد والمعارضة.

كما أنني أرى أن واحدًا من الأسباب التي تدعونا لكتابة الروايات وقراءتها أننا نحتاج على نحو ما شيئًا نرويه مرّة واحدة، بشكل جيّد، مرةً واحدة وإلى الأبد، حتى ولو كان ذلك الشيء من صنع الخيال، حتى ولو لم يحدث على أرض الواقع. أقصد أنّ “مدام بوفاري” قد ماتت بالطريقة التي اختارتها، وليس في وسع أحد أن يأتي ليقول إنها لم تمتْ، أو أنها طعنت نفسها.

 The Millions

تقصد أنها لم تزوّر موتها..

مارياس:

لا أحد يجرؤ أن يقول ذلك. فمدام بوفاري ماتت بالطريقة التي قررها فلوبير، وهذه هي النهاية. حتى وإن كان ذلك محض خيال، حتى وإن لم تُوجَد مدام بوفاري من الأساس، فإننا عادةً  نحتاج  الشعور بالأمان أو الراحة النفسية التي تبث فينا روح الطمأنينة أن شيئًا ما قد رُوي بشكل مؤكد، مرّة واحدة، وأمام الجميع. وعليك أن تعلم أن ما لم تحكِهِ الرواية لن يحكيَه شخصٌ آخر. ما قيل قد قيل إلى الأبد، وما لم يُقل لن يحدث على الإطلاق. أليس كذلك؟

 

The Millions:

صحيح، معك حق. الأمر أشبه بأن نقول: الشيء الوحيد الذي نستطيع الإيمان به هو المُخترع كليًا.

مارياس:

نعم. ولكن يجب أن نمتلك قصّة مُكتملة.

 

 The Millions

كان والدك فيلسوفًا.. أليس كذلك؟

 

مارياس:

بلى، كان متخصصًا في أعمال الفيلسوف “أورتيجا إي جاسيت”.

 

 The Millions

أودّ أن أسألك شيئًا أخيرًا: يشغل عالم الفلسفة حيزًا داخل أعمالك الروائية، وهو عالم مشغول بمسألة الخلود، واللا نهائية والتغيّر واستحالة التغيّر، عالمٌ مشغول بما قد يحدث وما لن يحدث مطلقًا، وأن كل شيء قد جرى بالفعل.

هل شغلتْ هذه الموضوعات تفكيرك في حياتك بشكل أو بآخر، أم مرّت عليكَ لحظة ككاتب، فتوقفتَ عندها لتقول:”.. آها.. يجب أن أشير إلى ذلك في روايتي”.

 

مارياس:

لا أعتقد أن أعمالي الروائية فلسفية على الإطلاق، وتحديدًا لأن والدي كان فيلسوفًا، وأنا أدرك جيدًا أنّ ثمّة فرقًا هائلًا بين مهمة الروائي ومهمة الفيلسوف.

ما أقوم به مختلف، ولستُ الوحيد الذي يقوم بذلك. ففي الماضي قام الكثيرون بالعمل نفسه، وهو ما يمكن أن تسميه، وهو ما أسميه أنا أيضًا بالتفكير الروائي، وهو أمر لا علاقة له بالتفكير في الأدب، الأمر الذي يكون مملًا، أقصد التفكير في أدبية الأشياء.

أعني أن لديكَ أنماط التفكير كافة، التفكير الديني، والتفكير العلمي، والتفكير الفلسفي، والتفكير على مذهب التحليل النفسي، وهلم جرا… كل أنماط التفكير. إلى جانب ذلك، هناك ما يُسمى بالتفكير الأدبي، وهو نمط

يتمتع ببعض المزايا، إذا ما قورِن بالتفكير الفلسفي مثلًا. من بين هذه المميزات أن تذكر شيئًا في روايتكَ، فيسلّم القارئ بأنه شيء حقيقي. طالما استخدمتُ كلمة “التسليم والإقرار” بالنسبة للروايات.

أظنّ أن اللحظة التي أعثر فيها على مشهد أو فكرة أو ملاحظة داخل رواية هي ما تحفزني كقارئ، حينها أنتبه قائلًا:” نعم.. نعم.. الأمر كذلك”. لقد مررتُ بهذه التجربة بذلك من قبل، لكني لم أدرك وقتها أنني كنت أعرفها، فتأتي اللحظة التي أجد فيها الفكرة مكتوبة لدى “بروست”، وهو أستاذ في هذه اللعبة، أو عند شكسبير. في الرواية يُمكنكَ قول هذه الأشياء بطريقة عفوية. الأمر أشبه بومضات خاطفة، بينما عند الفلاسفة – أو على الأقل الأجيال القديمة منهم- يحتاج الأمر إلى توضيح الفكرة، وإلى إبرازها خطوةً بخطوة، وهو ما لا يفعله الروائي في عمله. على العكس، فالروائي “يُلقي بشيء ما”، يقذفكَ بعبارة صادقة، أو بملاحظة دقيقة. وعندما نقرؤها، ينتابنا شعورٌ أن ما يقوله الروائي صحيح، لأننا نعي شيئًا لم نكن ندرك أننا نعرفه. فنكتشفه ونقول: لقد خبرتُ ذلك”. أعتقد أن الأمر مختلف من حالة إلى أخرى.

أما ردًا على سؤالكَ الأخير، فالأمر ليس شيئًا خططتُ له في ذهني مسبقًا، فلم أقل مثلًا:” هذا قد ينفع رواياتي”.  لا، فأنا لا أبحث لأعمالي الروائية عن موضوعات. فعلى مدار الثلاثين سنةً الماضية كنتُ أعيد الكتابة عن الأشياء نفسها التي تهمنّي، الأشياء التي تدفعني للتفكير، موضوعات مثل كتمان الأسرار، الخيانة، الصداقة، الغدر، واستحالة معرفة الأشياء معرفةً يقينية.

 

***

الرابط الخاص بالمقابلة

https://themillions.com/2018/11/a-story-to-be-told-once-and-forever-the-millions-interviews-javier-marias.html?fbclid=IwAR0D5VVmOo43sqmt3iZ0ZYEhun2NOT6mVW-PQEkMzbYn6YnmCdkkJEn98QI

الثالث بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد الزناتي