إضاءة
أواخر القرن التاسع عشر الميلادي بدت الإمبراطورية العثمانية في موقف بالغ الضعف خارجيًا؛ إذ بسط أباطرة الاستعمار الحديث نفوذهم على الكثير من الأراضي التي كانت تتبعها، وقبيل الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) تركز ثقلها الدولي خارج مناطق الأناضول في ما عرف بالعثمانية العربية (العراق، الشام، الحجاز، أجزاء من اليمن). تبدت نذر الحرب في عدد من الأزمات منها: الأزمة المغربية، والأزمة البوسنية، وحروب البلقان. وفي أكتوبر 1914م أعلنت الدولة العثمانية الحرب على بريطانيا وحلفائها فكان ذلك إيذانا بصراع على المشرق العربي، صراعٌ ليس بين الدولة العثمانية صاحبة السيادة على المنطقة والحلفاء فحسب، إنما صراع بين الحلفاء أنفسهم!
لب الكتاب
“خط في الرمال بريطانيا وفرنسا والصراع الذي شكل الشرق الأوسط” عنوان كتاب للمؤرخ البريطاني جيمس بار، وُصِف في الكتاب بنسخته العربية والصادر عن دار الساقي 2018م بترجمة ماريا الدويهي بكونه مؤرخًا وكاتبًا بريطانيًا متخصصًا بشؤون الشرق الأوسط، تخرّج من أكسفورد وله عدد من الإصدارات منها “الصحراء تشتعل: لورنس العرب وأسرار الحرب البريطانية في الجزيرة العربية”، و”المعركة بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى للسيادة في الشرق الأوسط الحديث”.
معتمدًا على ملفات أرشيفية بريطانية وفرنسية رفعت عنها السرية مؤخرا بنى المؤلف أطروحة كتابه، التي تقوم على أن الصراع البريطاني الفرنسي على المنطقة كان محتدمًا منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، والطرفان رغم قتالهما جنبًا إلى جنب في مواجهة العدو الألماني وفي حربين شرستين‘ إلا أنهما كانا يحيكان الدسائس ضد بعضهما لأجل التوسع على حساب الآخر وإسقاط مشروعه الاستعماري في المنطقة. فهذا التنافس السام بين بريطانيا وفرنسا غذى الصراع بين العرب والصهيونية؛ فاستعانة بريطانيا بهم من أجل إحباط الجهود الفرنسية في الشرق الأوسط؛ أدى إلى تصاعد دراماتيكي انتهى بدعم الفرنسيين لهذا الكيان عبر تسهيل الهجرة اليهودية والتسليح للعصابات الصهيونية لإفشال الانتداب البريطاني، وهو ما تم فعلا بانسحاب بريطانيا في مايو 1948م وقيام الكيان الإسرائيلي، الذي يذهب الكاتب إلى أن فرنسا لعبت دورًا أساسيًا في قيامه، غير أننا هنا نخالفه الرأي فالدور البريطاني لا يقل عن نظيره الفرنسي!
دسائس ومؤامرات
الكتاب يشتمل على أربعة أقسام مع مقدمة وخاتمة، يضم كل قسم عددًا من الفصول، ويغطي مرحلة زمنية كبيرة بمقياس البحث التاريخي (1915-1949م) ومما يحسب للكاتب تمكُّنه من السير عبر سيلٍ كبيرٍ من الأحداث والشخوص والسنوات بأسلوب أدبي سلس؛ بعيدًا عن جفاف المادة والطرح الذي نصادفه أحيانا في الدراسات التاريخية. ضم القسم الأول والمسمى: التقسيم 1915-1919م حديثًا عن رؤية كلا الطرفين للمنطقة وأهدافهما، فالعدوان اللدودان كانا قد اشتبكا في صراعات طويلة آخرها حادثة فاشودة 1903م التي خلّفت حسرة وإحساسًا بالهزيمة في نفوس الفرنسيين. في إطار الرد والرد المقابل حول كيفية التعامل مع المنطقة بعد طرد الأتراك.
يقول رئيس المخابرات العسكرية البريطانية: “يبدو لي أننا في موقع الصيادين الذين تقاسموا جلد الدب قبل قتله”
هذا ما حدث فعلا فمارك سايكس الذي أظهره الكاتب بصورة المدعي غير الملم بواقع المنطقة كان صاحب فكرة التقسيم التي قابلت هوى عند فرنسي متعصب كاره للإنجليز يدعى جورج بيكو. فكان الاتفاق المعروف في 1916م. اللافت أنه في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تناقش مع الفرنسيين مستقبل المنطقة كان مفوضها السامي في القاهرة يقيم مراسلات مع شريف مكة الحسين بن علي، طالبًا منه الثورة على العثمانيين مقابل مصالح منها الاعتراف بدولة عربية. لم يكن الحليفان يثقان في بعضهما، وقد سارت الأمور بينهما في تطورات انتهت إلى التقسيم الذي أقرته اتفاقية سان ريمو 1920م. قبل ذلك اتخذت بريطانيا قرارها بدعم الصهيونية لأجل الحفاظ على موقعها في الشرق الأوسط، وكسب تأييد يهود الولايات المتحدة الأمريكية لدفعهم لمؤازرة الحلفاء ضد ألمانيا.
لمواجهة تبعات ثورة العشرين العراقية، سعت بريطانيا لتنصيب فيصل بن الحسين ملكًا عليها، فيصل الذي طردته فرنسا من سوريا بعد إنذار جنرالها غورو واحتلاله لدمشق. كانت ردة فعل الفرنسيين غاضبة وراودتهم شكوك أن البريطانيين يدبرون مؤامرات لإفشال انتدابهم على سوريا ولبنان. قاوم السوريون الاحتلال الفرنسي منذ أول يوم وفي 23 يونيو 1921م نجى “غورو” من محاولة اغتيال على يد مقاومين ارتدوا بدلة الدرك السوري. ثم تطور الأمر إلى ثورة قوية شهدتها المنطقة المتاخمة لشرق الأردن الخاضع للنفوذ البريطاني (وهي جبل العرب) أعلنها سلطان باشا الأطرش الزعيم الدرزي، تعرض خلالها الفرنسيون للكثير من الهزائم والإذلال. ظل السؤال :كيف كان الدروز منظمين إلى هذا الحد؟ من أين يستمدون التكتيك والأسلحة والطعام؟ كانت أصابع الاتهام موجهة إلى ناحية واحدة، جنوبا باتجاه البريطانيين.
وحين واجه مسؤولو الاستعمار الفرنسي لسوريا نظراءهم البريطانيين بأن “والتر سمارت” القنصل البريطاني في دمشق يقف وراء التحركات السورية، واجهته الحكومة البريطانية بحقيقة أن الفرنسيين سمحوا للأتراك باستخدام السكة الحديدية التي كانت تشكل الحدود بين سوريا وتركيا لنقل الجنود شرقا نحو الحدود العراقية. فالفرنسيون كانوا يدعمون الأتراك الذين بدورهم يدعمون الانفصاليين الكرد شمالي العراق في محاولة من الطرف الأول للحصول على حصة من نفط الموصل المسيطر عليه بريطانيًا!
كانت مسألة نفط العراق وطريقة إيصاله إلى البحر المتوسط فصلا من فصول الصراع بين الطرفين، فالفرنسيون يريدون إيصاله إلى مرفأ في لبنان، والبريطانيون إلى حيفا حيث فلسطين التي يسيطرون عليها. ولأجل الانتقام من الدعم البريطاني للثورات السورية؛ جعلت فرنسا من سوريا ملاذًا للمعارضين العرب للحكم الأجنبي البريطاني في فلسطين من أمثال: المفتي محمد امين الحسيني، وفوزي القاوقجي، ومحمد الأشمر ولم تعر اهتمامًا لاعتراض المملكة المتحدة. خلص أحد القادة البريطانيين إلى أن سياستهم قد ارتدت عليهم بقوله: “لقد تقاعسنا عامي 1925 و1926 عن إظهار التعاطف الكافي مع الصعوبات التي كان يواجهها الفرنسيون أنفسهم في سوريا في ذلك الوقت. لقد استضافت السلطات البريطانية في فلسطين، وخصوصا في شرق الأردن، قطاعَ الطرق الثوار السوريين، وهذا ما علينا أن نأسف عليه اليوم”. لقد أذاقهم الفلسطينيون العذاب في ثورتهم الكبرى (1936-1939م).
الحرب السرية: 1940 – 1954م.
تحت هذا العنوان جاء القسم الثالث من الكتاب وفيه عرض للسنوات التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، فبعد الاحتلال النازي لباريس في يونيو 1940م خضعت حكومة فيشي الفرنسية بقيادة المارشال بيتان لشروط الصلح مع ألمانيا، في حين رفض قطاع من الفرنسيين ذلك، وقاد مقاومة من الخارج تحت قيادة الجنرال شارل ديجول الذي أصبح الورقة الرابحة في يد بريطانيا والحلفاء. كانت القوات الفرنسية المتمركزة في سوريا ولبنان تتبع حكومة فيشي؛ لذا لا مفرّ من القيام بعملية عسكرية لإخضاع المنطقة، وهذا ما قامت به قوات “فرنسا الحرة” والمدعومة بالأساس من القوات البريطانية. نتجت عن ذلك سيطرة ثنائية فرنسية بريطانية. في ذلك الاشتباك تواجه الفرنسيون بشراسة، ودعت حكومة فيشي جنودها إلى محاربة “العدو الوراثي” وإنقاذ السمعة العسكرية المهشمة لبلادهم. بريطانيا هي العدو الوراثي لفرنسا حتى وهي ترزح تحت الاحتلال الألماني!
استغل البريطانيون وجودهم هذا فعملوا على التخطيط لطرد الفرنسيين من سوريا ولبنان، فنفوذهم سواء كان عسكريا أم سياسيا يشكل خطرًا على الوجود البريطاني بالمنطقة، من هنا لعبت السياسة البريطانية بمطالب العرب الاستقلالية ودعمت حركاتهم وموّلتها، ونتج عن ذلك خروج فرنسا واستقلال سوريا ولبنان في عام 1946م. شعر الفرنسيون بالإذلال، وكان لا بد من الانتقام وهو ما حصل بالتحالف مع الحركة الصهيونية ضد الانتداب البريطاني في فلسطين.
الإرهاب الصهيوني
ضم القسم الرابع من الكتاب المسمى بالخروج: 1945-1949م فصلا حول الدسائس الفرنسية الصهيونية، التي تبدت فيها قذارة السياسة وتهافت الشعارات. ففي سبيل تهدئة العرب واسترضائهم حدّت السلطات البريطانية من الهجرة اليهودية إلى فلسطين كما قاومت الأنشطة الصهيونية فيها. كانت ردة فعل الصهاينة عنيفة وجندوا قواهم في الداخل والخارج عبر “الوكالة اليهودية” مستغلين ما تعرض له بعض يهود أوروبا من معاملة على يد الألمان. بعض تلك الأعمال كانت في منتهى الوحشية والغدر وكثير منها موثق ومنشور، الجديد في هذا الكتاب الدور الفرنسي فيها.
منذ ما قبل خروج الاحتلال الفرنسي من سوريا ولبنان أقام مسؤولوه اتصالات عميقة مع العصابات الصهيونية “الأرغون” و”شتيرن” بالخصوص، حيث استخدموا الأراضي السورية اللبنانية كقاعدة آمنة لعملياتهم. وفي حادث مقتل اللورد البريطاني موين في 6 نوفمبر 1944م بالقاهرة على يد أعضاء من عصابة شتيرن كان للأيدي الفرنسية دور سري كون المغدور من أبرز مؤيدي “سوريا الكبرى”. وتفجير السفارة البريطانية في روما بحقيبتين محملتين بمواد شديدة الانفجار في 31 اكتوبر 1946م، حيث كانت السفارة مركز محاولات بريطانيا الحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين للفرنسيين دور فيه. بل إن الفكرة الشيطانية التي راودت أحد الصهاينة والهادفة لتسميم إمدادات المياه في لندن ببكتريا الكوليرا، كان قد حصل على المواد لتنفيذها من معهد باستور بباريس!
وبعد قيام السلطات البريطانية بإعدام ثلاثة أعضاء من عصابة الأرغون الاجرامية، رد الصهاينة بإعدام رقيبين بريطانيين اختطفا أثناء عودتهما إلى المنزل، كان مناحيم بيجن واضحا في تهديده “في حال أعدم البريطانيون رجال الأرغون، ستبادر الأرغون إلى إعدام رجال بريطانيين عن طريق الشنق أيضا“. كما سهل الفرنسيون نقل الأسلحة المشتراة من تشيكوسلوفاكيا إلى فلسطين لتصبح في يد الصهاينة بعيد الانسحاب البريطاني. وستظل فرنسا الممول الرئيس للسلاح لإسرائيل حتى 1956م.
على سبيل الخاتمة: صورة العربي
تخلل الكتاب رؤى تبين صورة العرب والعربي سواء في ذهنية الكاتب أو الشخصيات التي شملتها الدراسة، الجامع بينها وحدة المشرب القائم على التصور الغربي، الذي يبدو أنه قارّ بشكل كبير ومستعصٍ، لن نخوض هنا حول المعطيات تحليلا وتفنيدًا؛ بل نكتفي بالاقتباسات، عبارات عارية معبرة .. وللقارئ النظر.
“إن منح العرب وعدًا بدولة كبيرة هو مجرد تضليل؛ إذ لا يمكن لدولة مماثلة أن تبصر النور. لا يمكنكم تحويل مجموعة من القبائل إلى كيان واحد قابل للعيش“. جورج بيكو.
“العرب مجرد كتلة من القبائل المتناثرة التي تفتقر إلى التماسك والتنظيم” الدبلوماسي البريطاني نيكلسون.
“فالسوريون والعراقيون الذين تطوعوا للمحاربة من أجل الشريف حسين كانوا يتشاجرون بصفة مستمرة (….) بدلا من أن يبرهنوا على ميزات الأمة التي كان يأمل بأن تطيح بالفرنسيين، كان العرب يتخاصمون باستمرار فيما بينهم” جيس بار.
“لولا قيادة لورنس لهم ما تمكن العرب من تحقيق إنجاز مماثل” جيمس بار.
“بالنسبة إلينا إن صداقة فرنسا توازي عشرة بلدان كسوريا” لويد جورج.
“بدت الثورة العربية (الثورة الفلسطينية الكبرى) عندما نصبت مجموعة من اللصوص العرب في 15 إبريل 1936م كمينا لحافلة على الطريق بين طولكرم ونابلس لنهب ركابها …“. جيمس بار.
“أشك كثيرًا في أن يقبل العرق النبيل الإقامة جنبًا إلى جنبً مع الشعب المختار لأي مدة زمنية“. جنرال بريطاني يصف العرب واليهود.
“في يوم الأحد 26 سبتمبر (1937م) قتل عدد من المجرمين العرب مساعد المفوض الإقليمي في شمال فلسطين“. جيمس بار.