قراءة في محاصرة الجبروت

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

خطاب قصيدة النثر العمانية في ضوء سياقها العربي

 

تأليف مبارك الجابري

نشر النادي الثقافي بمسقط ومكتبة الغبيراء ط١ ٢٠١٣م

 

 

يقوم هذا الكتاب على تأسيس قاعدة انطلاقة لحوار افتراضي ونقاش لم يحدث، في حد علمنا، حتى الآن. مع أنه يصرح بطموحه بوضوح: ”هذه الدراسة تطمح إلى أن توجه نظر منتجي قصيدة النثر إلى ما يعتمل داخل قصائدهم من أسباب أدت إلى أزمتها الراهنة مع الجمهور“ ص٢٧٥ ذاك أنه يقود إلى إعادة التفكير بقصيدة النثر، وبالشعر عمومًا، وهي مسألة شعرية تؤرق الشعراء، لكن كل شاعر يخضع لمؤثرات كثيرة داخلية وخارجية عادة، وتفضيلاته الذوقية، التي لا تخضع عادة إلى تأمل في حد ذاتها، أو إلى إعادة تفكير مسموع، أو حوار مفتوح كما يحضنا النقد باستمرار.

يُلقي الكتاب الضوء على القصيدة التي صار لها صوت بارز في الأدب العماني في العقود الأخيرة عبر الشعراء الذين يكتبونها والذين تختلف أصواتهم وتتعدد أساليبهم ورؤاهم، ومن ثَمّ قصائدهم، ويتيح الكتاب للقارئ أن ينظر إلى قصيدة النثر عن قرب بأدوات نقدية أكاديمية حرص الكاتب، كدأب الأكاديميين، على التأصيل لمصطلحاتها وضبط تعريفاتها. ويبقى الكتاب مهمًا بالرغم من مضي أعوام خمسة على صدوره، حيث جرت مياه كثيرة بعده، خاصة لدى الناقد نفسه الذي طالعنا برؤية أكثر توسعاً في أوراقه النقدية التي ألقاها لاحقًا.

 

ينطلق الكتاب من قصيدة النثر العربية وبدايات مجلة شعر وكتابات أدونيس ليبحث عن الجذور الأساسية لقصيدة النثر، التي يتوصل إلى أنها جذور غربية تم استيرادها وزرعها في الشعر العربي، وذلك الأمر الذي لم يخلُ من مقاومة كما يؤكد الكتاب ذلك، وهنا موضع سؤال مهم: هل قاطعت واعترضت قصيدة النثر تحولات الشعر العربي الطبيعية التي ابتدأت مراحل تحديثه في عصر شوقي حتى بلغت الملائكة والسياب؟ والكتاب لا يطرح هذا السؤال ولا يجيب عليه بالتالي بما أنه ليس من صلب موضوعه.

من تأثير مجلة شعر يعود الكتاب ليبحث عن آثار المدارس الغربية في القصيدة العمانية ويصل لاستنتاجات لافتة مثل: نجد الموضوع الرمزي الأبرز لدى زاهر الغافري هو تكريسه لصورة الشاعر كمكافح يخوض حياته شاقًا عبابها وحيدًا نحو المجهول الذي يبحث عنه، محارَبًا من قبل الآخرين كضحية مجتمع طافح بالنقمة عليه. ص٨٥، أما عند سيف الرحبي فهو عدم الرضا عن الواقع والملل منه وما يسميه الكتاب بالروح الساقط: حيث الواقع ممل بكل شيء فيه، ولذا فهو يحتم على الشاعر اللجوء إلى عالم المثال لتعويض ذلك الفراغ الذي يسببه هذا الواقع الممل. ص٦٥ أما الملمح الأبرز عند سماء عيسى فهو موضوع الموت: فالموت كما يورده في أشعاره شيء متربص ببني البشر ينتظر الفتك بهم واحدًا تلو الآخر ليلحقهم بالعالم الآخر.. وهذا الحضور العميق بهذه الصورة هو ما يجعلنا ننظر إليه كملمح رمزي بارز. ص٧١ وكل تلك الملامح الشعرية يستدل بها الناقد على تأثر قصيدة النثر العمانية بالجذور الغربية التي تأسست عليها قصيدة النثر العربية، وهكذا نجد جدولاً في الصفحة ١١٦ لأثر المدارس الغربية المختلفة من الرمزية والسريالية والوجودية على ثلاثة شعراء هم زاهر الغافري وسماء عيسى وسيف الرحبي.

 

يعطي الكتاب كذلك في خضم انشغاله قراءات لعدة قطع وسطور شعرية لعل القارئ يتفق أو يختلف معها وفقًا لقراءته، من ذلك قول سماء عيسى: الله شجرة ورد جفّت فصولها. حيث يرى الناقد ص٩٨ أن العبارة إشارة إلى ماضي النعيم حين كان الإنسان يجد الراحة تحت ظل الله والحاضر الجحيمي حيث: انمحى الظل فصار لا واقي من لهيب الشمس/ الواقع، ولا حامي للإنسان سوى أن يواصل سيره وحيدًا. ص٩٨ فيما يمكن قراءة مدار الصورة الشعرية على الأبدية حيث الرمز الإلهي بالوردة وجفاف الفصول إشارة إلى الأبدية أي ما فوق الفصول حيث الثبات والخلود.

 

يلقي الكتاب الضوء كذلك على قصيدة نثر عمانية لاحقة يراها متميزة عن التجارب السابقة التي يسميها بالقصيدة الرؤيوية المتأثرة بالحداثة، فيما يسمي اللاحقة بالقصيدة التداولية ويراها متأثرة بما بعد الحداثة ص١٩٠، ويجعل أمثلة القصيدة التداولية في أعمال: هذا الليل لي لهلال الحجري، وحياة بين شاهدتين ليحيى الناعبي، وجبال الحجر لمحمد الرحبي، وبولاق الدكرور لسيف الرحبي. ويخلص الناقد إلى أن الشاعر في القصيدة التداولية تحول إلى مجرد إنسان مبصر فيما كان في القصيدة التداولية الشاعر الرائي الملهم ص٢٠٣.

 

يخوض الكتاب كذلك في تنظيرات قصيدة النثر العمانية التي يستقيها من افتتاحيات الشاعر سيف الرحبي في مجلة نزوى، ويراها متأثرة بتنظيرات أدونيس لقصيدة النثر، الذي يجعله المنظر الأكبر ص٢١٧، وفي تلك التنظيرات تأكيد على التواصل مع التراث في جانبه المشرق، وعدم القطيعة معه مقتبسًا من الرحبي: “إذ إن القطيعة النهائية مع التراث ستؤدي إلى ”خلاء المعنى وضعف الذاكرة وتسطيحها، وإلى تشويه القيم بالوقوع.. في تبعيات الآخرين وثقافاتهم وأنماطهم“ ص٢٢٦ لكنه يشير لاحقًا إلى أن نزوى (المجلة) تحاول التأكيد بعلاقتها مع التراث على عدم غرابتها وغربتها عن التراب العماني: تأكيد (نزوى) المتكرر على العلاقة بالتراث له علاقة بأزمة تلقيها، إذ تحاول بتأكيدها هذا أن تبيّن أنها ليست غرسًا غريبًا في التراب الثقافي العماني، فبينها وبين التراث المشكل للذاكرة الثقافية العمانية والعربية وشائج قربى. ص٢٢٩.

وفي النهاية يؤكد الناقد على انتشار قصيدة النثر، لكنه يثبت عبر عدة اقتباسات أزمة تلقيها: إن قصيدة النثر بالنسبة إلى باقي الشعر العربي المعاصر هي الأوسع انتشارًا.. فإن حديثنا عن أزمة في تلقي الشعر المعاصر هو حديث بالدرجة الأولى عن أزمة في تلقي قصيدة النثر. ص٢٣٥ وذلك بوصفها الوجه الأبرز لقصيدة الشعر العربي المعاصر، ولنا أن نتساءل كقراء عن التناقض القائم بين انتشار قصيدة النثر الواسع وفي الوقت نفسه أزمة تلقيها، قبل أن نبحث الأزمة نفسها، فلا يكفي أن نعتمد رأي عبد العزيز المقالح، مع احترامه، أو رأي أي ناشر عربي، بل نحل التناقض السابق، فلا بد أن إحدى الكفتين خادعة، إما أن قصيدة النثر ليست واسعة الانتشار وإما أنه لا أزمة في تلقيها، وأن هذا حال عام، وإذا كانت الذاكرة العربية تستدعي تراثها الأسبق، فربما هو أمر طبيعي، مثلما أن استدعاء نزار ودرويش يمكن أن يكون مثل استدعاء دنقل والسياب والشابي من قبلهما، واستدعاء الفرزدق في عصر أبي تمام، وأبو تمام في عهد المتنبي، وهكذا، وأي انتشار أوسع نريده للشعر، وهل كان فعلاً بمثل الانتشار الذي نتخيل، وكيف يمكن فعلاً قياس مدى الانتشار؟

 

يؤكد الناقد أزمة التلقي عمومًا ويبحث عن أسبابها، ويشير بين الأسباب إلى أن قصيدة النثر باردة عاطفيًا، أنانية بعيدة عن تأجج العواطف، وتأملية: ناقلة بوابة استقبالها من حيز القلب إلى حيز العقل، بحيث استبدلت التأملات الفلسفية بالمحمولات العاطفية. ص٢٣٩ وقد كان لتخليها عن الوزن أثر كبير غابت معه الحدود بين الجيد والرديء. ص٢٤١، وانقطع الشاعر عن الجمهور: نفى الشاعر نفسه في برج عاجي بعيد عن مجتمعه بوصفه مغتربًا عنه. ص٢٤٢. وهكذا استحالت القصيدة محض حديث محوره ومداره الشاعر نفسه دون سواه، ف: فقد الجمهور بذلك اللسان الذي كان ينطق بهمومهم ومشاغلهم، ولم يجدوا أمامهم في أحيان كثيرة سوى نرجسيات تترفع عليهم بلغتها ومحمولاتها، فبادلوها نفيًا بنفي. ص٢٣٤ هكذا يطالب الشاعر الجمهور بالصعود إليه في جبل النخبة ص٢٥٤ أما هو فلن ينزل كما يبدو، ولذلك يصل الناقد للتساؤل التالي: أليس الشعر الشعبي أخصب شعرية من كثير من القصائد التي تصدر بالمئات إن لم يكن بالآلاف في صحفنا تحت يافطة الشعر؟ ص٢٥٥ ولا أعلم لماذا تكون المقارنة بالشعر الشعبي، لأن هذه المسألة تستحق التفاتة أعمق في وسط توجه الإعلام الخليجي لنشر الشعر الشعبي.

 

يناقش الناقد أسباب ذلك ويصل لاستنتاجات منها أن خطاب الشعر الغربي لم يتم فهمه ص٢٦٨ ومنها تتعلق بضعف الحاضر العربي: كان العرب حين ألفوا أنفسهم مغلوبين مجازًا من قبل تاريخهم الحضاري القديم، ومغلوبين واقعًا من قبل الآخر الغربي، لم يجدوا سوى أن يتقبلوا معطيات الغالبين كما هي للوصول إلى مرحلة حضارية ظنوا أن كليهما يوصلان إليها. ص٢٦٤ ومن ثمَّ فإن هناك مشكلة في العقل العربي الذي يعيش أزمة إبداع ص٢٦٩ وكذلك لم يتم قبول تحديث الشعر نظرًا لتأثير التراث الشعري السابق ص٢٧٠ وتمسك الإنسان بتراثه دليل خوف ص٢٧١ و: يعارض الخطاب الشعري العربي الجديد لأنه خطاب خارج عن التراث المحتمى به، خاضع للآخر الغربي المحتمي منه. ص٢٧٢ وفي هذا نقد للتوجه التراثي عمومًا وله وجاهة نظر تستحق العناية.

 

بنظرنا أن إلقاء الضوء على ما جاء في الكتاب يكفي لتأسيس حوار يطول ويتشعب ويمكن أن يثري التجربة الشعرية العمانية المعاصرة بنتائجه، ربما كان على كل شاعر أو متلقٍ أن يفكر فيه ويستخلص نتائجه بشكل فردي أو جماعي، لكن إعادة التفكير ضرورية، كما أن اقتصار الكتاب على ما أورده من التجارب الشعرية أخل بالصورة العامة لقصيدة النثر العمانية التي من تجاربها التأسيسية المهمة شعراء لم يرد ذكرهم في الدراسة مثل الراحل محمد الحارثي، وعبدالله الريامي، وصالح العامري، فضلاً عن الجيل اللاحق كعبدالله البلوشي، وعلي المخمري، الذين قدمت تجاربهم رؤى وبصيرة متفردة لقصيدة النثر والشعر العماني.

 

أدب الثالث بعد المئة

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد