مظاهر الحداثة في القصة القصيرة

الكاتب في ألفيتنا , صار يهتم بالجمهور , رغم اعتراضي الشديد على نظرية الكتابة للجماهير , فإن الظاهرة قد أخذت بعدا ايجابيا , لأن هنالك الكثيرون ممن يميلون لهذه النصوص الجديدة , وقد تعطي صاحب القلم دفعة للاستمرارية وتفاؤلا بمبيعات أعلى لمنتجاته !. رغم ذلك يعاود السؤال طرح نفسه كلما هب القاص للخلود للنوم : كيف أنال الاعتراف من سلاطين الأدب ؟. وأرى انها مسألة حقا مربكة –أي مسألة الاعتراف- وتتعلق بتجاهل لانتاج أدبي فريد في المستقبل البعيد ربما !

qissah

ثورة قصصية مع وقف التجديد !

تبدو القصة القصيرة لي كأسهل الأصناف الأدبية , ولذا لجأ اليها الكثير حتى ممن لا يرتبطون بالأدب بأي شكل من الأشكال , مما يفسر حتما التجارب القصصية الناجحة لأناس بدءوا بكتابتها في آخر مراحلهم السنية , لأنها لا تتجاوز بالنسبة لهم كونها ظاهرة سرد وحكي !. على عكس الشعر الذي يتطلب خوض التجربة مبكرا لأجل التمكن من عكس المفردات على سلم موسيقى معين أو العكس ربما.

كون القصة أضحت تزاحم النتاج الشعري , ويجب الا نغفل عن حالة الكثيرين في هذا العالم الذين يتحولون من الكتابة في الشعر إلى متعة السرد. فإنه من الطبيعي أن تصاحب هذه الثورة ثراء في طرق السرد وبالتالي نجد أنفسنا وسط حالة تجديدية عفوية للنص القصصي بعيدا عن الثوابت التي وضعها النقاد وأصحاب السلطان في الأدب.

لكن المحزن في الأمر أن تتوقف هذه الحركة التجديدية ويهمل على كل من يحاول أن يتملص من ثوابت وعناصر القصة التقليدية ممثلة بالشخوص والمكان والزمان والعقدة والذروة وغيرها. وهذا هو الحاصل عربيا , فلا يمكن مقارنة القصة الغربية رغم بساطة طرحها بالقصة العربية. نحن نعلم جليا ان القصة كفن أدبي حديث ظهر في القرن التاسع عشر كما تقول المصادر. الا اننا عربيا ما زلنا نبدي محاولات خجولة للتجديد.

تجديد تقليدي !

بالنسبة للتجديد التقليدي الذي استهدف الاطاحة ببعض العناصر الاساسية في القصة وخصوصا عنصر الحبكة كان وما زال يزحف عبر استحداث نمط شاعري للقصة يزاوج بين الحدث ومونولوج الكاتب. ولهذا كانت الشاعرية تغطي بهدوء على العنصر المفقود. هنا القاص يتملص من التهمة كثيرا ويحاول أن يقول أنها قصة أو سرد تعبر عن سيكولوجية مجتمع أو واقع سياسي مثلا دون التطرق الى النهايات والتفاصيل ,و تبقى قصة لأنها بأحداث وشخوص على الأقل !

تجديد من نوع آخر !

ذلك كان حديثا بسيطا عن التجديد الذي اعتدنا عليه , لكن ماذا اذا تكلمنا قليلا عن تجديد بمفهوم آخر , تجديد يحتفظ بإبقاء عناصر القصة لكنه يحور في أغراضها , وقد يضعفها دون الغائها تماما من النص. خطر لي هذا بعد أن قمت بكتابة مجموعة لا بأس بها من النصوص القصصية القصيرة وعرضتها للنقد. فكان الاتفاق من الكثير ان هنالك ضعفا او غموضا في العناصر. لا أدري حقيقة ان كان ذلك الضعف كاف لرميها من شباك القصة. وان حدث فعلا فأي الاصناف الأدبية سيفتح الباب لتلك النصوص. سؤال معقول أليس كذلك ؟!!

الاعتراف بالانتاج الحداثي وجع رأس !

الكاتب في ألفيتنا , صار يهتم بالجمهور , رغم اعتراضي الشديد على نظرية الكتابة للجماهير , فإن الظاهرة قد أخذت بعدا ايجابيا , لأن هنالك الكثيرون ممن يميلون لهذه النصوص الجديدة , وقد تعطي صاحب القلم دفعة للاستمرارية وتفاؤلا بمبيعات أعلى لمنتجاته !. رغم ذلك يعاود السؤال طرح نفسه كلما هب القاص للخلود للنوم : كيف أنال الاعتراف من سلاطين الأدب ؟. وأرى انها مسألة حقا مربكة –أي مسألة الاعتراف- وتتعلق بتجاهل لانتاج أدبي فريد في المستقبل البعيد ربما !

اطروحات التجديد اللاتقليدي

حسنا , لأوضح كيف يمكن أن تتغير تعاريف العناصر في القصة أو كيف يمكن أن نضعف دورها , سأقوم باستعراض كل عنصر على حدة والتحدث عن حالاته المختلفة. واؤكد ان وجهة النظر هذه قد تكون شخصية حقا , لكنني متيقن بأنها ظاهرة موجودة في النص العربي وتمارس بخجل عند الكتاب , وبمعرفتها هنا يمكن أن تكون خيارا لمن يجدون قوتهم في هذه الأساليب.

الشخوص

لنبدأ مثلا مع الشخوص , ونقول بأنه جرت العادة بأن يكون الشخص في القصة هو ذلك الكائن القادر على التعاطي مع المجريات ويمتلك ردة فعل داخلية على الأقل , قد يكون انسانا , حيوانا , مخلوقا فضائيا ! . ولكن هلا تكلمنا عن امكانية ان يصبح برميل يتجول في أنحاء مدينة أن يكون بطلا للقصة ؟!! . قد يبدو غريبا حقا أن نعتبره شخصية في قصة تضج بأشخاص حقيقيين. ان الذي حدث اني اطلعت على نصوص قصصية تتحدث مثلا عن سيرة جماد معين يتأثر بالريح تارة , وأحيانا أخرى بحرارة الشمس , وأرى انها تجارب جميلة جدا فلا يوجد ما يشير لفقدان أي عنصر. والجميل في الأمر ان الكاتب استطاع ان يعزف النص بدون وجود للشخص الحقيقي !

الزمان والمكان

الزمان , الزمان مصطلح فضفاض جدا , قد يشير اننا نكتب النص ويعبر عن ثقافة أفراد في حقبة تاريخية معينة , أو ان مجرياته تحدث في ساعة معينة من النهار , أو في زمننا الحالي … الخ. قد لا يشير الكاتب صراحة للزمن وانما الأحداث وتفاصيل الأشياء قد تحكي عن الزمن. ما يلفت نظري حاليا هو وجود نصوص قصيرة تعيش تعددا في الحالة الزمنية , وهذا التعدد يكون على شكلين , اما متسلسلا بحيث يبدأ السرد بالحديث عن التفاصيل في مرحلة مبكرة ثم يعقبها بتفاصيل أخرى في مرحلة زمانية متقدمة. والشكل الثاني هو ما اسميه بالتبادل الزمني او ظاهرة بمعنى أن يكون السرد مزدوجا وكأن القاص يقارن واقع شخصية معينة في زمنين منفصلين.

البعد الزمني الآخر في النهايات

بمناسبة الحديث عن الزمان , سألقي الضوء قليلا على مسألة مهمة تتعلق بالنهايات. اعتدنا ان تكون النهاية مترافقة زمنيا مع آخر حدث في عنصر القصة البنائي. بينما كأسلوب تجديدي اتجه الكثير لانهاء القصة في بعد زمني آخر قد يكون أبعد بكثير من الأخير. وربما يجب أن اوضح ذلك بمثال من قصة كتبتها. كانت تتحدث عن علاقة حب درامية بين اثنان وشاء القدر ان يموتا , وعلى اعتبار انهما ماتا على عقيدة الحب , فكانت النهاية ان الناس قد نقشوا في افئدة الجبال سيرتهم بعد عصور. وهو ما اعنيه بإنهاء القصة في بعد زمني آخر.

المكان واللامكان !

نأتي لعنصر المكان . بالنسبة للتراث الغربي القصصي يحظى المكان بقدسية هامة , فما ان تحظى بقراءة قصة حتى تتعقد أو يلفتك تعقيد مسميات الأماكن , وهم غير ملومين حيث يولون للعنونة أهمية خاصة ومن هنا اخترعو نظاما فريدا للعنونة بدولهم , لا يهمنا ذلك الآن بقدر ما نستطيع القول ان المكان في القصة العربية واسع لدرجة امكانية اعتبار ان المكان هو بمعنى البيئة في القصة العربية. فكل تلك التفاصيل واسماء المدن لا تهم. هذا تقدم حقيقي فعلا , لكن هل وصلنا مثلا لوضعية اللامكان ؟ , أو خلق سطح مكاني لا وجود له في الواقع؟!. رغم اني اطلعت على تجربة شبيهة لحد ما وهي تجربة كانت في بعضها خيالا علميا . لكن في واقع الأمر فإن الانتاج بهكذا منهجية تجديدية اقل من القليل !

ضعف حبكة !

نعرج على الحبكة , ذلك الكائن الذي يجعل من القصة فلما أمريكيا ربما !. دائما ما أخذ يردد النقاد أن البناء الأولي الجيد للقصة هو ما يرسم الحبكة شيئا فشئ. يقصد بالبناء ذلك السيل الجارف من الاحداث المتسلسلة التي يقود لقطع مختلفة من الدراما تؤدي للقطعة الكبرى وهي الحبكة أو العقدة كما يسميها البعض. لكن يحدث أحيانا أن يكون الكاتب ضعيفا في بناء القصة فلا يصل للعقدة كما يجب , وهذا ضعف حقيقي , وعقدة ضعيفة في هذا الوضع لا يمكن اعتبارها عملا تجديديا كون الكاتب لا يعي الموقف بتفاصيله وهو يكتبه ويمكن ان اطلق عليه عيبا في التصنيع !!!

في أحيان عدة لا يمكن اعتبار موقف كهذا عيبا في التصنيع لأن الموقف في القصة يحكم. فلنتخيل مثلا ان نكتب قصة بلسان شخص يعاني من مرض التوحد , وهو ما يعني ولظروف وضعه قصورا بالتفاصيل والتحليل , فمن الضرورة بمكان ان تكون العقدة قاصرة كموقف أو كتحصيل حاصل للبناء. في هنا لا نملك الا التسليم بأن (داء التوحد) هو عقدة القصة. ولنقس عليه أمثلة أخرى.

حبكة ولكن فلسفية !

سمعنا عن صراع فلسفي قد يحتدم في أذهان الناس , لكن ماذا عن صراع يحتدم بين النص القصصي والقارئ , ذلك الصراع الذي يجعل القارئ يصل لتصوره الخاص عن العقدة أو عن السبب في كل هذه الاحداث المتلاحقة. تطغى الرمزية في هذه النصوص , حتى يصل القارئ لقناعة تامة بأن المعنى في بطن الشاعر – عذرا في بطن القاص – . في العادة تتميز هذه النصوص بقدرتها على رسم قطع كبرى من الدراما بشكل متكرر في انحاء النص البنائي لكن دون ان يكون هنالك أمل بأن تنفجر هذه القطعة وتفضح العقدة !

نهاية !

الناقد وفارس اللغة يعتبر نفسه رجل أمن مسؤول عن انتاج العالم , لكن في اعتقادي ان الاديب والقاص على الخصوص يعيش في كوكب يحكمه بنفسه , لذا يا صحاب واصدقاء الحرف لا خوف من التجديد , فليس هناك من يعتقل نفسه !

العدد السادس ثقافة وفكر

عن الكاتب

حاتم سالم عبدالله

كاتب ومدون عماني