قناديل – حفل التوقيع

وجدت مقهىً جميلاً وجديداً، جدرانه مزيَّنة بصور للوحات بيكاسو، وفضاءه مغمور بالموسيقى الكلاسيكية، كانعكاس لما قد يبعثه المكان، من تأثير على الجمهور بهكذا لوحات وألحان، كما لاحظت أنَّ المكان مزدحم بالزبائن. أعجبها ووقع اختيارها عليه، شرحت لمدير المقهى أمرها، فرحب بها وتمنى لها التوفيق، وبرأسه الحضور الذين لم يسمعوا بالمقهى وبالإعلان الذي ستنشره الصحف “كل شيء في مصلحته” شكرته رؤى بابتسامة باذخة، وأهدته نسخة من الكتاب، واتفقا على أنْ يكون حفل التوقيع مساء الأربعاء المقبل.

book

حين استلمت رؤى الثلاثمائة نسخة الأولى من كتابها الأول، قررت فوراً أنْ تعلن عن صدوره بكافة الطرق، كإعلانات الصحف والإعلانات المطبوعة، لكن أول فكرة خطرت في بالها، كانت إقامة حفل توقيع في مكان راقٍ لجذبِ الناس، وهكذا بدأت العمل، فراحت تتجول في أنحاء المدينة بحثاً عن أفضل وأشهر المقاهي، وقد أبعدت المكتبات من رأسها لقلة مرتاديها، كما أنها أرادت أنْ تفعل مثل الكُتَّاب المشهورين الذين يوقعون كتبهم في المقاهي.

وجدت مقهىً جميلاً وجديداً، جدرانه مزيَّنة بصور للوحات بيكاسو، وفضاءه مغمور بالموسيقى الكلاسيكية، كانعكاس لما قد يبعثه المكان، من تأثير على الجمهور بهكذا لوحات وألحان، كما لاحظت أنَّ المكان مزدحم بالزبائن. أعجبها ووقع اختيارها عليه، شرحت لمدير المقهى أمرها، فرحب بها وتمنى لها التوفيق، وبرأسه الحضور الذين لم يسمعوا بالمقهى وبالإعلان الذي ستنشره الصحف “كل شيء في مصلحته” شكرته رؤى بابتسامة باذخة، وأهدته نسخة من الكتاب، واتفقا على أنْ يكون حفل التوقيع مساء الأربعاء المقبل.

اطمأنت تماماً إلى المكان وبدأت حملتها الإعلانية، فأرسلت إلى جميع الأهل والأصدقاء والأقارب والزملاء رسالة واحدة عبر هاتفها: “بمناسبة صدور كتابي الأول يسرني دعوتكم إلى حفل التوقيع الذي سيقام في مقهى… الساعة الثامنة مساءً يوم الأربعاء المقبل، المشروبات مجانية، والفرصة سانحة للقاء الأصدقاء، والسمر حول كل جديد، أنتظركم بحب”

ذهبت الرسالة وكلفتها عشرة ريالات لأنها من خمسة مقاطع، أي أنَّ الرسالة بخمس رسائل ولـ 200 شخص، من بينهم أشخاص لا تعرفهم رؤى شخصياً، لكنها تعتبرهم من المهتمين بالثقافة والأدب وقد أخذت أرقامهم من صديقاتها وأخواتها، المال في هذا الوقت من حياتها لا يعني شيئاً، وعلى كل حال، هذه العشرة ريالات وما ستدفعه للمقهى ثمناً للمشروبات المجانية أيضاً، لا يهمها، رأسها مزدحمٌ فقط بتفاصيل لحظة التوقيع الأولى التي تسبح في روحها بنعومة، معظم من أرسلت لهم رد مهنئاً ومباركاً، والبعض رد مستفسراً عن مصدر الرسالة، وكانت فرصة لكي تعرف رؤى بنفسها.

انتظرت مرور الأيام بشغف يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، ما كان يشغل بالها هو نساء عائلتها وقريباتها، تُرى كيف يتقبلن الوضع، وهل سيحضرن ومعظمهن شغوفات بالموضة والتجميل والملابس فقط؟ هل سيفرحن لها وهي قريبتهن ويدعمنها بحضورهن، ياااه كم ستكون سعيدة لو حضرن، واشترين كتابها الذي لا يعادل ثمنه أرخصَ قلم للشفاه، تمنت حضورهن بقوة، ومنعت نفسها من أنْ تتصل بهن، وتسألهن إنْ كن سيحضرن أم لا، فقد خشيت سخريتهن.

قبل الحفل بساعة كانت في المقهى، تستجمع أنفاسها وتترقب أول قادم، كل شيء حولها يبدو فاتناً ويليق بكتابها، المقهى نفسه، الأضواء، بيكاسو، الموسيقى والطاولة التي صفَّت عليها كتابها، الكرسي الماروني الذي ستجلس عليه وقلمها البسيط الجديد الذي اختارته من بقالة بجانب البيت وأخرجته من بين أنقاض الأدوات المدرسية المبعثرة هناك، كانت تريده شبيهاً بقلمها وهي في الابتدائية، القلم الفرنسي كما كان يُسمَّى والذي اشتهر في تلك الفترة.

مرت ساعتها الإضافية، ومرت نصف ساعة أخرى لم يحضر فيها أحد، شربت قهوة وطلبت شاياً وعصيراً، والوقت يمر بطيئاً كالعادة في حالات الانتظار، تسترق النظرة تلو الأخرى إلى مدير المقهى والزبائن، فتراهم يتناقلون نظراتهم نحوها متسائلين مستفسرين، فتصاب بالحرج وتطلب كوكتيلاً بارداً… قالت لنفسها لا بد أنَّ المثقفين كعادتهم يتأخرون دائماً، لكنهم يأتون، وبالفعل، وبعد دقائق معدودة حضر خمسة شباب، قدموا لها التهنئة وشجعوها، واشترى كل واحد منهم نسختين من الكتاب، وقَّعت على النسخ لهم ولأصحابهم،  ثم حضر زوجان من زملائها بالمكتب، وثلاثة وجوه مألوفة من الكُتَّاب، وقَّعت لهم جميعاً بمحبة وبهجة.

عند التاسعة وأربعين دقيقة كان الإحباط والحزن يأكلانها، ونظرة الحقد على وجه مدير المقهى، من قلة الحضور، وما إنْ بدأت تجمع كتبها بيدين منهكتين من دحرجة القلم بين يد وأخرى، حتى رأت مجموعة جيدة من السيدات تتقدم نحوها، أثرن الدهشة في المكان، فقد كن متأنقات بصورة ملفته، إكسسوارات كثيرة، وجوه ملونة، ملابس فخمة، معظمها من الشيفون اللامع، اقتربن منها، وكن: ريم، ليلى، عالية، أسماء، مريم، رجاء وشروق وغيرهن من بنات وسيدات العائلة، قبّلنها على خدها مباركات مهنئات، وعيناها معلقتان ما بين صدورهن ورؤوسهن، رحبت بهن بكلمات كانت تخرج بصعوبة من فمها، وجلست كي تعرفهن بالكتاب، لكنهن يدرن رؤوسهن بالمكان، ويصدرن همهمات إعجاب به، ويسألن عن الحضور، قالت رؤى إنَّ عدداً قليلاً حضر حتى الآن، وإنها كانت على وشك الخروج حين ظهرن، قلن لها لا بأس الوقت ما زال مبكراً ونحن هنا من أجلك.

طلبت لهن ما اخترن من مشروبات، وجلست على طاولتها وحيدة، بدون أنْ يقتربن من كتابها، تراقب حركاتهن، متوجسة من حضورهن بهذه الصورة، ومحرجة من الموجودين في المقهى بسببهن، إلى أنْ لاحظت أنهن بدأن يقلقن، فتأكدت أنَّ ثمة سراً، وقررت ألا تترك نفسها أسيرة الهواجس، فاقتربت منهن وقالت:

ألن تأخذن الكتاب، ألن تتصفحنه؟

بلامبالاة ردت إحداهن: آه.. حسناً ولكن بعد الحفل.

سألت رؤى باستغراب: أي حفل؟

حفل التوقيع، أجبنها بابتسامةٍ ملونة.

أدب العدد السابع

عن الكاتب

أزهار أحمد

كاتبة وإعلامية عمانية