في ذكري حرب العاشر من رمضان (حرب أكتوبر): كتاب الفريق الشاذلي الممنوع من دخول مصر


shathli1

” بدأت حرب بين العرب و إسرائيل”. التفت إلي والدي قائلا. كنت جالسا إلى جواره قبل ساعة من الإفطار في رمضان عام 1393- 1973 ينتظر، كعادته رحمه الله، نشرة الأخبار من إذاعة الكويت الساعة الخامسة بتوقيت السلطنة. و لا أذكر مما كان يقوله مذيع النشرة الكويتي إلا عبارة الجبهتين المصرية و السورية. هرعت إلى سوق البلدة القديمة، طاقة،  لأخبر من لقيت ممن اعرفه . و لم يكن لنا حديث طيلة رمضان ذاك سوى الحرب و الدعاء.

بدأ الهجوم المصري – السوري المفاجئ في الرابعة عصرا بتوقيت السلطنة. و اسقط في يد الإسرائيليين الذين كانوا يحتفلون بيوم كيبور أو عيد الغفران اليهودي و لجان الاستخبارات جميعها قد استبعدت نشوب حرب. أو كما قال هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق في مذكراته “سنوات البيت الأبيض” بأنهم (أي الإسرائيليين) رأوا الأشجار و لكنهم لم يروا الغابة. و بحلول مساء ذلك اليوم بتوقيت القاهرة كان الجيش المصري قد نحج في عبور قناة السويس و اقتحام خط بارليف الحصين بأقل خسائر متوقعه ( 550 شهيد مقابل ما توقعته المصادر العسكرية الدولية بعشرين ألف قتيل). و تمكن المصريون من صد الهجوم الإسرائيلي المضاد يوم 8 أكتوبر و دمر جنود المشاة، في سابقة تاريخية ( تصدي المشاة للقوات المدرعة)  لواء مدرعات بالكامل و اسروا  قائده و بلغت خسائر الإسرائيليين حتى مساء ذلك اليوم 500 دبابة. لذلك وصفت مجلة الايكونومست (عدد 7 يناير 1981) عملية العبور التي أطلق عليها الجيش المصري “عملية بدر” تيمنا بغزوة بدر الكبرى بأنها أجرأ ضربة يقوم بها جيش في العصر الحديث منذ  الإنزال الأمريكي على ساحل أنشون في الحرب الكورية عام 1950. و بأنها “عملا فذا بالنسبة للعرب في تاريخيهم الحديث”.

جاء تقريض الايكونومست في معرض تقريض عن مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب الجيش المصري في الحرب عن الحرب. التي نشرت باللغة العربية حتى اسم “حرب أكتوبر” و باللغة الانجليزية تحت اسم

Crossing of Suez ، عبور السويس. و قد صدرت مؤخرا طبعة جديدة مزيدة من النسخة العربية. و من المحزن أن الكتابين ممنوعين من دخول مصر حرسها الله حتى كتابة هذه السطور! ربما لأنهما يخالفان الرواية الرسمية عن الحرب التي طرحتها و تطرحها وسائل الإعلام  الرسمية و التي قدمها الرئيس الراحل السادات في خطبه للشعب و في مذكراته “البحث عن الذات”. و يتعلق الأمر برمته بثغرة الدفرسوار يوم 16 أكتوبر و الخلاف بين السادات و الفريق الشاذلي في طريقة التعامل معها عسكريا و افتراء السادات بهتانا على الشاذلي بقوله انه رجع من الجبهة يوم 19 أكتوبر منهارا و طلب سحب جميع القوات المصرية من شرق القناة إلى غربها. و هو ما نفاه لاحقا في مذكراتهم، بعد وفاة السادات، شهود عيان أهمهم الفريق الجمسي الذي كان مدير عمليات الحرب و اللواء عبد المنعم  خليل قائد الجيش الثاني في الحرب بعد 14 أكتوبر.

shathli2shathli3

فما هي ثغرة الدفرسوار و ماذا كانت إرهاصاتها على نتائج الحرب على الجبهة المصرية؟

في 16اكتوبر تمكنت قوة إسرائيلية صغيرة، سبع دبابات من فرقة شارون مع قوة من المظليين، من استغلال ثغرة بين انتشار الجيشين المصريين الثاني و الثالث شرق قناة السويس و العبور إلى غرب القناة. بحلول 18 أكتوبر وصل عدد القوات الإسرائيلية في منطقة الدفرسوار خمسة ألوية مدرعة و لواء مظليين ليس في مواجهتها من الجانب المصري إلا لواء مظلات و كتيبتي  صاعقة. و ذلك أن القوات المصرية المدرعة غرب القناة الفرقة 21 و اللواء المدرع 4 عبرت إلى الشرق من اجل تطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر بضغط و أمر من السادات رغم رفض رئيس الأركان الشاذلي ( يفصل الشاذلي في كتابه أسباب هذا الرفض و أسباب فشل الهجوم).

عاد الفريق الشاذلي إلى غرفة العمليات يوم 20 أكتوبر (بعد زيارة قيادة الجيش الثاني اثر فشل هجوم 14 أكتوبر) و أوصى  بمناورة بالقوات تشمل سحب  أربع ألوية مدرعة من الشرق للانضمام إلى  لواءين مدرعين مازالا في غرب القناة للهجوم على القوات الإسرائيلية في الدفرسوار و لإعادة التوازن للترتيب الدفاعي إلا أن وزير الحربية أحمد إسماعيل عارض ذلك و تم استدعاء الرئيس السادات الذي بدوره عارض ذلك.

في 22 أكتوبر خرق الإسرائيليون قرار وقف إطلاق النار و اندفعوا نحو مدينة السويس جنوبا و ليس أمامهم أية قوات مصرية فتمكنوا يوم 24 أكتوبر من قطع طريق السويس و حصار الجيش المصري الثالث غرب القناة . في الوقت نفسه نجح المصريون في صد تقدم المدرعات الإسرائيلية نحو مؤخرة الجيش الثاني في الشمال و نحو طريق الإسماعيلية-القاهرة.  بيد أنهم استعملوا  سلاحهم الجوي بحذر و تحفظ رغم الأضرار البالغة التي ألحقتها المدرعات الإسرائيلية التي اندفعت من الدفرسوار بحائط الصواريخ ارض – جو غرب القناة الذي حيد هجمات الطيران الإسرائيلي على القوات المصرية شرق القناة و الحق به خسائر فادحة قبل تعرضه لهجمات المدرعات الإسرائيلية هذه.

توقفت الحرب على الجبهة المصرية في 28 أكتوبر على هذا الوضع . و بحصار الجيش الثالث فقدت مصر المبادرة عسكريا و سياسيا و ضعف موقفها في مفاوضات فك الاشتباك. لكن المصريون أعادوا حشد 700 دبابة أمام القوات الإسرائيلية غرب القناة من الجسر الجوي السوفييتي . و حسب ما يقول المؤرخ العسكري الفذ تريفور دبيو في كتابه Elusive Victory: The Arab-Israeli Wars ، النصر المراوغ حروب العرب و إسرائيل (صفحة 383) :

” إذا كانت الحرب هي استخدام القوة العسكرية لدعم الأهداف السياسية فما من شك من ناحية إستراتيجية و سياسية أن الدول العرب خاصة مصر انتصرت في الحرب رغم أن النتيجة العسكرية  كانت مأزق “كش ملك” سمح للطرفين بإدعاء النصر العسكري”.

لا يفند كتاب الفريق الشاذلي “حرب أكتوبر” مزاعم السادات الخاطئة في خطبه للشعب و في كتابه “البحث عن الذات” عن موضوع الثغرة فحسب بل يفصل تفصيلا مثيرا خطة العبور و يوميات الحرب . و نقطته الرئيسة هي أن الحرب درس للأمة و جنودها التالون و أن هذا الدرس يجب أن لا يحجب عنهم . يقول ص 332 ( الطبعة الرابعة 2003):

لذلك فان الدروس المستفادة من كل حرب تعتبر ثروة لا تقدر بثمن لأنها تكون رصيدا للدولة إذا ما اشتركت في حرب أخرى. بل أن كل الدول تسعى للحصول على الدروس المستفادة من الحروب التي لم تشارك فيها. و هذه الدروس المستفادة لا يمكن التوصل إليها إلا إذا عرفت الأخطاء التي ارتكبت بواسطة احد الأطراف المتنازعة و أدت إلى هزيمته أو أدت إلى وضعه في موقف صعب. و إن اكتفاءنا بذكر الأعمال المجيدة التي تمت خلال حرب أكتوبر و عدم ذكر الأخطاء التي ارتكبت يمكن أن يولد لدى الأجيال التالية شعورا بالتفوق الزائف  الذي قد يؤدي إلى ارتكابهم نفس الأخطاء التي ارتكبها آباؤهم و أجدادهم. و لذلك فانه بجب علينا أن نعترف بأنه رغم النجاح الباهر الذي حققناه بعبورنا قناة السويس و تدميرنا خط بارليف في 18 ساعة فقد ارتكبنا سلسلة من الأخطاء. إن تطوير الهجوم يوم 14/10 كان قرارا خاطئا و هو الذي أدى إلى وقوع الثغرة ليلة 15/16 أكتوبر.و أن عدم المناورة بقواتنا المدرعة و استغلال خفة حركتها لكي تتصدى للقوات المدرعة الإسرائيلية التي عبرت إلى الغرب كان تصرفا خاطئا.فقد كان يجب علينا أن نناور بقواتنا حتى يمكننا حشد القوات بالحجم المناسب في المكان المناسب و في الوقت المناسب. كان إصرار السادات و وسائل الإعلام الحكومية المصرية على وصف ثغرة الدفرسوار بأنها معركة تليفزيونية هو وصف ديماجوجي و مضلل“.

رغم أن مصر و سوريا  لم تستعيدان سوى جزء يسير من الأراضي التي خسرتاها في حرب حزيران 1967 إلا أن المصريين و السوريين حاربوا بشجاعة و جلد و اظهروا مهارة فنية عالية. و استعادوا للأمة المجروحة كرامتها و حطموا أسطورة الجيش الذي لا يقهر.

لقد توفي والدي منذ سنين.و قد ذكر لي مرة بأنهم في عام 1948 صلوا صلاة الغائب في مسجد الجامع بصلاله على شهداء فلسطين. و هي أول حروب مصر مع إسرائيل و قد شارك فيها سعد الدين الشاذلي و هو ضابط صغير في الجيش المصري. و قد زرته في شقته المتواضعة بشارع بيروت في القاهرة عام 2007 لأودي له حقه من السلام و الزيارة. و لأنال شرف توقيعه على نسخة من كتابه  اشتريتها  من موقع أمازون دوت كم ( يمكن تحميل هذا الكتاب و كتب الفريق الشاذلي الثلاثة الأخر مجانا من موقعه على الانترنت /www.el-shazly.com ). قبلت يده عند باب الشقة و ودعته  و أنا أقول في نفسي  الم يأن  لحكومة مصر و مؤسساتها الرسمية إعادة الاعتبار  إلى  هذا  الجندي الذي خدم مصر في  خمسة حروب و عده عسكريون غربيون  من الضباط الأفذاذ القلائل الذين أنجبهم العالم الثالث ؟

لكن مما لا شك فيه انه لا يمكن إخفاء التاريخ أو تزييفه تزييفا لا ينكشف أبدا.

* اهدي هذا المقال إلى ذكرى الجنود العرب الذين قضوا نحبهم في حرب أكتوبر- رمضان على الجبهتين المصرية و السورية، 8500 شهيد.

العدد الثامن سياسة

عن الكاتب

محمد عبدالله العليان

إعلامي عماني و عضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين ISWA