بروبجندة الولاء: قراءة في صناعة البروبجندة العمانية (الجزء الثاني)

لذا كان لا بد من العمل على تأطير الانتماء نحو شخص السلطان نفسه من خلال ما نسميه قوبسة الفعل، وهي ربط كل فعل جيد تقوم به الحكومة لصالح المواطنين بالسلطان مباشرة، وبهذا تتحصل عدة نتائج أهمها ضمان عدم وجود أية محاولات انقلاب على السلطان الجديد وأخذ كل كلمة يقولها على أنها مقدسة ومسلمة لا مراء ولا جدال فيها.

qaboos4

الاحتفالات والأناشيد الوطنية

من المظاهر التي دخلت حديثا على المنطقة العربية هي الاحتفالات الوطنية السنوية، والتي عادة ما يستجلب فيها طلاب المدارس لإقامة عروض تعبر عن الحب والولاء للنظام القائم. هذا المظهر يبدو انه استجلب من الدول الشيوعية حيث يكثر في دول مثل الصين وكوريا الشمالية وغيرها، ويغيب عن الدول الديموقراطية. وربما رأى منظّرو البروبجندة العمانية نجاح هذا النوع من الاحتفالات في عملية “برمجة” هذه الشعوب بأهمية وجود الأنظمة الشيوعية فعمدت إلى تطبيقها على المجتمع العماني. ويبدو أن العمانيين قديما وحديثا يجدون شيئا من المتعة في التفاعل مع هذا النوع من الاحتفالات، حيث نجد حالة من الترقب لدى الكثير من فئات الشعب لماهية ونوع اللوحات الاستعراضية التي ستقدم، وعن جمال القصائد المغناة التي ستنتشر، كما تسود حالة عامة من الجدل حول التعابير التي يوحي بها السلطان خلال مشاهدته للحفل وان كان قد حاز على إعجابه أو سخطه أو إن كان سيتفاعل عاطفيا مع احد المشاهد.

ثالوث القداسة الوطنية

إن تحديد يوم ميلاد السلطان كيوم للاحتفال بالعيد الوطني به دلالات غير خافية على تكريس البروبجندة الإعلامية العمانية على إحلال الوطن المقدس بالسلطان المقدس وليس ربطه به. فتاريخ عمان الضارب في عمق التاريخ ليس به يوم واحد يمكن أن يكون مناسبا لأن يكون عيدا وطنيا يحتفي به العمانيون بتاريخهم وحاضرهم وينظرون من خلاله إلى مستقبلهم. حتى اليوم الذي تولى فيه السلطان قابوس مقاليد الحكم في البلاد لم يكن له اعتبار في جعله يوما وطنيا يحتفي به المواطنون. حيث يرى بعض المحللين إن اعتبار الـ 23 يوليو يوما وطنيا غير ملائم كونه يأتي في منتصف الصيف، وهو وقت إجازة طلاب المدارس من مدارسهم النظامية، كما إن درجات الحرارة المرتفعة في الصيف قد تمنع العمانيين من الخروج للاحتفاء بالعيد الوطني. لذا لم يكن في نظر مهندسي البروبجندة سوى الثامن عشر من نوفمبر لإحلاله يوما وطنيا للعمانيين.

لقد استطاعت الجهة الراسمة للبروبجندة الحكومية العمانية أن تستغل إلى الحدود القصوى هذا النوع من الاحتفالات. فحتى وقتنا الحالي ما زالت أجهزة الإعلام الرسمية تبث مشاهد أو أغاني وطنية عرضت في الثمانينيات من القرن المنصرم والتي ركزت وبشكل خاص على تقوية صورة السلطان وعلى إبراز أهمية دوره القيادي، كما كانت أيضا موجهة للسلطان نفسه حيث تظهر هذه الصور والمشاهد مدى رضا المواطنين عن الأداء الحكومي والذي يجعلهم يخرجون – كبيرهم وصغيرهم – في احتفالات باليوم الوطني. كما نلاحظ من خلال هذه الأناشيد الوطنية تركيزها على ثلاثة محاور هامة في العموم وهي الوطن، والمواطن، والسلطان، ولعل أبرز نشيدين بقيا في الذاكرة العمانية هما اوبريت صوت النهضة و نشيد عام الشبيبة، وكلا النشيدين كتب كلماتهما الأديب الراحل عبدالله الطائي والذي كان يوقعهما باسم العامري كونه كان وزيرا للإعلام في ذلك الوقت. ولسنا في معرض تحليل كلمات هذه الأناشيد، فهذا بحد ذاته يحتاج إلى جهد مستقل لتبيان كيفية صياغة الكلمات ووقعها على المتلقي، فهي وان كانت تغوص في العمق السياسي للواقع العماني وتاريخه المعاصر إلا أن لها بعدا أدبيا لا يمكن إغفاله. ما يهمنا هنا أن هذين النشيدين وضعا الهيكل الأساسي للأغنية الوطنية العمانية والتي سار الكثير من الشعراء على أثرها – وعيا أو بدون وعي. إلا أن المتتبع للأغنية الوطنية العمانية الحالية يجد تراجعا ملحوظا عن بعدي عمان الوطن وعمان الإنسان، وتركيزا شديدا على عمان السلطان – أو إن شئتم سلطان عمان. بل وبدئنا نرى غيابا لبث بعض الأغاني الوطنية في أجهزة الإعلام العماني التي تغنت بالمواطن العماني مثل أغنية حكم عائل والتي تقول كلماتها (كنت بالأمس عماني – وأنا اليوم عماني – وغدا أبقى عماني – ومدى الدهر عماني)، في الوقت ذاته نجد حضورا لأشعار متلفزة تصل بعضها إلى الإدعاء بأن وجود السلطان قابوس على كرسي الحكم اليوم هو اختيار إلهي بامتياز (قصيدة لك الولاء للشاعر خميس المقيمي، قصيدة صهيل الود لهلالة الحمداني)، فعلى الرغم من تغني كلا الشاعرين بعمان إلا أن في القصيدتين تغييب شبه تام للمواطن العماني خارج المنظومة السلطانية، وربط مباشر بالنعمة التي تنعم بها عمان اليوم هي ما كانت أن تكون لولا السلطان قابوس. ونستطيع أن نقيس هذا الغياب للمواطن العماني عن معظم الأغاني الوطنية الحالية لولا وجود استثناءات بسيطة مثلما نرى في أغنية تمصيرة العز لحميد البلوشي، فعلى الرغم من بساطة الكلمات وكتابتها باللهجة العامية إلا أنها استطاعت أن تعيد التوازن إلى الأغنية السلطانية التي هيكل بدايتها الأديب عبدالله الطائي، حيث نجد حضورا قويا للإنسان العماني في القصيدة، فالقصيدة تبدأ بالثناء على عمان ثم على الإنسان العماني معقبا ذلك بالدعاء للسلطان ومن ثم العودة مرة أخرى إلى التغزل في عمان مرة أخرى .

إحداثيات الولاء

إن واحدة من اكبر التحديات التي تواجه أية أمة هي تعزيز ثقتها بنفسها وقدرتها على تغيير واقعها والعمل من اجل حياة أفضل. و أحد أهم هذه الوسائل التي يمكن من خلالها تعزيز ثقة المواطن بنفسه هي مدّه بآلة دعائية إعلامية موجهة تعمل على هذا الأساس. ومن الأمثلة التي نضربها هي ما قام به رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد عندما أطلق حملة 2020 والتي زرع فيها أهمية تعالي الإنسان الماليزي على الأصول الإثنية التي ينتمي إليها والوصول إلى أهمية أن يرى المواطن الماليزي نفسه على أنه ماليزي قبل أن يكون هندي أو مالاي أو صيني. وقد قامت الآلة الإعلامية الماليزية حينها بوضع لافتات كبيرة في شوارع العاصمة الماليزية تحمل شعار 2020 ولا يمكننا أن نغفل عن الثورة الاقتصادية التي قادها مهاتير في ماليزيا واضعة إياها دولة اقتصادية نامية وقادمة بقوة لتضع بصمتها على خارطة الدول الاقتصادية الكبرى. كما أيضا لا يفوتنا أن نعطي مثالا من القران الكريم على أهمية تعزيز قيمة الفرد داخل المجتمع وإحساسه بالانتماء إليه حيث يقول المولى عز وجل (كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) إذا فتعزيز مكانة الفرد في محيطه وإحساسه بالانتماء إليه أمر أساسي لأية دولة / امة ترغب في ترسيخ استقرارها ناهيك عن نموها وازدهارها. فهل كان تعزيز ثقة المواطن العماني بنفسه أحد أولويات صانعي البروبجندة الإعلامية العمانية؟.

للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من قراءة إحداثيات الولاء في المجتمع العماني عند تولي السلطان قابوس زمام الأمر في السلطنة. ونستطيع استقراء هذا الأمر من خلال ثلاثة دوائر خاصة، الدائرة الأولى والأكثر خصوصية هي دائرة الفرد نفسه وإحساسه بقيمته الذاتية أولا وقيمته لدى من يتولى رعايته ثانيا. الدائرة الثانية الأقل خصوصية هي دائرة الحس الوطني وهو انتماء الفرد إلى وطن معين محدود بجغرافيا معينة. والبعد الثالث هو الإحساس القومي / العقائدي العام وهي الدائرة الأوسع التي ينتمي إليها الفرد والوطن وهي التي تضم كل الدوائر الأخرى. كما إن قراءة الوضع لا يمكن أن تستكمل دون ضم اعتبارات أخرى هامة مثل المكان والوعي الفكري والمستوى الاقتصادي.

فمن حيث المكان فأنه بإمكاننا تقسيم وجود المواطن العماني قبل عام 70 إلى ثلاثة أماكن رئيسة وهي عمان، دول الخليج العربي، ودول شرق إفريقيا، وهذه هي الأماكن الثلاثة التي تمركز فيها العمانيون بشكل عام. الوضع الاقتصادي والوضع التعليمي النظامي داخل عمان كان مزريا بشكل عام مما أدى إلى تراجع مستويات الدوائر التي قسمناها سابقا ليصبح الاهتمام بالدائرة الأضيق وهي الدائرة الذاتية مما حدا إلى تقديم الولاء لمن يستطيع توفير الأمن والاستقرار الاقتصادي النسبي، لذا نشطت القبيلة والانتماء القبلي في هذه الحالة . إما في حال المدن التي تتمتع بوفرة سكانية أعلى وبتنوع قبلي واستقرار اقتصادي نسبي واكتفاء ذاتي فالحس المناطقي كان اعلي في مثل هذه الحالات.

أما في منطقة الخليج العربي فقد كان الوعي الفكري أعلى والوضع المعيشي أفضل لذا كان الحس الفردي الذاتي متشبعا إلى حد ما، عندها ازدهر لدى الكثير الحس الوطني وكذلك الحس القومي العروبي. وفي منطقة شرق إفريقيا لا يختلف الأمر كثيرا عن منطقة الخليج العربي سوى أنها كانت منطقة أكثر تعددية لذا فإن التفاعل الفكري والثقافي مع الأحداث القومية الجارية كان على أشده فشهدت المنطقة ميلاد مؤسسات ثقافية وتفاعل سياسي وجمعية عربية تعنى بشؤون المهاجرين الجدد من العرب، كما أن وجود نظام سياسي مستقر ومتكامل ومرتبط تاريخيا وعشائريا بعمان الأم وفر المظلة اللازمة للأفكار التقدمية السياسية في النهوض، بل وتعداه إلى التغيير السياسي السلمي.

qaboos13

قوبسة الفعل

قدم السلطان قابوس إلى سدة الحكم ليجد أمامه انتماءات مختلفة، وولاءات متعددة، ووضعا اقل ما يوصف به انه وضع معقد للغاية. فالغالبية العظمى من المواطنين يمكن تصنيفهم في الخانة الأولى وهم أصحاب الولاءات القبلية او المناطقية، والقسم الثاني هم أصحاب الحس القومي العروبي وفي بعض الحالات الحس الشيوعي الأحمر، والقسم الثالث هم أصحاب الفعل السياسي واللذين فقدوا في غمضة عين كل ما ملكوه لقرون بفعل الانقلاب المدبر الذي أطاح بالسلطنة العمانية في شرق إفريقيا عام 1964. لذا كان لا بد من العمل على تأطير الانتماء نحو شخص السلطان نفسه من خلال ما نسميه قوبسة الفعل، وهي ربط كل فعل جيد تقوم به الحكومة لصالح المواطنين بالسلطان مباشرة، وبهذا تتحصل عدة نتائج أهمها ضمان عدم وجود أية محاولات انقلاب على السلطان الجديد وأخذ كل كلمة يقولها على أنها مقدسة ومسلمة لا مراء ولا جدال فيها. فإزاحة السلطان تعني إزاحة “النعمة” التي يتمتع بها العمانيون. ولنعطي مهندسي البروبجندة حقهم نقول أنهم نجحوا وبشكل منقطع النظير في هذه النقطة بالذات، خصوصا عند جيل ما قبل السبعين. فقوبسة الفعل كانت وما زالت أكثر ما عملت على تكريسه الآلة الإعلامية في عقول المواطنين. قوبسة الفعل عن بدايات “الفجر الجديد” كان لها ما يبررها، فظهور السلطان في المدارس والطرقات ووقوفه على المشاريع صغيرها وكبيرها كان له أثر بالغ في تعزيز ثقة المواطن العماني بالسلطان، وقدرته على إحداث تغيير للوضع القائم. هذا الأمر رفع من شأن السلطان، وربما نستطيع القول أن الآلة الدعائية ربما رفعته إلى مقامات أعلى أوصلته إلى درجة المقدس.

الجيل الجديد ضد العهد الجديد

إلا أن قوبسة الفعل بدأت تفقد بريقها لدى جيل الثمانينيات والتسعينيات خصوصا، فمع وجود حكومة مركزية يفترض أنها تملك زمام المبادرة لا يمكننا استساغة أن يكون كل فعل تقوم به الوزارة هو بناء على توجيهات السلطان. قوبسة فعل الحكومة اليوم يضر بها ولا يقويها، ويفقد ثقة غالبية الشعب بها ولا يعزز من قيمتها. فمع وجود معظم أبناء السلطنة في سن يافعة تتلقى خطابا يأتي من السماوات الإعلامية المفتوحة على كل شيء ومع خروج المواطن العماني عن محارة السلطنة إلى بحور العالم الواسعة واطلاعه على تجارب الآخرين وخبراتهم .. مع كل هذا لا يمكننا أن نتصور كيف بالإمكان أن تعزز صورة الحكومة عندما لا يتمكن وزير من إصدار قرار بجمع مخلفات إعصار مر بالمنطقة دون وجود “توجيهات سامية”، ولا يمكننا تصور كيف لا يمكن لوزير الاقتصاد رفع سقف الرواتب للمواطنين مع تدني مستويات العيش دون “مكرمة سامية” ولا يمكننا تصور ان لا يهتم وزير الثقافة بالقصيدة الشعبية دون “أوامر سامية” لإقامة مؤتمر للشعر الشعبي. أو أن يهتم وزير الزراعة – أو ما تبقى منها – بإنشاء خطة إنقاذ وطنية للنخلة العمانية دون وجود “توجيهات سامية” بزراعة مليون نخلة!.

أن هذه القائمة الطويلة والتي ذكرنا جزءا يسيرا منها تجعلنا نتساءل وبصدق عن مدى فاعلية هذه الحكومة المكتنزة بالدهون المشبعة – والتي تحمل ما يزيد عن 30 حقيبة وزارية – أن كانت فعلا لا تستطيع أن تتحرك أو تخطط لما فيه ضمان مستقبل أبناء هذا الوطن ومواطنيه دون الأوامر السامية !!. إن قوبسة فعل الحكومة اليوم يظهرها بمظهر العاجز أمام الجيل الجديد، وأنتج حالة فصام بينها وبين الجيل الجديد والذي ما عاد يستسيغ اسطوانات صناع البروبجندة في عمان، فتفشت بين أفراد هذا الجيل شائعات – صدقا كانت أم كذبا – عن تفشي السرقات والفساد بكل أنواعه بين أروقة الحكومة. فهل تفطن مهندسو البروبجندة لحالة الفصام هذه؟ وهل قاموا باستغلال وسائل إعلام الجيل الجديد لإعادة تشكيل بروبجندة الولاء القابوسية؟ وهل ساهم إدخال “قوبسة الفكر” في استعادة الجيل الجديد إلى حظيرة الولاء؟ هذا ما سنتعرض له في الجزء الثالث بعون الله.

العدد التاسع سياسة

عن الكاتب

المعتصم البهلاني

رئيس تحرير مجلة الفلق الإلكترونية