الإنسان كائن زمني متأرجح

كان مما كتب على المزاول الشمسية التي ابتكرها الإنسان القديم لمعرفة أوقاته النهارية : الساعات سهام الزمن ، من هذه السهام سهم مجنح بالموت ، و هي عبارة تحمل بين حروفها القوة الخفية للزمن بوصفه المتغير المستقل الذي ينتصر على الأحياء و يكتب لها الفناء . و هي عبارة لا تخلو من معاني التوتر و القلق الإنساني تجاه الزمن الذي تحدثه الأجرام السماوية بحركتها الأخاذة .
تعلن الشمس كل صباح بدء يوم جديد و في دورانه الأوسع يحكي القمر حكايات شهر مضى و يمتد الزمن لتتعاقب الفصول و تنضج السنين . يسير النظام الزمني في مسار أشبه بطريق ذو اتجاه واحد لا رجعة فيه ، لا فرار منه لا سكون و لا انعطاف ” خط مستقيم ممتد إلى مالا نهاية ” كما وصفه المفكر الإنجليزي جون لوك John Locke. و بينما هو كذلك فإن الإنسان – تشاركه بقية الأحياء – لا يتفاعل فيه وحسب و إنما يتفاعل معه و يستجيب له ، فالإنسان – دون سواه من الأحياء – ليس بكتلة بيولوجية ملقاة عل الأرض تنشط بمثيرات خارجية محضة ، و إنما هو كائن زمني متأرجح بين أبعاد الزمن ، يجمع في رأسه الماضي و المستقبل و الحاضر . كائن زمني اختار أن يشعر بالزمن ، ينتقي منه لنشاطه ما يناسب مزاجه ، يفهمه و يدركه و يحلله و يفهرس أحداثه في ذاكرته . كائن زمني لا يحمل بين جوانحه نظاما فسيولوجيا فحسب و إنما تتفاعل في داخله عمليات نفسية psychological functions لا تكاد تفترق عن مسار الزمن. ” إن الزمن هو شكل منأشكال أحاسيسنا الذاتية ، بل هو نشاط ذهني مجرد ” هكذا و صف كانت Kant الزمن “مقولة من مقولات الذهن الداخلية” . الإنسان هو أكثر الأحياء حساسية للزمن و أكثر الموجودات شقاء به ، و هو في داخله يجثم على صدره . لقد عرف الإنسان الأول من الأجرام السماوية ما وهبته له من تقسيمات طبيعية للزمان ، فعرف من الشروق معنى اليوم و من القمر معنى الشهر و من الأرض تسبح في مدارها معنى السنة ، لوحة جميلة ترسمها الكواكب و النجوم . لكن الإنسان الحديث لم يكتف بما أملته له الطبيعة من تقسيمات فأدخل في منظومته البشرية الساعات و الأسابيع . بل راح يتحرى في مسيرة حياته الدقة في القياس و التقليل من نسبة الخطأ و توحيد اللحظة الزمنية بين مشارق الأرض و مغاربها مستفيدا في ذلك بما وهب له الإله من قدرة بالغة للتعلم . ثم بدا و كأنه مهووسا بالزمن ، قسم يومه في نظام فائق إلى ساعات و دقائق و ثوان و أقل من ذلك ، و وثّق كل ما يعترضه من أحداث زمنية ، كتب في سجلاته تاريخ ميلاده و أوقات عمله و عبادته و ساعات سفره و لحظات فراغه و إيقاعات حياته اليومية و يوم وفاته . أضحى الزمن بالنسبة لإنسان اليوم ساعة على معصمه و مذكرة في معطفه بعد أن ضاق بها رأسه . إنسان اليوم ، ماذا يصنع لو فقد ساعته في طرقات المدينة المزدحمة ، و كم من عبئ يثقل كاهل من يساير الحياة بنمط زمني غير متزن ، و هل كان إنسان الأمس الذي أدرك أن في الحياة وقت للإنجاز يعقبه وقت للراحة أقل بؤسا من إنسان اليوم ؟
لقد اتخذ العالم من حولنا مسار التجديد و التطوير و تسارعت إيقاعاته و تنوعت معطياته و تتابعت خطواته في قفزات مترامية ، و أصبح من حسن صنع الإنسان أن يدرك كنه الزمن و يبتعد عن مطباته و يألف جواره و يحذر سهامه ، فنحن -كما يقول روى بورتر Roy Porter – جميعا أبناء الزمان ، و ينبغي ألا ننسى أن الزمان يلتهم أبناءه ” .

time-warp

كان مما كتب على المزاول الشمسية التي ابتكرها الإنسان القديم لمعرفة أوقاته النهارية : الساعات سهام الزمن ، من هذه السهام سهم مجنح بالموت ، و هي عبارة تحمل بين حروفها القوة الخفية للزمن بوصفه المتغير المستقل الذي ينتصر على الأحياء و يكتب لها الفناء . و هي عبارة لا تخلو من معاني التوتر و القلق الإنساني تجاه الزمن الذي تحدثه الأجرام السماوية بحركتها الأخاذة .

تعلن الشمس كل صباح بدء يوم جديد و في دورانه الأوسع يحكي القمر حكايات شهر مضى و يمتد الزمن لتتعاقب الفصول و تنضج السنين . يسير النظام الزمني في مسار أشبه بطريق ذو اتجاه واحد لا رجعة فيه ، لا فرار منه لا سكون و لا انعطاف ” خط مستقيم ممتد إلى مالا نهاية ” كما وصفه المفكر الإنجليزي جون لوك John Locke. و بينما هو كذلك فإن الإنسان – تشاركه بقية الأحياء – لا يتفاعل فيه وحسب و إنما يتفاعل معه و يستجيب له ، فالإنسان – دون سواه من الأحياء – ليس بكتلة بيولوجية ملقاة عل الأرض تنشط بمثيرات خارجية محضة ، و إنما هو كائن زمني متأرجح بين أبعاد الزمن ، يجمع في رأسه الماضي و المستقبل و الحاضر . كائن زمني اختار أن يشعر بالزمن ، ينتقي منه لنشاطه ما يناسب مزاجه ، يفهمه و يدركه و يحلله و يفهرس أحداثه في ذاكرته . كائن زمني لا يحمل بين جوانحه نظاما فسيولوجيا فحسب و إنما تتفاعل في داخله عمليات نفسية psychological functions لا تكاد تفترق عن مسار الزمن. ” إن الزمن هو شكل من أشكال أحاسيسنا الذاتية ، بل هو نشاط ذهني مجرد ” هكذا و صف كانت Kant الزمن “مقولة من مقولات الذهن الداخلية” . الإنسان هو أكثر الأحياء حساسية للزمن و أكثر الموجودات شقاء به ، و هو في داخله يجثم على صدره . لقد عرف الإنسان الأول من الأجرام السماوية ما وهبته له من تقسيمات طبيعية للزمان ، فعرف من الشروق معنى اليوم و من القمر معنى الشهر و من الأرض تسبح في مدارها معنى السنة ، لوحة جميلة ترسمها الكواكب و النجوم . لكن الإنسان الحديث لم يكتف بما أملته له الطبيعة من تقسيمات فأدخل في منظومته البشرية الساعات و الأسابيع . بل راح يتحرى في مسيرة حياته الدقة في القياس و التقليل من نسبة الخطأ و توحيد اللحظة الزمنية بين مشارق الأرض و مغاربها مستفيدا في ذلك بما وهب له الإله من قدرة بالغة للتعلم . ثم بدا و كأنه مهووسا بالزمن ، قسم يومه في نظام فائق إلى ساعات و دقائق و ثوان و أقل من ذلك ، و وثّق كل ما يعترضه من أحداث زمنية ، كتب في سجلاته تاريخ ميلاده و أوقات عمله و عبادته و ساعات سفره و لحظات فراغه و إيقاعات حياته اليومية و يوم وفاته . أضحى الزمن بالنسبة لإنسان اليوم ساعة على معصمه و مذكرة في معطفه بعد أن ضاق بها رأسه . إنسان اليوم ، ماذا يصنع لو فقد ساعته في طرقات المدينة المزدحمة ، و كم من عبئ يثقل كاهل من يساير الحياة بنمط زمني غير متزن ، و هل كان إنسان الأمس الذي أدرك أن في الحياة وقت للإنجاز يعقبه وقت للراحة أقل بؤسا من إنسان اليوم ؟

لقد اتخذ العالم من حولنا مسار التجديد و التطوير و تسارعت إيقاعاته و تنوعت معطياته و تتابعت خطواته في قفزات مترامية ، و أصبح من حسن صنع الإنسان أن يدرك كنه الزمن و يبتعد عن مطباته و يألف جواره و يحذر سهامه ، فنحن -كما يقول روى بورتر Roy Porter – جميعا أبناء الزمان ، و ينبغي ألا ننسى أن الزمان يلتهم أبناءه ” .

العدد الحادي عشر ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد الفلاحي