التعليم والأمن القومي من خلال الثورة التونسية

هذه الحالة هي الأولى في وطننا العربي، وإن لم تكن الأولى على مستوانا الإسلامي فقد سبق هذه الحالة مثيلها في إيران، وإن كانت الثورة التونسية حرة في منشأها أي لم يكن وراءها أيديولوجيا ولا رموز، في حين كانت الثورة الإيرانية مقيدة بأيديولوجيا ورموز استحوذوا عليها، وبغض النظر عما آل إليه حال الثورة الإيرانية وما قد سيؤول إليه حال الثورة التونسية، إلا أن هناك عاملاً مشتركاً بينهما، وهو مواجهة الغطرسة والقبضة الحديدة والترهيب الحكومي بالورود والقبل من الشعب، كلنا شاهد أيدي شعب تونس البيضاء تصافح النياشين العسكرية السوداء، ولا زلنا نذكر الشعب الإيراني يرمي بالأزهار والورود فوهات مدافع الدبابات، ويواجه بقمصانه البيضاء قمصان العسكر السوداء.

Tunisia Unrest

كنت أراقب مع الناس ما يحصل في تونس؛ منذ أن أحرق الشاب محمد بوعزيزي (26سنة) نفسه، ثم مات متأثراً بحروقه الخطيرة، وكانت تتداعى في ذهني عشرات الأفكار والدروس والعبر، وكل مرة أقول إن في هذا المشهد درساً يجب أن يسجل عبرة من التأريخ وللتأريخ، إلا أن تسارع الأحداث كانت تسبقني بحيث يأتي حدث فيسيطر على ذهني دون سابقه، أحاول أن أربط بين الأحداث فتنهمر عليّ أحداث أخرى، مما جعلني أقول في نفسي: هذا الوقت ليس وقت كتابة، إنما هو وقت رصد واعتبار، إلا أن القلم كان يدافعني لأكتب به عبرة من عبر هذا الوجود.

رحل محمد بوعزيزي المستضعف ليرحل معه بلمح البصر المستكبر زين العابدين بن علي، وقلب النظام المستبد طاولة “تبروزة” خضار الفقير الأعزل لتقلب هي النظامَ بأسره، فتسارعت الأحداث بما يفوق أي حساب آني، وبعيداً عن هذه الحسابات وإرهاصاتها المتجذرة في الكيان التونسي إلى أكثر من نصف قرن (منذ أن حكم الحبيب بورقيبة)؛ وتعمقها إلى ما يقرب من ربع قرن (منذ أن حكم زين العابدين بن علي)، فإن ما شد انتباهي هو الطبيعة السلمية لهذه الثورة الشعبية التي نأت بجانبها عن أي عنف؛ والحق أن ذلك ابتدأ من بوعزيزي نفسه، حيث أبى هذا الشاب أن يلقي بغضبه على المجتمع برغم ضيقه من الأوضاع، فقد كتب لأمه رسالة الوداع قائلاً:
(مسافر يا أمي، سامحني، ما يفيد ملام، ضايع في طريق ما هو بإيديا، سامحني كان عصيت كلام أمي، لومي على الزمان ما تلومي عليّ، رايح من غير رجوع، يزّي ما بكيت وما سالت من عيني دموع، ما عاد يفيد ملام على زمان غدّار في بلاد الناس، أنا عييت ومشى من بالي كل اللي راح، مسافر ونسأل زعمة السفر باش ينسّي(.

لم يتحول بوعزيزي إلى سارق أو مدمر أو متطرف، وإنما تحمل الضيم في نفسه حتى سفكها مقدسة على أرض الوطن. وكلنا رأى الشعب وهو يعانق العسكر، قائلاً بلسان مبين: نحن لا نريد الخراب والدمار، وإنما نريد الحرية والخبز والأمن. وهو ما جعل كلمات الرئيس زين العابدين التهديدية ثم توسلاته الأخيرة تذهب أدراج الرياح.

هذه الحالة هي الأولى في وطننا العربي، وإن لم تكن الأولى على مستوانا الإسلامي فقد سبق هذه الحالة مثيلها في إيران، وإن كانت الثورة التونسية حرة في منشأها أي لم يكن وراءها أيديولوجيا ولا رموز، في حين كانت الثورة الإيرانية مقيدة بأيديولوجيا ورموز استحوذوا عليها، وبغض النظر عما آل إليه حال الثورة الإيرانية وما قد سيؤول إليه حال الثورة التونسية، إلا أن هناك عاملاً مشتركاً بينهما، وهو مواجهة الغطرسة والقبضة الحديدة والترهيب الحكومي بالورود والقبل من الشعب، كلنا شاهد أيدي شعب تونس البيضاء تصافح النياشين العسكرية السوداء، ولا زلنا نذكر الشعب الإيراني يرمي بالأزهار والورود فوهات مدافع الدبابات، ويواجه بقمصانه البيضاء قمصان العسكر السوداء.

ما السر في ذلك؟.
هذا السؤال الذي يلح عليَّ وأنا أتابع تطورات هذه الثورة وأتذكر مشاهدها تلك.
لماذا لم ينتقم الشعب التونسي من جلاديه الذين ساموه عذاب الذل ومصادرة حريته مدة نصف قرن؟ لماذا لم يدمر وينهب ويحرق ويسفك الدماء وهو يرى شهداءه يسقطون أمامه؟ لماذا يذهب ليدفن شهيداً ثم يرجع ويقبل عسكرياً في التجمعات الهادرة المطالبة برحيل بن علي؟ لماذا اكتفى الشعب بنفسه في أحلك أوقاته وأعصبها ولم يمد يده إلى أي جهة خارجية؟، لِمَ لَمْ يطلب من القوى العالمية النافذة أن تقف معه؟ بل إنه لم يتضرع إلى أي وسيلة إعلامية لتفضح ممارسة جلاديه، وإنما صنع إعلامه بنفسه فاستغل ثورة الإنترنت ليوصل رسالته ومعاناته وتقدم ثورته، وهنا أتذكر لقاءً قبل عدة سنوات جمعني مع الكاتب الفرنسي جيل كيبل، وبكونه مهتماً بما يعرف بـ”الإسلامي السياسي” تحدثنا عن الثورة الإيرانية، وقلت له: إنها تعتبر ثورة الشريط، إذ استعمل الثوار الشريط لبث الرسائل الملهبة من زعيم الثورة الخميني، فهل العالم مقبل على ثورات يمكن أن تسمى ثورة الإنترنت؟ وأين؟ فقال: نعم يمكن حدوث ذلك، أما أين فلا أدري !!
وإلى قبل أقل من شهر أنا مثله لم أكن أدري، فإذا شعب تونس يحقق هذه الثورة.

الشريط والإنترنت وليدا العلم، وهذا العلم نفسه هو ما حصّن الثورة التونسية من الانزلاق إلى العنف والتدمير أو الانقسام وتفتيت الوحدة الوطنية، أو العمالة لأي جهة خارجية. رغم المحن والإغلاق والقبضة الحديدية ظل الشعب التونسي حريصاً على العلم ومصراً على التعلم منذ كان الاستعمار جاثماً على بلاده، مروراً بعهدي بورقيبة وبن علي، وقد أرغم هذا التوجه الوطني نظام زين العابدين على فتح الجامعات والمعاهد والدراسات العليا بدون أي قيود تذكر، طبعاً إلا محاولة أدلجته بالغلو العلماني، ولكن العلم هو الكائن الوحيد الذي لا يمكن أدلجته ولا سحبه من أنفه إلى أي ردهة قد تعتقله.

وإن كان لأي ثورة أسبابها الكثيرة؛ وفي مقدمتها الظلم والتجويع والتجهيل، إلا أن العلم هو من يرشدها، ويسدد طريقها، العلم لم يكن هو سبب الثورة التونسية لكنه كان هو في نظري من قاد دفتها نحو تحقيق غايتها بدون عنف أو تشفي، وبكل هدوء وآتت الثورة أكلها القريب في أسرع وقت، وعليه المعول في ري شجرتها لتؤتي أكلها كل حين.

مَن أشعل شرارة الثورة؛ محمد بوعزيزي لم يكن ساخطاً وناقماً لأن العلم قد دفعه إلى ذلك، وإنما لأنه لم يجد ما يسكت جوعته ويسد رمقه، ولأن شرطة النظام المستبد ركلت طاولة عيشه الزهيدة، بيد أن العلم هو مَن عصم بوعزيزي الخريج الجامعي عن الاعتداء على الآخرين وعصمه من أن يتحول عصى للترهيب بيد إيديولوجيا متطرفة، وما أكثر الإيديولوجيات التي تطوق رقبة العربي والمسلم.

العلم الذي ساد تونس على رغم محاولة تغييب الإنسان التونسي هو من حفظ الأمن القومي في تونس، وهو من حفظ مكتسبات الشعب التونسي، وهو من حفظ وحدة التراب التونسي.
البشر بطبيعتهم مختلفون، وفي هذا الاختلاف يمكن أن يغرس شياطين الفتن ومزعزعة الأمن والمغرضون من داخل الوطن وخارجه قرونهم ليمزقوا أديم الوطن ويحزبوا مواطنيه ويذهبوا بريح قوته، إلا أن العلم هو من يبدد كل هذه المخاطر والمخاوف، ويحصّن الأمة ومن فيها من عبث العابثين.

إن العلم في تونس الذي رشّد الثورة وقادها إلى الاتزان إلى حدِّ الآن في نظري سيواصل تأثيره لخلق تونس خلقاً آخر من بعد الاستبداد والظلم دون أن يسقط في مهاوي الفساد بأي شكل من أشكاله، أصبح الشعب التونسي ناضجاً لأنه تعلم، وسكونه وسكوته الذي يظن بأنه صمت على ضيم وذل، لم يكن كذلك، بل كان يرتوي من معاهد العلم والجامعات.

إن كان في الثورة التونسية درس للشعوب لتتجه نحو العلم بإصرار وعزيمة مهما أصابها من ظلم، فإن فيها أيضاً درساً للحكومات لكي تعتني بالعلم وتمكّن شعوبها منه، وأن تضعه في أولويات برامجها السياسية والوطنية، وأن تجعل العلم مجاناً بمختلف درجاته من الروضة إلى الدكتوراه، وأن تخرج من فلسفة “العلم لسوق العمل”، إلى فلسفة “العلم لصنع الإنسان”، فالعلم إذا عمَّ الأوطان فإن سيشكل لحمة وطنية بين الشعوب وحكامها وفق فلسفة الحياة الفضلى للجميع، ووفق الحفاظ على مكتسبات الوطن، ووفق الصالح العام، والعلم يفوت أي استغلال ضيق ومصلحة خاصة على أي أيديولوجيا؛ سياسية كانت أو مذهبية أو قبلية، خارجية أو داخلية.
وحتى لو تململت الشعوب من أي ضغط فإن العلم هو من يسدد خطاها في الطريق الصحيح فلا تنزلق إلى منحدرات الفتن ولا تكن عرضة إلى كل ناعق، وسيبقى الوطن قوياً وموحداً بشعبه المتعلم وإن تغيرت سياساته.

بعد هذه الريح الطيبة التي هبت على تونس وشعبها فإن على الحكومات العربية أن تراجع سياساتها التعليمية باتجاه فتح مجال العلم أمام جميع شعوبها، وإن كان توفير العلاج البدني بدون مقابل أخذته الدول على عاتقها، فإن الأجدر بها أن توفر علاج العقول والنفوس أيضاً بدون مقابل، وإذا كانت صحة بدن الإنسان يعود نفعها عليه وعلى أسرته، فإن سلامة عقله ونفسه تعود بالنفع على الوطن وقد تعود بذلك على البشرية.

السوق باقتصاده ينظر تحت أقدامه فيتعثر، أما العلم فيخترق حجب المستقبل فيتقدم آخذاً البشرية والشعوب نحو حياة أفضل واستقرار آمن.

العدد الحادي عشر سياسة

عن الكاتب

خميس بن راشد العدوي

كاتب ومفكر اسلامي