الأطلس رحلة إلى الجزائر بقلم الروائي التركي نديم غورزل

الصحراء كانت تبدو لي كنقطة بيضاء مثل: الجبال، الأنهار، المحيطات و الغابات.. لم أجد أي صعوبة في قراءة تلك الكلمات المبعثرة على سطح كتاب ” أطلس للتلوين ” والذي أهدي إليّ بمناسبة ختاني.. كنت آنذاك أدرس في السنة الثالثة بمدرسة القرية : المحيط أزرق (أزرق كحلي ) – البحر (أزرق )- الجبل (بني ) –مجرى الماء (أزرق سماوي )-الغابة (خضراء) –الصحراء (صفراء) ..كانت أقلامي الملونة مبسوطة على طاولة السرير، ومن شدة الغيظ لونت بالأحمر قلنسوتي التي لبستها بمناسبة الختان وقد سحبت أيضا خطوطا بالأسود على أغطيتي البيضاء..

Airbus__596424126

إنني على متن الطائرة.. وحيد وسط سحب وبين فينة وأخرى.. عندما تتجلى زرقة السماء تخرز الشمس عيوني.. هذه الشمس العجوز حارسة حضارة البحر الأبيض المتوسط.. أعتقد أن هناك لا محالة علاقة جسدية تربط بيني وبين الجغرافيا، على انخفاض عشرة آلاف متر يرقد البحر الأبيض المتوسط.. لقد عشت طويلا على ضفاف هذه المياه الزرقاء العذبة.. أليف هذا البحر ومزبد مثل ثغر حصان.. إن الخوف الذي شعرت به السنة الماضية عند اجتياز المحيط قد زال الآن نهائيا.. إن أعماق البحر المتوسط بالنسبة لي هي الرحم الأمومي ، ولكي أعيش بشكل دائم في جواره لم أعد التفت لتلك الرهبة.. هذه الهزة الرائعة لحظة الخروج من الرحم الأمومي والقدوم المفاجئ إلى العالم.. والتي – الرهبة – انقضت علي مباشرة وأنا فوق المحيط.. حتى الوقت الحاضر عشت دائما ضمن المناطق الزرقاء الخضراء والبنية للأطلس ، أعرف المدن ، الأنهار ، الجبال والوديان وهاهي الطائرة تقودني باتجاه المنطقة الصفراء للأطلس.. الصحراء التي كنت في وقت مضى قد دسستها تحت الغابة أكثر مما فعل بها ذلك البلد الذي اسمه الجزائر .
الصحراء كانت تبدو لي كنقطة بيضاء مثل: الجبال، الأنهار، المحيطات و الغابات.. لم أجد أي صعوبة في قراءة تلك الكلمات المبعثرة على سطح كتاب ” أطلس للتلوين ” والذي أهدي إليّ بمناسبة ختاني.. كنت آنذاك أدرس في السنة الثالثة بمدرسة القرية : المحيط أزرق (أزرق كحلي ) – البحر (أزرق )- الجبل (بني ) –مجرى الماء (أزرق سماوي )-الغابة (خضراء) –الصحراء (صفراء) ..كانت أقلامي الملونة مبسوطة على طاولة السرير، ومن شدة الغيظ لونت بالأحمر قلنسوتي التي لبستها بمناسبة الختان وقد سحبت أيضا خطوطا بالأسود على أغطيتي البيضاء..
الحرارة كانت لا تطاق وكان جرحي لم يلتئم بعد ..ساعتي الرملية وهي هدية ختاني أيضا ينساب رملها ببطء حتى المساء ، بدأت بالمحيط وفي لمح البصر كانت الورقة مغطاة بالأزرق الكحلي ، محيط عميق متلاطم الأمواج يطوق الأراضي الخصبة ومن منطقة لأخرى يطغى الأزرق الكحلي على آسيا وباقي القارات الأربع.. إنه يتجلى في أشكال بيضاء متعرجة وقد عرفت مع مضي الزمن أنها تسمى استراليا وإفريقيا الشمالية ..
القلم يفر من بين أناملي الندية والألوان تتشابك وتتداخل.. بحر قزوين يظهر مثل بقعة بيضاء في قلب آسيا.. البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود ظلا فارغين ” من الألوان “، لقد عانيت الأمرين من أجل قراءة كلمة ” بحر ” المكتوبة بالحروف الصغيرة وسط كل واحد من هذه البحار.. لقد دونتهم بالأزرق واحدا بعد الآخر وسحبت خطوطا بنية على طول ساحل المحيط ، أما المناطق البيضاء أين تقرأ كلمة ” جبل ” وسط إفريقيا فقد غطيتها هي الأخرى بغابة عذراء يصعب اختراقها.. عندما وصلت إلى مجاري المياه بقيت حائرا مترددا.. لقد علمنا مدرسنا أن الأنهار تنبع من أعالي الجبال وتصب في البحار، بيد أنني كنت أظن العكس تماما، فالأنهار ينبغي أن تنبع من البحار لتجري على البراري اليابسة وتضيع في المنحدرات المقفرة ثم تبددها الشمس ، ولهذا السبب حينما أخذت أرسم النيل بقلم أزرق سماوي جعلته يصعد بعناد من البحر المتوسط في اتجاه إفريقيا.. لقد لاحظت بأن كلمة ” صحراء ” كانت ملونة بالأخضر وبذلك وسعت من مساحة الغابة على حساب الصحراء هذا بالرغم من أن اللون الأصفر هو لوني المفضل.. لقد استوعبت كل ما أدركته داخليا وكل ما يحيطني بلون شعر أمي ، رسمت بالأصفر العصافير، الأزهار، السماء ومساحات ألبوماتي للرسم التلويني حتى وبر قطتي المخططة والتي تنام كل عشية على ركبتي ، كان لونه أصفر أيضا وهو اصفرار مرقش يميل نحو الأبيض.. هكذا كانت أمي مثل حقل من القمح البري سنابله تهيم مع الريح يشرق بضيائه كوني وتحيطني حرارته من كل جانب.. مضطرب والقلم الأصفر في يدي أخذت أبكي لما ذهبت أمي إلى الجيران كي تجري تلفونا لل” خاتن ” لقد تأخر فك ضمادتي أما عماتي فقد طفقتا تؤديان فريضة الصلاة.. كنت وحيدا في سريري وفي الخارج بدأ الليل يسدل ستائره المظلمة ..
أتذكر الآن أنه كان هناك زغب يدخل عبر النافذة المفتوحة وهو يتطاير فوق قلنسوتي التي أهديت لي بمناسبة ختاني، وأتذكر جرحي الذي يؤلمني أكثر فأكثر وأن كل جسمي اهتز جراء زلزلة أخذت تنتشر شيئا فشيئا بدءا من ثنية الفخذ حتى البطن.. حدث ذلك في الحين الذي كنت أبحث فيه داخل كتاب الأطلس على مكان للصحراء.. الصحراء تبدو لي كنقطة بيضاء ومع مرور الأيام صارت تتغير وتتحول عبر رؤية كانت قد تشكلت برأسي انطلاقا من الكتب الوجيزة وروايات المغامرات التي أطالعها باستمرار.. الليل تزينه النجوم مالئة الفراغ بضربة واحدة ، قوافل الجمال ، البدو بوجوههم السمراء يظهرون في تعاقب وتتابع من بينهم الأمير الصغير محمد صل الله عليه وسلم صاحب الطلة الجميلة.. مكة، المدينة وطيور الكعبة الأبابيل.. ها آنذا أركب من قبيلة قريش العواصف الرملية ظل رامبو الذي ما أن شفي من الشعر حتى هجر الأزقة الملتوية لأوربا القديمة كي يهرب إلى عرار ..القرآن نبيذ النخيل.. السيوف الدموية وحرف ” الألف ” الماء والسراب.. ليلى والمجنون، معارك علي، الحسن والحسين ثم بعد ذلك أجري للجميع عملية مونتاج ..
الإمتدادات الفارغة أو بالأحرى السوالب -جمع سالب – الجلية الملتقطة عكس الضوء عبأتها في صور مأخوذة في حينها وكذا هذا القمر الأحمر المكتمل الدوران وهو يطلع من فوق الحصى.. الفراغ فراغ يمتد إلى ما وراء البصر بعيدا عن خيام البدو المنصوبة على منحدرات الروابي المجدبة القاحلة ، وتلك الجرة المتروكة بالخارج ليبرد ماؤها أثناء الليل ، وذاك الطفل وهو يتمدد داخل بطن منتفخة ، والجمال الثقيلة المنهكة وربما أيضا قليل من النساء والأوعية الجلدية وثمة شيخ وحيد يجلس بالقرب من النار على ضوء القمر حتى لكأنه يثير الإعتقاد بوجوده على هذه الحال منذ بدء الخليقة.. فهو جد كهنوتي متأمل يتسكع على لحيته ظل اللهيب.. إنه يتذكر مدينة بعيدة.. بعيدة.. هل هو حقا يتذكر مدينة بعيدة ؟ لا أدري كان جالسا.. خائر القوى متربعا قبالة النار.. الحكاية السرية لواحة تقع في عمق الصحراء..تتعلق بنظراته المتعبة ..هاهي بعض السطور التي خزنتها النار من تلك الحكاية السرية مكتوبة على جلد غزال من طرف خطاط أكتع اليد بقلم مثبتة بطرفه المقطوع : حيطان بيضاء عمياء تشرب الشمس.. أسوار طينية لمدينة بدون نوافذ.. متاهة من الدروب تنتهي فجأة على ساحات ندية بليلة ..في هذه الساحات عديمة الأشجار والأكثر ظلاما من ظل سعفة النخيل.. قد تكون هناك بئر جفت من زمن طويل.. إذ أن الذباب يدور في دوامة بلا توقف.. وأزهار غرناطة ذبلت في الداخل.. ثمة نساء صامتات وسط غرف لا يخترقها الضوء أبدا.. رائحة للزيت والصابون تطفو في الهواء شيئا فشيئا.. المدينة المنطوية على ذاتها منكمشة مثل بشرة حزينة.. حروف ديكورية تنسرب في المخطوطات.. إنها لبست سورة الجنة بحروف “ألف” “لام ” و”راء” مكانها حاشية كتاب.. إنها ليلة جديدة بدأت لتوها.. انقضى زمن الحروب وقوافل الإبل التي تتقدم بالملح في اتجاه الأسواق.. ها شيخ يدلف إلى غرفة الزفاف بجسمه الهزيل المتشبع فقط بالعرق وأريج الورد.. في الخارج الليل يسدل ستائره المظلمة.. العتمة تنزل فوق الأسقف المكلسة بالأزرق.. وعلى الباعة المتجولين الذين يتصايحون مشددين ملء الفم على حرف الحاء.. إنها عتمة ثقيلة مغبرة…
أنا على متن الطائرة وحيد وسط السحب بالنسبة لي الصحراء تبدو كنقطة بيضاء فيما بعد تحولت إلى رؤية مركبة من صور متعددة الألوان خرجت رأسا من كتب مختلفة للتاريخ العربي في تلك المرحلة التي أعقبت الانقلاب العسكري ل12 مارس 1971.
تسربت هذه الصور إلى روايتي ” صيف طويل في اسطنبول” مثل رمز لإحباط معاصر.. الصحراء في زمن الطغيان تشبه بالنسبة لي أيضا غياب امرأة أحبها ..وفراق صعب عن جسدها الحريري يشعل دون توقف جرحا حيا ..معذبا لقد قلت فيما سلف أني كنت وحيدا في سرير ختاني.. كانت يدي بليلة وكنت قد بدرت كمية معتبرة من الألوان.. الأخضر لون الغابة يغطي كل إفريقيا.. لم يبق مكان لشقروة أمي.. والآن في الطائرة التي تحملني باتجاه المنطقة الصفراء للأطلس لم أعد أشعر بأي أسى.. خيالي ناضب منزوف أعتقد أنني سأقابل ثانية الصحراء في حقيقتها الأصلية والجوهرية.. وقد انصرمت سنين عديدة على إخفائي لها في كتابي ” أطلس للتلوين ” بإغراقها تحت الغابة.. إذ بعد أن أمضيت أياما في الجزائر ” العاصمة ” قصدت الجنوب حتى بلغت الصحراء.. وما إن اقتربت منها كحقيقة مدركة إذ بعالم واسع أسطوري ينهد و يتقود ليعطي في النهاية صورة متشابكة الملامح تبدد ذكريات وذكريات.. ولهذا السبب أنا على متن الطائرة وحيد وسط السحب معللا نفسي بالقول إن هذه دائما وسيلة للإحساس بالنجاة.. ثم أعود إلى أول ذكرى بصورتها الأولى وهي بملمحها في ذاكرتي الشبيهة بألوان مكدسة ومتداخلة ..
كنت ربما على خطأ لما شبهت الجزائر بالصحراء.. إذ أن الجزائر بلد له مناخ معتدل و به جبال عديدة كيف عرفت ذلك ؟ بفضل الكتب ..
أي فكرة نستطيع أن نكونها عن بلد لم نره من قبل والذي لا نعرفه سوى عن طريق الكتب والصحف والمذياع ؟ هل باستطاعة المعرفة أن تأخذ مكان التجربة والخيال والملاحظة ؟ لقد قرأت كثيرا عن الجزائر مؤلفات تاريخية سوسيولوجية فضلا عن الدينية.. مؤلفات أدبية أيضا: أشعار، روايات، مولود معمري، كاتب ياسين ورشيد بوجدرة..لقد استمعت لأغاني الطاوس عمروش القبائلية وربطتني صداقات مع جزائريين في السوربون لكني اليوم وأنا أقتعد كرسي الطائرة.. الجزائر بالنسبة لي ذكرى ودود وليست رؤية مشكلة من الموسيقى والكتب وليست إطلاقا هذه الصورة الرديئة الموجودة بكتابي الوجيز في الجغرافيا المقرر في الثانوية.. بالنسبة لي الجزائر” جزاير ” هي قبل كل شيء “نغم” وكان من الممكن أن تكون تمثال الأميرال بارباروس باسطنبول.. لكن في الوقت الحاضر هي ليست سوى “نغم” في منزلنا، وفي المساء عندما نأكل السمك كانت أمي تغلق باب المطبخ وتحمل مدفأة الغاز إلى السطح.. وكنت أتبعها بمقعدي الصغير.. هناك نسمع معا نشيش سمك الأسقمري على المقلاة.. وخلال بخار القلي نروح نتملا المساء وهو يسدل ستائره المظلمة.. لم أكن قد دخلت يومها إلى المدرسة وكان حرف( C-جيم) لم يلون بعد على الورق الأبيض ليأخذ شكله الأبدي الشبيه بالقوس ” حرف C ينطق في التركية جيما ” كان ذلك بالنسبة لي “نغم” يشنف أذني حال انبعاثه من المقلاة مثل حرف ” زين Z ” هذا الذي يتكاثر دون توقف ممتدا عبر نشنشة زيت وبخار السمك.. لكن الآن على متن الطائرة التي تحملني إلى الجزائر فإن السطح الصغير لمنزلنا القروي وأسماك الأسقمري وهي تطبخ في المقلاة أضحوا جميعا بعيدين عني كل البعد رغم ذلك يبدو وكأني استنشق ثانية هذه الرائحة الطيبة للسمك الممزوج بحرف “جيم C وZالزين”.. منذ لحظة أصخت السمع لكلام المضيفة وهي تعلن بصوت رقيق ” نحن نقترب من الجزائر ” العاصمة ” شدوا أحزمتكم ” كانت تبتلع الحروف وهي تلفظ ال Cجيم والZ زين على نحو بارز جدا أكثر مما نفعل نحن بالتركية.. ولما كررت نفس الجملة بالفرنسية للذين لا يعرفون العربية كانت الحروف تتشكل في ثغرها الواسع ثم تتداعى وفي نفس اللحظة لمحت تاجا ذهبيا يكلل إحدى أسنانها وبخمياء الكلمة ! أقول :مصباح يومض على حافة ثغرها ذي اللجة السحيقة ! إنها مجرد لحظة وإذ بلغز اللغة يتجلى قبل أن يتوارى نهائيا.. وفيما أخذت الطائرة تحط على مطار العاصمة تخليت على الفضاء الأبيض للأطلس وعن رؤيتي السابقة للصحراء.. جميلتي الجزائر المشكلة من الحروف ظلت وحيدة على الطبق مثل حسكة كبيرة سلبت من جسد سمك الأسقمري.

العدد الثاني عشر ثقافة وفكر

عن الكاتب

رشيد فيلالي

كاتب صحفي ومترجم من الجزائر