عُمان لنا، وأنتَ أخي.. لماذا إذاً تُخاصمني؟!

في الذاكرة التأريخية للشعوب ثمة محطات أو منعطفات تغير وجه الحياة وشرايينها وخلاياها، وليس صحيحا تماما أن التأريخ يعيد نفسه، صدقوني هذه كذبة، فالتاريخ “كالنهر الذي يجري” يندفع بإتجاه واحد فقط، وهو ماركة مسجلة للشعوب الحية، تحتكر حقوق صناعته وإعادة إنتاجه، ولعلكم تستمعون يوميا إلى العجوز التونسي متدرعا بوقار عمره لمقاومة البكاء وهو يقول (لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة)، فقد تهرم الأجيال وتتبدل لكن تظل ماكينات حياكة التأريخ مستمرة في دورانها الصامت والبطيء أحيانا، وتبقى حتمية الحركة التقدمية للتأريخ تلعب لعبتها مهما تأخر حسم نتيجتها، ويبقى للتأريخ كلمة حاسمة في تشكيل وعي البشر، تحديدا وحصريا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

oman-map

الأرض لنا.. وأنت أخي
لماذا إذاً تخاصمني؟
لماذا إذا.. لماذا؟!
أنا لا أسمع وأنت لا ترى
وبنا شوق، ليدرك بعضنا الآخر
هذي يدي/هاتِ يدك..
ليدرك بعضنا الآخر.. هذي يدي/ هاتِ يدك

(فيروز)
***
إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت ليس له أية قيمة ولا معنى، لا سيما عندما يتعلق الأمر بشعب يمر بحالة استثنائية حاول بعضنا – ومعنا أخوتنا المتحدثين (الرسميين و شبه الرسميين) عبر التلفزيون العماني- تشبيهها بالأنواء المناخية الاستثنائية في بادئ الأمر، وكانوا معذورين لأن )السلطات المعنية( ربما لم تخترع وقتئذ مصطلحا لمّاعا، وقبل أن تفعل كانت آثار الموج تنضح بجانب مبنى التلفزيون نفسه… هدوووء، ياجماعة: إنها طاقة الرياح المتجددة، لا أكثر.
سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن حكومتهم التي كانوا يُغَنّون لها؟، وسيفوت بعض هؤلاء بمن فيهم المتحدثين الفضائيين أن العمانيين يُغَنّون فقط لإثنين، للوطن وللأب الروحي لمسيرة هذا الوطن ونهضته، وأما ما/من عدا ذلك فيبقى محل نقاش ونظر واتفاق واختلاف، لذلك فمن لطف الله أن تتحرر عمان من صمتها مع وجود جلالة السلطان، سيرحل الذي بنى وسيبقى المنجز شاهدا على أن رجلا مر على تأريخ هذه الغالية أعاد لها “نسبة عالية” مما تطلع هو إليه شخصيا ومعه نحن كشعب، وفقا لتعبير جلالته اللبق والموضوعي في آخر خطاب له بمجلس عمان.
***
الإعتصامات حصلت، بأخيارها وأشرارها، بأهدافها النبيلة وبتلك الغايات التي حُشِرت حشراً مع آمال الناس وآلامهم، بشبابها الذين خرجوا مدفوعين بقوة غيرتهم على أحلامهم ومستقبلهم وأرزاقهم، وبأولئك المتحدثين الفضائيين الذين نظر بعضهم – أقول بعضهم- للمسألة كفرصة للتشفي أو الانتقام من فلان أو فلان، وربما تصفية حسابات شخصية لا علاقة لغايات الإعتصامات النبيلة بها.. المهم، الإعتصامات حدثت، و دخلت وستدخل بعدها البلاد مسارا جديدا، بكل إيجابياته وسلبياته، ويقينا شئنا أم أبينا- لن تكون عمان في أيامها و سنواتها القادمة كما كانت قبل 27 فبراير، البعض كان وما يزال مذهولا مما يحدث لدرجة إعتقد معها أن المسألة لا تعدو كونها لعبة شد الحبال أو لَي الأذرع، ولا يزال في المنتديات وعلى الأرض من يتعامل مع مستقبل البلد واستقراره تحت تأثير هذا الاعتقاد، هناك من كان يتعامل مع المسألة برمتها بطريقة الطفل الذي اكتشف للتو الحرارة التي تولدها أعواد الثقاب دون أن يعرف تحديدا ما يمكن أن تفعله (وما فعلته حقا)، والبعض حسم أمره متأخرا بعض الشيء، وها هو يمارس هواية القفز القديمة الجديدة لدى شعوب العالم في لحظاتها التاريخية، القفز إلى مساحة فارغة في القطار، لعله يتحصل على قدر وافر من “تذاكر” العنترة والبطولات، وما أكثرها!
***
في الذاكرة التأريخية للشعوب ثمة محطات أو منعطفات تغير وجه الحياة وشرايينها وخلاياها، وليس صحيحا تماما أن التأريخ يعيد نفسه، صدقوني هذه كذبة، فالتاريخ “كالنهر الذي يجري” يندفع بإتجاه واحد فقط، وهو ماركة مسجلة للشعوب الحية، تحتكر حقوق صناعته وإعادة إنتاجه، ولعلكم تستمعون يوميا إلى العجوز التونسي متدرعا بوقار عمره لمقاومة البكاء وهو يقول (لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة)، فقد تهرم الأجيال وتتبدل لكن تظل ماكينات حياكة التأريخ مستمرة في دورانها الصامت والبطيء أحيانا، وتبقى حتمية الحركة التقدمية للتأريخ تلعب لعبتها مهما تأخر حسم نتيجتها، ويبقى للتأريخ كلمة حاسمة في تشكيل وعي البشر، تحديدا وحصريا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وثمة إختبار حقيقي نمر به/يمر بنا اليوم جميعا، سواء على صعيد “العقل الجمعي” في التعاطي مع الحدث، وإعادة إنتاج الحدث على شكل ممارسات عملية بإتجاه المستقبل، أو على صعيد علاقاتنا ببعضنا كمواطنين، رؤساء ومرؤوسين، حكام ومحكومين، ناخبين ومُنتَخبين للشورى، أكاديميين وأعضاء مجلس دولة، معلمين ومعلمات، طلاب وعمال وموظفين وإعلاميين ومثقفين، و كل يتحمل جزءا من المسئولية عن المستقبل الذي نريد ونطمح إليه كعمانيين، متخلين عن أنانيتنا في النظر إلى ما يمكن أن نحصل عليه كمصالح شخصية أو فئوية نتيجة لحركة الاحتجاج (وهذه تتطلب قدرا كبيرا من الشجاعة، بالمناسبة)، فكل قضية فردية هي قضيتنا جميعا، وكل قضية جمعية هي قضية كل فرد منا، هكذا أرضعتنا عمان حبها و حنانها، وهكذا سيبقى هذا الحب مختلطا بدمائنا.
***
لنعترف أن دولة (الأوامر السامية) و (التوجيهات السامية) و (المكرمات السامية) مع كل تعظيم وإجلال لمصدرها الشامخ الأبي، ليست هي الصيغة التي ستحمي عمان من الوقوع أو التعثر مستقبلا في مثل هذا الطريق الوعر، خاصة في حال الرحيل المحتوم لسلطان البلاد، -يحفظه الله ويمد في عمره- وفي إحدى وثائق ويكليكس ذائعة الصيت، نُقل عن جلالته إحساسه الشخصي بهذا الأمر، وأنه ينوي إتخاذ تعديلات إجرائية واسعة تحقق استقلالية الحكومة عنه شخصيا، حتى أن البعض كان يقول أن تغييرات كبيرة منتظرة تأخرت، وربما عجلت الإعتصامات بحدوثها.. ما يهمنا هو أن خطوات في الطريق الصحيح أُتخذت، وأن واقعا عمانيا جديدا آخذ في التبلور، وأن مستقبل عمان مرتبط بشكل وثيق بحجم ما يمكننا أن نقدمه من تضحيات وأفكار وتصورات ورؤى ومبادرات فردية ومؤسسية تخدم تحقيق مصلحتنا الوطنية، وترسم مصيرنا المشترك، وبمدى قدرتنا على إحترام سيادة القانون والمشاركة في ترسيخ دولة المؤسسات، وبقدر طاقة الثقافة المهنية التي نسهم في بثها في المؤسسات التي نعمل بها، ومكافحة الفساد حتى في أضيق الصلاحيات التي تمنحنا إياها وظائفنا مهما تدنت وعلاقاتنا مهما تعددت، و (اللي على راسه بطحة يحسس عليها)!
تخدم المصلحة وترسم المصير اللذين لا تفهمهما ولا تعيهما ولا تشعر بهما، لا الحرة ولا العربية ولا غيرهما من دكاكين الأخبار مدفوعة الثمن، من يشعر بهما هم أولئك الذين وضعوا إيديهم على قلوبهم ودعوا الله بضراعة أن يجنب البلاد شر الفتن، عند سماعهم نبأ سقوط شهيد الوطن عبدالله الغملاسي يرحمه الله، بينما كانت دكاكين الفضاء تتناقل خبر “مقتل” سبعة أشخاص (على الأقل) في “مواجهات” بصحار وتروج الخبر بطريقة تفوح منها رائحة مطابخ الفتنة التي يشتهي الإعلام عموما نشرها دون أي احترام لمشاعر الشعوب أو قلق على مآلات أزماتها، فالسبق الصحفي مقدم على كل اعتبار أخلاقي أو إنساني لدى أغلب هذه الدكاكين، من يشعر بالمصلحة والمصير المشترك هم أولئك الذين اندفعوا للميادين والساحات معبرين بأرقى أساليب الاحتجاج عن رفضهم لكل مظاهر الفساد أو الظلم، وكل العيوب التي تضع العصي في دواليب التنمية دائبة الحركة والتقدم في بلادنا.
***
لنعترف أيضا، وقبل أن تصدمنا آبار النفط بوحشة صفيرها الفارغ، أن الدولة الريعية وهباتها وعطاياها لا تخلق في الغالب مواطنين منتجين قادرين على تحمل مسئولياتهم في الشدة كما في الرخاء، وأن تعويلنا الدائم على زيادة الراتب، وتسديد الديون، وتخفيض ما نسميه اليوم بالضرائب، يحول صورة الوطن هائلة العظمة والسمو والعمق والتمدد في الأوردة والشرايين إلى مجرد رصيد بنكي أو كيان نرضى عنه أو نغضب عليه بحجم مقاس “الجيب” الذي يمكن ملأه بالزيادات والعلاوات، وهذا الكلام يوجه قبل المواطنين إلى أفراد الأسرة الحاكمة و خدم الشعب، أعني تحديدا أصحاب المعالي الوزراء، فالمعالي تكتسب من قدرتكم على خدمة المواطنين، لا التعالي على تطلعاتهم و التربح على حساب وظائفكم وكراسيكم.
***
الإرادة الرسمية المتفهمة لمطالب الإصلاح عَبّرت عن نفسها بفعالية وجرأة لم ولن تخطئها عين الإنصاف والموضوعية، وهناك خطوات أخرى ما نزال كمواطنين في انتظارها، ولا يكفي أن تبقى مجرد “نوايا حسنة”، فليس بالنوايا الحسنة تبنى الدول والمؤسسات، ولا بالمؤشرات والأرقام المجتزئة، ولا بالأغاني الوطنية والأهازيج الشعبية يتم ترسيخ دعائم الأمن والاستقرار… نحتاج اليوم، وأكثر من أي وقت مضى إلى لغة متنزنة تساعدنا على الإنتقال الهادئ والعملي والمنتج من مناخ الإعتصام والرفض والتمرد إلى مناخ العمل والبناء، ومن مجتمع المجاملة والنفاق إلى مجتمع الكفاءة والإنتاج، وأن نمد أيدينا لبعضنا البعض وفوق رؤوسنا دائما حب عمان ومستقبلها الذي سيكون دائما أفضل، بإذن الله.

آخر سطر:
قدسوا الحرية، حتى لا يحكمكم طغاة الأرض. (فيروز)، أيضا!

العدد الثالث عشر سياسة

عن الكاتب

أحمد بن محمد الغافري