قِراءة في مزرعة الحيوان

كما أنّ الرِّواية في قدرتِها على اختراقِ الأزمنةِ والأحداث لدليلٌ واضِحٌ على الدّائِرة الّتي تجري عليها كافّة المُجتمعات الّتي ترزحُ تحت حُكم أنظمة سُلطويّة ، فحتّى الأفراد الّذين يرفضون الذُّل بِدءً على أيدي النِّظام السّابِق ما أن يتسلّموا زِمام الأمر ، وبما أنّهم تربية أنظمةٍ سُلطويّةٍ بِدءً بالدّاخِلِ انتهاءً بالخارِج .. فـ الاحتمالاتُ كبيرةٌ في أن يكونوا نُسخة أُخرى لأنظمةِ استبداديّةٍ سُلطويّة ، و بطبيعة الأفراد ما أن يستفيقوا فجأة بعد كبتٍ وإذلالٍ حتّى يتحصنوا ثانيةً ، ويلتفّوا على المُنقذِ مقدِّسين أفعالهُ ، ومسلِّمين بـ أنّه إنّما يهدي إلى السِّراط المُستقيم …

 

مزرعة الحيوان رواية لـ جورج أورويل :

[مزرعةُ الحيوان ..إسقاطٌ لواقِعٍ كان ، وواقِعٍ متمثِّلٍ الآن ]

ما أن تُنهي ” مزرعة الحيوان” .. حتّى تتداعى لك الحوادِث ثانيةً ..تضع كلّ حيوانٍ في الرِّواية موضِع الواقِع …جورج أورويل يحكي في مزرعةِ الحيوانِ فترة ما ، لكنّ روايتهِ بأحداثِها وشخوصِها ، عميقة لدرجةِ احتواءِ كلّ زمانٍ ومكان ، فالمزرعةُ والثّورةُ والحيوانات.. حِكايةٌ لن تنتهِ…فمع أُفولِ طاغية .. يترعرعُ آخر . كتب جورج أورويل روايتهُ إبان تجربته في الحرب الأهليّة الإسبانيّة .. أثناء الحرب العالميّة الثّانيّة .. ويُقال أنّه يقصُد بها نِظام ستالين ..وما صاحبهُ من سياساتٍ متعجرِفة ، إلّا أنّنا حالما نقرأها الآن.. نرى أنّها تعكسُ واقِع الرُّؤساء والمرؤوسين على حدٍ سواء .

مزرعة الحيوان تحكي ثورةً قادتها الحيوانات على مالِك المزرعة ، بشّر بهذِه الثّورة خنزيرٌ عجوز يُدعى ” ميجر” ، إذ رأى في منامِه نبوءة تُفيد أهميّة رفضِ الاستعباد والذُّل الّذي يقع على الحيوانات على أيدي البشر ، مُسلِّطا الضّوء على عِظمِ ما تملُك ، واستغلالِ الإنسان لها مع سوءِ تعامُلِهِ معها.

سريعا تعاضدت الظّروف لولادةِ الثّورة ، فكانت كما تنبّأ بِها “ميجر”.. طُرِدَ مالِك المزرعةِ بفضلِ وعي الحيوانات ، وتبوأت الخنازير مقاعِد السُّلطةِ ؛ لتفوِّقها بالذّكاءِ والحنكةِ على بقيّةِ الحيوانات ، وتعاضدت بقيّة الحيوانات ( الكِلاب ، الخِراف ، الخيول ، الدّجاج ، الإوز ، الحمام ، الحِمار ) في تمثيلِ أطيافِ الشّعبِ ، فعملت بجدٍّ دون تخاذُلٍ.

(سنوبول ، ونابيلون ، وسكويلر ) هُم أبرز الخنازير الّتي تقلّدت مسؤوليّةِ القيادة ..سُنّت القوانين في بدايةِ الثّورة ، وخُطّت الوصايا السّبع الّتي نصّت على اتِّخاذ الإنسان عدوّا لها ، مع النّهي عن التّشبُّهِ بِه في ( الملابسِ ، والنّومِ ، ومُعاقرةِ الخمرةِ) ، وتساوي جميع الحيوانات في الحقوقِ والواجباتِ ، وتحريمِ القتلِ.
مضت حياة المزرعةِ الّتي حوِّلت لمسمّى ( مزرعةِ الحيوان) كيفما أرادت لها الحيوانات ، إذ تحكُمُ نفسها بنفسِها ، وتُديرُ بعض الشُّؤون التّنظيميّةِ الخنازير ، كان الخنزير سنوبول القائِدُ الأعلى طليق اللِّسانِ ، سريع البديهيّةِ ، لهُ قُدرة على الابتكارِ والإبداعِ ، قادَ المزرعة أيّام حُكمِه بحنكةٍ وذكاء ، وحاول تطبيق الوصايا السّبع كما نصّ عليها القرار ، إلّا أنّ بداية الإخلال بدأ باستئثارِ الخنازير على محصولِ التُّفاحِ والحليب لنفسِها ، وعندما هاجت بقيّة الحيوانات مستفسِرة .. كالعادة .. انبرى الخنزير سكويلر يُبرِّر ذلِك بالنّشاط الذّهني الّذي يبذلهُ كلّا من سنوبول ونابليون ، ونصائِح الطِّب بالإكثارِ من الحليبِ والتُّفاح ، ليديرا أعمالِ المزرعةِ على أكملِ وجهٍ ، ويعودا بالفائِدةِ على بقيّة الحيوانات ، كما أنّه لم ينسى أبدا _كما في كلِّ حُججهِ _ تذكير الحيوانات بعهدِ السيِّد جونز ومغبّةِ ذلِك إن هُم اعترضوا على أفعالِ الخنازير.

أمّا الخنزير نابليون فكانت طريقته ميكافيليّة ،إذا أنّ الغاية عنده دائِما تُبرِّر الوسيلة ، وبالرُّغم من أنّه في البدايةِ خطّط مع الخنزير سنوبول ، إلّا أنّهما بعدما تحقّق النصرُ للثّورة يندُر أن يتّفقا، فالخلاف بينهما لكأنّه فرض مكتوب عليهما في كلِّ اجتماع.

يمضي أورويل في روايتِهِ يسرُد الدّائِرة الّتي تجري فيها الثّورات ، فالحِكايات تبدأ بـ ..ثورة .. انتِصار ..انتشاء بالانتصارِ وتنازُلات فرحٍ بِهِ تُعيدُ الشُّعوب إلى وكرِ العبوديّة .. إذ لا يُمكِنُ لأرساغِ الشُّعوبِ أن تنفلِتَ من قيدِ الاستعباد ، فلعنةُ الكُراسي تطال كلّ من يجلِس عليها.
بعدما يعمد الخنزير”نابليون” المُنافِس على الكُرسي إلى اختلاق الخِلافات الدّائِمة مع القائِد السّابق ، وفي اجتماعٍ عامٍّ ينشبُ خِلافٌ حيال أمرِ بناء الطّاحونةِ ، فيأمر نابليون جِراءَه الـ 9 _الّتي تكفّل برعايتِها ما أن وُلِدت بعيدا عن كلِّ الحيوانات_ بطردِ الخنزير”سنوبول” بطريقةٍ وحشيّةٍ تُثير الرُّعبَ والذُّهول في نفوسِ الحيوانات ، ومن تِلك اللّحظة المروِّعة يتولّى نابليون الحُكم .

تنطبِع تِلك اللّحظة في أذهانِ الحيوانات ، إذ أنّ أي محاولة للاعتراضِ أو المُخالفةِ سيكون مآل صاحِبها كمآلِ القائِدِ “سنوبول” ، في عهدِ نابليون خُرقت الوصايا السّبع الّتي اُتُّفِقَ عليها مُسبقا، وفي كلِّ مرّة يأتي بحجّة لخرقِهِ ذلِك ، ويقوم سكويلر بتبرير تِلك التّصرُّفات ، حتّى أنّه قام في كلِّ مرّة بتعديلِ الوصايا حسب مقتضى الحال ، وما يتوافق ورغبات نابليون ، وفي كلِّ مرّة يُكذِّب أفراد الشّعب ذاكرتهم الّتي لم تستطع استدعاء الاستثناءات، ويُصدِّقون تزييف سكويلر وتلميعه لأفعالِ نابليون على حسابِ وعيهم ، إذ أنّ عادة سكويلر .. ما أن تنتهي اجتماعات نابليون أو تصدُر قراراتِه الغريبة حتّى يعود للحيواناتِ ؛ مُبرِّرا أسباب اتِّخاذِ نابليون لتلك القرارات ، ملمِّعا ما قام بِهِ القائِد من أفعال ، وأنّها دائِما تنصبُّ في صالحِ الحيواناتِ جمعا ، وكالعادة يعزِفُ على وترِ ” عودةِ السّيِّد جونز” _ المالِك السّابِق_ ، فتنكمشُ مُعارضة الحيوانات .
تنتهي الرِّواية بعودةِ الاستعباد ، فالخنزير نابليون يخرُق الوصايا السّبع ، ويُحوِّل مُسمّى المزرعة من مزرعةِ الحيوانات ، إلى مزرعةِ الخنازير ، ويستعبد الحيوانات ـ وفي كلِّ اعتراضٍ يستخدِم قواهُ الأمنيّة ” الجِراء” لإسكاتِ المُعارضين ، و ” سكويلر” الّذي يُمثِّل الإعلام لإقناعِ الحيوانات وتلميعِ الصُّورةِ ، والتّذكيرِ بعهدِ السّيِّد جونز .

في الرِّواية كما هو الواقِع…يُخدّر الأفراد بالسّلامِ والنّعيمِ المروّجِ لهُ مُقارنةً بالماضي ، من هُنا يبدأُ استعبادٌ جديدٌ ، وتنعطِفُ وجهةُ الإمكاناتِ من الإصلاحِ ، إلى خدمةِ أفرادِ السُّلطةِ .. تتوقّفُ عجلةُ التّنميةِ .. وعند أي مُحاولة اعتراض يُهدّد الأفراد في أرزاقِهم ، وشيئا فـ شيئا يألفون الرِّسغَ ، ويستكينونَ مُسلِّمين أمورهم ، راضينَ بما هُم عليه من عملٍ متواصِلٍ ، واستنزافٍ لطاقاتِهم ، مقابِل ما يسدُّ رمقهم ، فما عادوا يشعرون بمهانةٍ او ذُلٍّ ..فالسّلامُ كنزٌ _ كما أفهموهم_ غالٍ ، حتّى وإن كانت الحُرِّيّةُ والعدلُ غائِبان .

جورج أورويل في روايتِهِ يحكي حال أُممٍ تُستلب حُقوقها بنبشِ الماضي ، وبقوّةِ أفرادِها .. فالاعتراضُ يُفسّرُ بمحاولةِ زعزعةِ الأمنِ القوميِّ ، والتّآمر مع العدو ، فأن تعترِض أي أنّك تُريدُ للماضي أن يعود ، وتُسردُ حكايا الإذلالِ والاستعبادِ … إلّا أنّ المُلاحظ أنّ هذا التّرهيب بحدِّ ذاتِه هو إذلالٌ ومُحاولةِ انتزاعِ الحُقوقِ بِدءً لاستعبادٍ جديدٍ.. فـ أن تشقّ طريقك بـ نبشِ الماضي ، وأن تُحقِّق مطالِبكَ بمُقارنةِ الحاضِرِ بالماضي ، وأن تُمجِّد نفسكَ بتشويهِ الماضي ..كلّ ذلِك مُحاولاتٌ لاستغلالِ الجانبِ العاطِفيِّ بالتّخديرِ وتضييقِ الآمال ، في مُحاولة للإلتفافِ حول القائِد.
كما أنّ ” سكويلر” الخنزير القادِر على الإقناع كما أسلفنا يقوم بدورِ وسائِلِ الإعلام في تمجيدِ القادةِ ، وتشويهِ الماضي ، باختصارٍ شديد كان الخنزيرسكويلر ، كما قال عنهُ المؤلِّف ص 24 ” بإستطاعةِ سكويلر تحويل الأسود إلى أبيض” إذ يقوم بدور مؤسّسات الإعلام المملوكة للحكومة.وهذِهِ القوّة عمدَ إليها نابليون لثقتِهِ بأهميّة تعزيزِ موقِفِهِ ، وتبريرِه ، وعلى هذا النّهج جرت حياةُ المزرعةِ ، تقديسٌ وتمجيدٌ للقائِدِ الّذي ما فتئ سكويلر عن إهالةِ الألقابِ التمجيديّةِ لهُ ، ونسبِ الكراماتِ والفضائِلِ .
وانطلت اللُّعبة على الحيوانات المُستضعفة الّتي تُمثِّل الطّبقة السّاذجة والكادِحة في المُجتمعات ، تِلك الطّبقة مثّلها أورويل في “الخِراف” الّتي تُبارِك أفعال القائِد ، وتتغنّى بشِعارات الولاءِ والامتنانِ ، عامِدةً على الدّوام لاستفزازِ المُعارضينَ مُسفِّهةً بآرائِهم .. مُقدِّرةً ما هي عليهِ ، ممتنّةً للحُرِّيّةِ المربوطةِ بتشويهِ الماضي الّتي أُقنِعت بِها ، سُخِّرت لإخمادِ أي محاولة اعتراض بالخواء ؛ لحجبِ النِّقاش.. بـ اختصار كانت الطّبقة “الإمّعة”.
كما أنّ انقياد الأبقار والدّجاج ، وتسليمها بكلِّ ما يصدُر من نابليون وسكويلر يعكس لنا حال تِلك الطّبقة ، ففي الرِّواية أُقنِعت الحيوانات المُستضعفة بعكسِ أمورٍ عايشتها ، فاقتنعت وآمنت ، وأخذت تمجّد أفضال نابليون ، وتعزو كلّ نعمة إليه ، فنرى في ص 99 ” .. فقد تُسمع دجاجة تتحدّث لدجاجةٍ أُخرى قائِلةً : لقد وضعتُ بفضلِ إرشادات قائِدنا الرّفيق نابليون خمسُ بيضاتٍ في ستّةِ أيّام . أو بقرتانِ تتبادلانِ الحديث وهُما تشربانِ من بركةِ الماء ، فتقولُ إحداهما للأُخرى : شُكرا للرّفيقِ نابليون ما أعذب هذا الماء!”.
كما أنّ بعض الحيوانات أُرغِمت على الاعترافِ بأفعالٍ لم تأتِها ، وما ذلِك إلّا كتأكيدٍ على عظمةِ شأنِ نابليون القائِد ، وتبريرٍ لمخاوِفِه وتصرُّفاته الاستعلائيّة.
أمّا الغُراب موسيس الّذي لم يكُن له بالِغ الأثرِ في الرِّواية ، فقد مثّل رجال الدِّين بدعواه ومحاولات إقناعِه بـ ” جبلِ الحلوى ” لا سيما أنّه متحدِّثٌ بارِعٌ ، وقادِرٌ على لفتِ الانتباهِ والإقناع .. المُلفت للنّظر هو ص 26 “…. يرمي فُتات الخُبز للغُراب موسيس بعدما يُبلّلها بالبيرة”…وفي هذا إشارة إلى المصالح المُتبادلة بين المؤسّسة السِّياسيّة ، والمؤسّسة الدِّينيّة.

“بوكسر” الحِصان المُجد ، والّذي لا يدّخر جُهدا لخدمةِ المزرعةِ ، إذ يقوم للعملِ قبل موعد استيقاظ الحيوانات ليُنجز عملهُ وأعمال غيره بإخلاصٍ وتفان، يُمثِّل بوكسر الطّبقة المقدِّسة للحُكّام المُطيعة دونما نِقاش ، فبوكسر يعمل أكثر من طاقتِه ، وحتّى في أيّامِ وهنهِ كان لا يألو جُهدا في العمل ، لكنّ “نابليون” جازاهُ بعكسِ إخلاصِه ، فما أن وهنَ حتّى أرسلهُ إلى المسلخة ، وأقنع بقيّة الحيوانات أنّه أرسلهُ إلى المصحّة.
“بنجامين” الحِمار الّذي يعي كلّ ما يحدُث من ألاعيب ، ويُقابل كلّ ذلِك بحياديّةٍ وصمت ، كما يُنجز عملهُ بثباتٍ وبُطء ، لا يتهاون في عمل ، ولا يتطوّع لعملٍ إضافيٍّ .. يُمثِّل طبقة المُثقّفين اليائِسين من التّغيير ، فموقفهُ الدّائِم أنّ الأمس مثل اليوم ، واليوم مثل الغد ، ولن يتغيّر شئ.
وتُمثِّل المُهرة البيضاء ” مولي” في اتِّكاليّتِها وترفُّعها عن العملِ ، وحضورِها فقط أوان توزيعِ حِصص الطّعام الطّبقة المُترفة ؛ ولأنّ ما بعد الثّورةِ كان جدّا وعملا ، فـ ” مولّي” لم تستطع مواصلة الحياة في المزرعة ، ونزعِ شرائِطها الّتي تُزيِّن عُنقها ، لذلِك تودّدت لمُلّاكِ المزارِعِ المجاوِرة .. ورحلت من المزرعةِ.
ويبقى أنّ الرِّواية بتعدُّد شخصيّاتِها/ حيواناتِها تُمثِّل طبقات المُجتمع الإنسانيِّ من اتّكاليينَ مُترفين مترفِّعين عن الأعمال ، و مُحايدين لا يلوون على شئٍ سوى الصّمت ، وكادِحين يعملون أكثر من غيرِهم لا يبغون جزاءً ولا شُكورا ، و مُستضعفين يُقرّون بأفعالٍ لم يأتوها ، و مطبِّلينَ يُقدِّسون ما يأتي من السُّلطةِ …إلى مُعارضينَ تُسلّط عليهم قوى السُّلطةِ .
كلّ هذِه الأطياف يعرضها جورج أورويل بطريقة شائِقة ؛ تعكس لنا واقِعٍ يُغرقنا في دوّاماتِ شخوصِهِ وأحداثِه ، ومن السُّهولةِ بمكان أن نُسقِط أحداث الرِّواية على واقِعنا العربيِّ الّذي انتقل من قيدِ الاستعمارِ والاستعبادِ بفضلِ الثّورةِ ، إلى عهدٍ تدرّج فيه الاستعباد ، بتبريراتٍ كثيرة .. فـ “نابليون” كما يُبرِّر لهُ “سكويلر” متمسِّكٌ بالحُكمِ ، مُشدِّدٍ في القوانينِ ، متعجرِفٌ ؛ لعلمِهِ فوق عِلمهم ، ولخوفِهِ عليهم من أنفسهم ، ففي ص 61 على لسانِ سكويلر : “… ولكنّه يخشى عليكم ، فقد تتّخذون قرارات خاطِئة لا تصلح لكم…” .
إنّ ما يُعايشهُ العالم العربيِّ من إفقارٍ ، واستعباد لهو خير انعكاس لرواية أورويل ، فالأفراد مهدّدون في أرزاقِهم عند أي محاولة للاعتراضِ ، موجّهون شطرَ لقمةِ العيش الّتي تستدعي الاستكانةِ .وفي الجهةِ الأُخرى تقومُ الحُكومات على الدّوام بتخديرِ الشُّعوبِ عن طريق الإعلام المملوك الّذي تُسيطر عليه لتلميعِ صورةِ الحاضِر، ومُقارنتِهِ بالماضي الّذي لن يعود.

كما أنّ الرِّواية في قدرتِها على اختراقِ الأزمنةِ والأحداث لدليلٌ واضِحٌ على الدّائِرة الّتي تجري عليها كافّة المُجتمعات الّتي ترزحُ تحت حُكم أنظمة سُلطويّة ، فحتّى الأفراد الّذين يرفضون الذُّل بِدءً على أيدي النِّظام السّابِق ما أن يتسلّموا زِمام الأمر ، وبما أنّهم تربية أنظمةٍ سُلطويّةٍ بِدءً بالدّاخِلِ انتهاءً بالخارِج .. فـ الاحتمالاتُ كبيرةٌ في أن يكونوا نُسخة أُخرى لأنظمةِ استبداديّةٍ سُلطويّة ، و بطبيعة الأفراد ما أن يستفيقوا فجأة بعد كبتٍ وإذلالٍ حتّى يتحصنوا ثانيةً ، ويلتفّوا على المُنقذِ مقدِّسين أفعالهُ ، ومسلِّمين بـ أنّه إنّما يهدي إلى السِّراط المُستقيم …
إنّ الأفراد مُمثِّلين في العامّة والّذين رزحوا تحت ضُغوطاتِ الإفقارِ ، والتّهميش والتّغييبِ عن المُشاركةِ في صِناعةِ القرار ، وتحت ظِلِّ تِلك الضُّغوطات يفقدون قيمتهم كأفراد فاعِلين ، فيستكينون ..ويتوارثون الاستكانة ..إلى أن يصبُح أمر الرّد والمُقاومة أو الاعتراض أمرا خارِجا عن المألوف ، بل ومُدانا من قِبلِ البقيّةِ ، ففيه زعزعة لـ السّلامِ والأمنِ المُعاش على حسابِ العدلِ والحُريّةِ . و في مثلِ تِلك المُجتمعات تنجح القوى التّسلطيّة في زرعِ الجُبنِ والخوفِ في نفوس العامّةِ ، بل وفي ظلِّ غيابِ وعي الأفرادِ بحقوقِهم تقوم بتصفيةِ أيِّ مُعارِضٍ ، وتلفيقِ التُّهمِ وتطبيقِ الأحكامِ .. كـ تدليلٍ على قوّتِها ، وفي ذلِك رِسالة لـ بقيّةِ الأفراد ، وخِداعٌ وتخويفٌ لهم .. برسمِ صورةٍ سوداويّة في أذهانِهم عن المُستقبل المُعتِم ، والماضي الظّالِم … فـ تصبح مُجتمعات الثّورة بعد تِلك الانتفاضةِ .. مُجتمعات مُستعبدة ثانيةً بـ ماضٍ قاهِر ، ومُستقبلٍ مُعتِم … مضطرةً إلى الاستكانةِ ثانيةً.
نجحت القوى التّسلطيّة من خِلال الصّورة الذّهنيّة الّتي زرعتها في أذهانِ العامّةِ عن طريقِ وسائِل إعلامِها ، في تقييدِ الأفرادِ وشلِّ فِكرهم ، بل والتّأثير في قناعاتِهم من جِهة ، والتّخويف من جهةٍ أُخرى ، وغفل الأفراد أنّ الخوف من الاستعباد ..استعبادٌ ، كما أنّ الاستكانة الّتي رضوا بِها ، والقناعة من خِلالِ مقارنتهم للأوضاع بما كانت عليهِ سالِفا ، وليس بما يتطلّب أن تكون عليه ، لهو تضييق لمطامحهم ، ويُدلِلعلى لِك وقوفهم في مُنتصفِ الطّريقِ..راجين الاستقرار ، غافلين أنّهم بذلِك إنّما إعمار وتأسيس لـ استعبادٍ آخر.

من جهةٍ أُخرى توضِّح الرِّواية بُعدا آخرا في علاقةِ الحاكمِ بالمحكوم ، من ترفُّعِ واستئثارٍ بـ الخيراتِ ..موهِما إنّما ذلِك لخدمةِ المصلحةِ العامّة ، كما أنّ الوصاية الّتي تطرّقت لها الرِّواية هي بُعدٌ آخر يسكُن ذوي السُّلطة ، فيستئثرون بالقراراتِ الّتي يرون من وجهةِ نظرٍ خاصّة بهم أنّها في الصّالحِ العامِّ ..على الرُّغم من أنّها تخدُم مصالح خاصّة بهم بالدّرجةِ الأولى…إنّ علاقة الحاكمِ بالمحكوم في ” مزرعةِ الحيوان” تتدرّج كما هو الواقِع ..إلى أن ينخلِقٌ طودا شامِخا بين الطّرفينِ ، حينها إمّا أن ينبري بعض من استشعروا الظُّلم لـ تعبِئة الرّأي العامِّ ، أو يتوارث الإذلال جيلا بعد جيلٍ إلى أن يستفيقوا لحقِّ الحُرِّيّة والعدالةِ والمساواة.

أدب العدد الرابع عشر

عن الكاتب

بدرية العامري

كاتبة عمانية