يا نسراً مثواه إنسانُ…

 

 

يا نسراً مثواه إنسانُ…

أخط كلماتي لإنسان آخر، وأيُّ إنسان.. إنَّه رجل الموقف، وسيد الكرامة.. لا تجده إلَّا حيث تظهر الحقيقة، ويصدح الرأي… ولكن لا نقول إلَّا كما وجهنا الله عزَّ وجلَّ: ” وإن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فلا كاشفَ له إلاَّ هوَ وإن يُرِدْكَ بخيرٍ فلا رادَّ لفضلهِ“.. و”إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ”. صدق الله العظيم

***

أتطلع إليك في تبر فضاء وطني، وأبحث عنك في تراب أديم أرضي…هي الأقدار فجعتني بك فكيف لي أن أعود لأوراقي وأخط مداداي؟ فقد سكنتْ حروفي، وتقيحتْ كلماتي، وشُلَّتْ مداركي… فمن سيعيد لي نبض حروفي، ورونق كلماتي، وحلو حواراتي؟ ومن سيشد أزري، ويدفع تطلعي، ويرسم أملي بعد أن خرَّ عزمي، وتعثر مرادي، وتبعثرت خطواتي؟ فقد باغتني زماني ورحل السيد البهي الجميل، والنسر الشامخ الجليل… غاب الرجل الهمام المعطاء، ونضب النهر الكريم الجواد في يوم قائظ محل جاف..هكذا بدأ نهاري بلهيب أوَّار شمسه، وفي ليلة كئيبة حالكة عابسة.. هكذا تطاول ليلي بسديم وحشة ظلمته، وهكذا اكفهرت نجومه وأنا أبحث عنك حتى كادت بي الأرض الفضاء تمور…نبأ فجيعة فقدك انقلاب كوني، بل الطامة الكبرى التي هزّتَ كياني يا أخي وأبي “مازن”.

كدتُ لا أصدق هول الخبر المباغت فبحثتُ عنك بين جدران منزلنا وأسقفه… أنصتُ لصدى  صوتك الحنون الذي لا زال ينبعث من أركانه طيب أنسامك الندية ومن زواياه عبق أنفاسك الدافئة… أترقب اطلالتك المتطلعة الواثقة حين تقبل علينا بهيبتك وشموخك وأبوتك، وألمح طيفك حيث اعتدت الجلوس في ذلك الركن المضيء الذي شهد كثيرا من الضحكات الرائعة واللحظات الجميلة والحجاجات النيَّرة التي أنستُ بها معك .. مكتبك الذي تألق برؤاك الحالمة، وروحك المخلصة وفكرك المشيد ويدك المحبة .. في اشتياق لك، من له الآن؟!

يا إلهي أفي كل يوم تتولانا الدنيا بشتى خطوبها، وفي كل ساعة نباغت بفقد أحبابنا، أم أن لنا في كل يوم موعد مع الدهر بطعنة طائشة تزعزع الجبال الراسيات باقتلاع درة من أعزائنا؟! ذاتها الأقدار التي حجبتك عنَّا في تلك الإشراقة لذلك اليوم .. حيث بلغني خبر وفاتك فانطفأتْ شموع حياتي المضيئة بفقدك، وذوتْ زهور عمري الفاغية بغيابك.. كنتُ حينها أترقب نفي الخبر، ولكن لا محال من قضاء الله وقدره.. كان لا بد لنا أن نستسلم، أن نتجلد، أن نتعافى من ريب الدهر، ونتصالح مع سهام الموت حتى لا نتزعزع أمام زهور حياتك، وثمار روحك، وفلذات كبدك.

***
تسألوني من هو؟ : شمس مشرقة يستمد من حولها الدفء والضياء .. أرض خصبة مخضرة تشرق بالعطاء.. يد خيرة محبة للتواصل .. نفس أبية تائقة للمعرفة.. مهجة مخلصة باحثة عن الحقيقة؛ حيث أفنى عمره بكل شرف في أروقة بلاده وعلى جنبات الملفات في مكتبه محركا معه دفة الطموح، بل العزم والإرادة كلها. كان يملك فتوة الأحلام القومية، ويؤمن بأمة عربية لا ظلم فيها ولا طغاة… كان أنقى من أن يحمل حرابا لأحد؛ لكنه كان جاهزا للموت من أجل توثيق الحقيقة المتشحة بصفات الإنسانية؛ لكأنه يدرك أن زماننا زمن الموت الموَّثق، والجريمة المموهة لمن ينشد قول الحق والكلمة الصادقة على أروقة المساحات الإلكترونية التي تصنع من الضحية رمزا قادرا على إعادة توجيه الحقيقة صوب الناحر، لذا استطاعوا بتر يده التائقة للعمل في يوم ما، إلَّا أنَّهم لم يستطيعوا تكميم صوته، والارتقاء بفكره، والتواصل بهمته التي كانت عين الحقيقة… كان بطلا من أبطال الزمن العماني الحاضر. واحد من مجاهدي الكلمة والرأي حين اختار الكشف عن الحقيقة، ونبش منعطفات التاريخ؛ لكأنه يحتسب أن تكون المنية غنيمة ومكسبة… ليته شاهد جنازته، ليته استيقظ برهة ليرى حشود أهله المحبين، وأصدقائه المخلصين، وتلامذته المتألقين وهم يتأسفون على شبابه الذي ذوى بلمح البصر دون سابق إنذار.. ليته استبشر بصلواتهم ودعائهم وهم يودعونه ويترحمون عليه.

أيُّها الباحث في التاريخ.. قمْ وسجل مواقفه وارسم إباءه.. قمْ وأحفظ من سجلاته ونقِّب في مدوناته ما خطته تلك السطور التي لم تنتهي بعد. فالرجل الذي غبطناه على جرأته وكرامته مات حتى اشتهينا مرامه لنتزين به، وتطلعه لنحلق به.. كان آخر ما يذيل به أقواله أو مقالاته “حفظ الله الوطن عمان”.. كان آخر ما خطه في مجلة الفلق “المسؤولون الجدد”؛ لعله كان يأمل أن يسري النهر رقراقا عذبا سلسبيلا بين أروقة المؤسسات لمصلحة المواطن العماني الطامح الشريف من البسطاء والنبلاء والأحرار.. إنَّها الأقدار التي ليس منها مهرب أخذتك منَّا إلى برزخك أبا عبدالله.. فبكيناك دما دمعا سجاما حين ودعناك في تلك الليلة المكفهرة المتقيحة الحزينة بكل ألم الفقد، ولوعة الفراق، ودهشة الفاجعة التي غشتْ كل محبيك، وظللت كل أهلك.

***
أبا عبدالله: في قلبي غصة ولمَّا أستوعب حتى هذه اللحظة خبر وداعك عن هذه الدنيا الفانية، افتقدتك أيُّها الغيث الحبيب، وسأفتقد الحديث معك أيُّها الغالي الأصيل، واخشى أن لا أجدك تستقبلني بابتسامتك المعهودة، وحضنك الدافئ حين أدخل منزلنا الذي تزين بهامتك وتوشى بقامتك وتسيج بأبوتك. . أيَّها النسر الذي لازلت محلقا بيننا كنت فردا ولم تستلم لحراب جلاديك، بل تواصلت بفكرك ورؤاك مع جيل من الشباب العماني الواعد للإصلاح والتغيير -كما راق لك أن تطلق عليهم-؛ فلتسعدوا يا أحبابي: “عبدالله وبثينة وعمر ومحمد” أن أباكم رحل من رحاب أفق بلاده نسرا فذَّا شامخا أبيا مؤثرا، وواره تراب أديمها إنسانا أثيلا نبيلا أصيلا حرا..

أيُّها الجيل العماني الثالث: عرفتموه نسرا عزيزا طامحا صامتا حليما منقِّبا عن الحقيقة… مخلصا محبا ودودا جوادا باحثا عن التاريخ… راعيا مفكرا موجها راشدا ناثرا عليكم من علمه ومعرفته وتطلعاته لكأنَّه البحر الذي نغترف منه معين التاريخ، ونتبصر من خلاله بفيض الحقيقة فلم يبخل عليكم بقطرات دمه، وروح مهجته، ومورد فكره، وحلو رؤاه، وعذب حديثه، ولذيذ آرائه.

فجعت بك يا أخي وأبي وسندي وسيدي “مازن” فلطالما مهدتَ طريقي، وجليتَ عني الأسى، ومسحتَ دموعي، وانتشلتني من تيتمي منذ أن كنتُ طفلة صغيرة حتى أصبحت فتاة شابة ولازلت وأنا أما أسعد بأبوتك ورعايتك وحنانك ودفئك.. سأبكيك ما غنَّى الحمام بغصنه، ويبكيك قبلي في عمان كثير.

أبا عبدالله بنفسي كأفراخ القطا قد تركتهم يناديك منهم ناشئ وشاب.. ولهفي على زوجك وهي تناجي النَّجم بحرِّ دموعها، وحرقة قلبها حتى سيجت من ليلها أنة وزفير.. ولهفي على أخ لك صابر على بلوات زمانه تركته سيفا فردا يبحث عن غمده الآمن حتى يتوارى من هول فجيعة فقدك .. ولهفي على شقائق روحي من تصدع سندنا الذي نتكئ عليه في كلِّ صغيرة وكبيرة، فقد كنتَ ملاذ الأهل وعصب مجرى حياتهم، فيا ربِّ الرحمة كن رحمة الخير نحوهم جميعا.

***

أماه كفكفي وجعاً منغرساً في بيداء صمت أثار نقع حروفنا.. يا إكليل الغار، وزهرة الدفء، وأنداء الحنان! لا تجزعي حين تصهد الحقيقة، وتنصهر في عمق الواقع المرير.. كوني هنا.. كوني معنا.. كوني بيننا.. شعور يخالجني، أنَّك عنَّا تهربين!
أو أنَّه الإيمان أخرس جند الكلمات وبه تتعلقين.. أم أننا لازلنا نتعلم أبجديات الجلد والثبات، ونتهيأ لعراكات السنين؟ أماه.. الحب أنت.. الفخر أنت.. الحنان أنت..
الصبر أنت، ومنك تعلمناه، فلِمَ لا تتجاوبين؟ الجميع يأتونك أسراباً متوجسين..
وكأن ثكلاً غيب النبأ الحزين!
أماه.. ابشري.. وبشّري… فقد فارق “مازن” دنيا الآلام، واشتاق لآخرة السلام.. فقد ودَّع الأوجاع، واختار الوئام.. تذكري إنَّه الإنسان الذي عمّق الإنسانية فينا..
فقد أوقدت سيرته ومسيرته نوراً في جوف الظلام! تأملي طيفه.. تأمليه! ففي تقاسيمه.. إجلال تسامح ووميض نور.. صوته، ضحكه، حنانه، وبياض قلبه قارورة من عبق العطور.. ومن ابتسامته، وعطفه، ونقاء سريرته، يحفر في ذاكرتنا حكايا جميلة في ذاكرة السطور..
ومن صلبه حمائم نجوم تضفي على أجوائنا كل ألوان الحبور..
ومن ريح ذكراه أخت لنا سامقة محتسبة تهدينا إيثاراً، وتداري الدمع الطهور!
أماه.. اصبري.. وصابري.. فنسائم الرحمة حفته حين أنهكه الطريق..
أطفأت قلباً أدماه لهيب وتلظاه حريق..
فوالله.. قد أشعل في أعماقنا صفاء دره من جنان قلب رقيق..
يرثينا هو قبل أن نرثيه ليضمد الجرح العميق!
ومضت روحه رغم إيلام الصبر..
رغم الاغتراب، والقهر، وأوجاع السفر..
راثياً إيانا، وفي مراثيه عبر!
راحلاً عن دنيانا بعميق الحزن، وأنين الرثاء..
جاءوا به يحملون النعش، تشاطرهم ملائكة الرجاء..
فلستُ أدري، أنحن في وداع أم نحن من أجل لقاء؟
بكيته يا أمي، فصاهرني البكاء.. حتى أن تبعته روحي في ارتقاء وارتقاء..
وبقبلة صافحت بياض جبينه، ببسملة، ودمعة، وأنفاس دعاء..
بنظرة أخيرة رسمته في بؤبؤ العين، ووشمته في أوردتي نقاء..
في نعشه سموق، تعلوه هالة من بهاء فاق البهاء..
فالأهل والأصدقاء تجمعوا، يرسخون حباً، ينحتون حروفاً من صفاء..
في موقف مهيب، تمردت العيون منَّا، وإنَّا -لمؤمنون حتماً- بكل قضاء!
نعي يا جنة الدنيا من اختلاجاتك ابتهالك للعلي القدير الرحمن..
بأن يرزقه -إن شاء الله- عالي الجنان..
تمرغين صمتك بدمع تخفيه ثكلى في حشا حوى رجفات حنان..
ودع الدنيا بتمتمات يفهمها كلُّ بار، محب، إنسان!
بيد أنك -يا حبيبتي- تعتكفين في محراب الفقد، تمررين طعم محنة عظيمة، بكبرياء واصطبار..
تتغلغل دموعك جوف أرواحنا.. والزفرات منك صامتة حزينة تحمل في طياتها حزن السنين وكأنَّها زفرات انكسار..

تختزل ذاكرتك شريطاً من العمر يمضي في عجالة كساعة احتضار..

تلملمين بِرَّه، عطفه، وحبه، تطوقينه في عنقك وأعناقنا عهداً من فخار..

بين ضلوعك -يا أماه- نطمئن بأنَّك تحلقينا كطوق من سوار..
أتعلمين أنَّه في آخر أيامه كان يتذكر أوجاعك، يهاب حزنك، وألا يرى منك دمعاً مدرار؟ وكأن كلَّ هول مصابه، وأوجاع المدى، والأسقام، وهزيم السنين..
لا تعني في عرفه.. في وجدانه.. في بِرِّه.. أكثر من ذكرك في كل حين رغم صراعه مع الموت سراً أو جهار..
أواه.. ليته يطلُّ علينا مرة أخرى.. لأعلم أنجالي كيف يكون البر مكشوفاً بلا دثار؟

سقى الله قبرا ضم منهلا من الجود، وموردا من الفكر .. تذكري أماه لطالما أغاث مساكين وجاد بماله ونفسه للضعفاء والمستضعفين…

وأقسم ما عابه في الهول ذلة .. فلو عددت محامده علينا لهي كثيرة…

تذكري أماه .. حين كان يغبط من رجال التاريخ العربي من مات حرا عزيزا.. قولا وعملا ..فأهداه الله زهو الالتحاق بهم.

***

يقول: “آندري جيد” “ليس الموت الذي نستحقه، بل الموت الذي يشبهنا”. كان لمازن ميتة تشبه عفته ونبله وكرامته.. رجل شهد له أهله ورفاقه بالشيم الأصيلة، والصفات الحميدة. رجل ولد بدم عربي، منذور لتصمت روحه وحيدا وعلى فراشه دون طلب العون من أحد، وهكذا الكرماء.. حتى بموته كان عفيفا تقيا زاهدا.. لم يحتج المعونة والمساندة من أحد إلَّا من خالقه حين أحتضنه وأسلمه روحه الطاهرة.
اللهم ارحم “أبا عبدالله”، وعافه واعف عنه، وتجاوز عن سيئاته، وعامله بالإحسان إحساناً، وبالتقصير عفواً وغفراناً.. اللهم مُدَّ له في قبره مَدَّ بصره، واجعله روضة من رياض الجنة يارب العالمين فـ”إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون”.

 

أدب العدد الخامس عشر

عن الكاتب

عزيزة الطائي

كاتبة عمانية