اسمي أحمد وأنا لست إرهابيا!

وفي الولايات المتحدة نفسها، لم أواجه أيا من تلك المخاوف، لكن ما لفت انتباهي هو حجم انتشار الصور النمطية stereotypes حول العرب والمسلمين، خاصة في المدن والضواحي التي لم تجرب ربما التعايش مع عرب أو مسلمين، بل أن من الشباب الجامعيين من يعتقد أن كل مسلم هو عربي، وكل عربي هو مسلم، وأن الهند وإيران وتركيا بلدان عربية، حتى أن زميلا فرنسيا سألني على مائدة عشاء جمعتنا ما إذا كان لدينا (جمل) في بيتنا، فأجبته بلهجة ساخرة : نعم ولدينا بئر نفط صغير كذلك!

 

 

لعل هذه قراءة انطباعية مختصرة ومتأخرة إلى حد بعيد حول مشاهدة الفلم الهندي (اسمي خان)، لكن عندما أعيد مشاهدة الفلم الآن يعيدني المشهد الأول منه باستمرار إلى أغسطس 2006م، يوم أن فصلتني سلطات مطار شيكاغو عن بقية المسافرين وأخضعتني للتفتيش الفردي الخاص، وهو نفس المطار الذي تبدأ منه حكاية الفلم، ذاك التفتيش أدى إلى تأخري عن موعد رحلتي الداخلية، كنت وقتها في طريقي إلى بنسلفانيا قادما من مسقط للمشاركة في البرنامج الدولي المعروف فولبرايت، وقبل هذا تم تأخير حصولي على تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة، تحت شبهة اسمي العربي جدا (أحمد محمد) واحتمالية وجود أسماء مشابهة لمطلوبين في سجلات أجهزة الأمن الأمريكية، هذا ما فهمته وقتئذ، واضطررت وقتها إلى بعث رسالة “شديدة اللهجة” إلى المسؤولين عن البرنامج والعلاقات العامة في سفارة الولايات المتحدة وإلى المشرفة على البرنامج في جامعة (باكنل)، الجامعة التي سأنضم إليها لاحقا لتدريس اللغة العربية ضمن البرنامج الذي ترعاه وزراة الخارجية الأمريكية، وكتبت وقتها مدافعا بأن “اسمي يمثل هويتي وثقافتي، وقد وافقت على المشاركة في البرنامج انتصارا للقيم الإنسانية المشتركة وإيمانا بالدور الثقافي الذي يمكن لبرامج التبادل الطلابي أن تلعبه، هذا اسمي الذي أعتز به ولا علاقة لي بأية نشاط إرهابي، وطالما الأمر كذلك وأنا في بلدي فأنني أخشى أن أواجه مواقف صعبة، حين انضم إلى البرنامج”، وعبرت عن استعدادي للانسحاب. اللغة الصريحة آتت أكلها وتم في أيام ترتيب أمر التأشيرة التي تأخرت لأسابيع، ولسوء الحظ سافرت عبر مطار هيثرو مع نهاية أغسطس 2006م وهو الوقت الذي أعلن فيه عن تهديدات باختطاف طائرات أمريكية قادمة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، ولذا إلتزمت الهدوء واصطنعت ابتسامة “متحضرة جدا” أثناء التفتيش الخاص في مطار شيكاغو، فيما كانت عيون الناس من حولي تراقب المشهد، وتوقعت أنهم يرقبون الحدث بمشاعر متباينة، وهذا ما تأكد لدي لاحقا من خلال معاشرتي للأمريكيين.

وفي الولايات المتحدة نفسها، لم أواجه أيا من تلك المخاوف، لكن ما لفت انتباهي هو حجم انتشار الصور النمطية stereotypes حول العرب والمسلمين، خاصة في المدن والضواحي التي لم تجرب ربما التعايش مع عرب أو مسلمين، بل أن من الشباب الجامعيين من يعتقد أن كل مسلم هو عربي، وكل عربي هو مسلم، وأن الهند وإيران وتركيا بلدان عربية، حتى أن زميلا فرنسيا سألني على مائدة عشاء جمعتنا ما إذا كان لدينا (جمل) في بيتنا، فأجبته بلهجة ساخرة : نعم ولدينا بئر نفط صغير كذلك!، وغيرها من الأسئلة والمعلومات التي تعكس جهل الأمريكي والغربي عموما بواقع المجتمعات العربية والمسلمة، وهذا الجهل أو التجاهل هو الذي أتاح للصور النمطية المشوهة التي يسوقها الإعلام وتدعمها ممارسات الجماعات المتخلفة في قراءتها للدين أن تنتشر وتترسخ، وتحويلها مع الوقت إلى بنى فكرية في إطار عقل جمعي غربي عام يتم من خلاله وعلى أساسه محاكمة (العربي) أيا كان هذا العربي، إنسان، ثقافة، فن، تاريخ، دين، ولعلكم تتذكرون حادثة قتل البرازيلي من قبل شرطة اسكتلند يارد فقط لأن ملامحه بدت شرق أوسطية، وهي مفارقة ربما يدفع البرازيليون ثمنها للخطأ الذي يرتكبونه بتقاسم ملامحهم مع العرب الأشرار!

***

(اسمي خان) يعد بحق انتصارا مزدوجا تسجله السينما الهندية بعد أعمال لافتة طوال السنوات الفائتة، أقول مزدوجا لأنها تكسر “الصورة النمطية” التي تهيمن على الأفلام الهندية أو سينما (بوليود) بوصفها أفلام تكرر نفس السيناريوهات التي تنتهي بأغاني راقصة و”بحكاية شرقية بختامها يتزوج الأبطال”، وأيضا لأنها تنتصر على آلة الدعاية الضخمة الموجهة لصناعة أوهام الصراع وحتمية الصدام الحضاري، والخطوط الدموية بين الثقافات، التي روج لها بإستماتة صمويل هنتجغتون وغيره.

تدور أحداث الفلم فائقة الإتقان حول رسالة بسيطة وعميقة في ذات الوقت ، هي أن الناس في العالم إما خيرين وهم يفعلون الخير، وأما أشرار وهم يفعلون الشر، هكذا ببساطة، دون أن تحتاج البشرية إلى تقسيمها على طريقة (إن لم تكن معي، فأنت ضدي)، ومنذ بدء الفلم حتى ختامه، يجد المشاهد نفسه متعاطفا مع جوهره الفطري النبيل في المواجهة المباشرة بين النزعة الإنسانية في “التعارف” والالتقاء والتفهم، والروح العدائية التي ترى العالم من زاوية سوداء ضيقة، تفتش فيه عن نقاط التباين والإختلاف لتجعل منها منطلقات لتصنيفه وللتعامل معه.

***

وفي وسائل الإعلام نكتة راجت لفترة، وساقها الكاتب الشهير توماس فريدمان في إحدى مقالاته، تقول أن مصورا أمريكيا التقط تفاصيل مشهد بطولي بجوار حديقة عامة في نيويورك، حيث هب شاب لإنقاذ طفل من هجوم مميت لكلب مسعور، مما اضطر الشاب إلى قتل الكلب، فما كان من الصحفي إلا أن اقترب من الشاب مهنئا له على بطولته وقائلا: غدا سأنشر قصتك وستكون بطولتك حديث الناس، سأكتب (رجل من نيويورك ينقذ طفلا من موت محقق)، لكن الشاب أجاب: لكني لست من نيويورك، فرد الصحفي: حسنا، سأكتب (رجل أمريكي ينقذ طفلا من موت محقق)، وأيضا أجاب الشاب: لكني لست أمريكيا، فبادر الصحفي بسؤاله: حسنا: من أين أنت؟، فأجاب الرجل: أنا من باكستان، وفي الصباح الباكر كانت الصحف تتناقل خبرا مفاده (إرهابي يقتل كلبا بالقرب من حديقة عامة).

***

السقوط في فخ الصور النمطية السلبية يلقي بتداعياته القاسية على فرص التعايش الإنساني، ويبدد كل محاولات الحوار والتفاهم سواء تلك المبذولة من مؤسسات بعينها، أو تلك التي تتوق إليها الشعوب وتتفاعل معها عبر مستويات مختلفة، وانتشار هذه الصور النمطية يحفز السلوك العدائي الموجه ضد هذه الفئة أو تلك من البشر، ومن الواضح أن الإعلام و (سلطة الصورة) تحديدا تعلب دورا سيئا للغاية في هذه المسألة، والإنجاز الذي تقدمه أفلام كما (اسمي خان) هو أنها تستخدم نفس الأداة ذات التأثير الحاسم في أذهان الناس، لاسيما عندما نعلم أن عدد دور السينما في الولايات المتحدة بمفردها يزيد عن 6 آلاف قاعة عرض يحضرها أناس من مختلف الأعمار والمستويات الثقافية.

 

في المقابل يلعب التطرف الفكري البغيض الدور الأكبر في توسيع فجوة العداء بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق المختلفة، وما حصل مؤخرا في غزة على سبيل المثال من قتل للمتضامن الإيطالي (فيتوريو أريجوني) لا يمكن في عصر كهذا فهمه ولا تبريره، لأنه يستند إلى فكر متطرف يرجع إلى عصور سحيقة في البدائية وإلى ما قبل قدرة الإنسان على ابتكار القانون وخلق كيان الدولة، بل إلى ما قبل اكتشاف الإنسان للقيم والأخلاق التي ميزته عن حيوان الغاب، وستجد من يتعاطف مع هؤلاء تحت سيطرة وهيمنة الصور النمطية أيضا، وستجد من يستغل هذا الحدث لترسيخ صور سابقة وتأكيدها في أذهان المشاهد أو القارئ وتعميم هذا السلوك على أتباع الدين الذي تقول تلك الجماعة أنها تنتمي إليه، ذاك الدين العظيم الذي يعتبر قتل النفس بغير “حق” هو قتل للإنسانية جمعاء.

 

ولأن هذه الأفكار تولد في الأدمغة ويتم ترسيخها عبر أدوات تشكيل البنى الفكرية للإنسان، ينبغي توظيف ذات الأدوات من أجل مناهضتها ومحاربتها وإحلال خيارات التعايش السلمي والتفاهم والتضامن الإنساني، وفي الحد الأدنى تمكين الناس من التمسك بثقافة التقبل وقبول الإختلاف والتنوع كمصدر للقوة للمجتمع الإنساني عامة، وللمجتمعات المحلية في كل الدول التي يعيش بعضها اليوم أزمات هائلة بسبب عجز أفرادها عن إحترام إختلافهم وتنوعهم.

العدد السادس عشر ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد بن محمد الغافري