الاسلام والليبرالية (5/1)

يقف العالم اليوم لا على عتبة تزاحم التيارات السياسية الدينية والليبرالية وحسب وإنما هو بالفعل يكابد ويلات صدام هائل بين القيم الليبرالية والدينية على المستوى الفردي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفكري.

lunar_crescent

الإسلام والليبرالية (5/1)


زكريا بن خليفة المحرمي


مع بدايات القرن العشرين ظهر جلياً أن المنظومة السياسية على مستوى العالم المتقدم باتت منحصرة في نظريتين سياسيتين لا ثالث لهما، وهما الليبرالية والاشتراكية، وتم عولمة هاتين النظريتين إلى باقي دول العالم التي سارت بالتبعية في ركاب فلسفة المحتل ليبراليا كان أم اشتراكيا. مع بروز ظاهرة التدين على مستوى العالم ووصول الكثير من التيارات الدينية إلى ساحة الصراع السياسي وفق ما تم الاصطلاح عليه بـ(لاهوت التحرير) حدثت ثورة تعبوية مضادة لهذا اللاهوت تحاول التصدي لتغوّل وتوّغل ما تم اعتباره إيديولوجيات إقصائية في الحرم السياسي. مع نهاية القرن العشرين استطاعت الليبرالية التي انتحبت الرأسمالية الاقتصادية مزاحمة الاشتراكية الشيوعية بل وإزاحتها وتجسد هذا الحدث في سقوط الاتحاد السوفيتي الذي كان أكبر قلاع الاشتراكية، وتقسيم يوغوسلافيا ورأسمالة الصين.

ظل الدين هو الغائب الحاضر في ميدان الصراع، فمع تغييب القوى السياسية المتنفذة له من ساحة الفعل السياسي كان حاضراً وفاعلاً بقوة في ساحة صناعة الفكر وتشكيل ثقافة المجتمعات، بل وكان عاملاً حاسما في تثوير المجتمعات ضد الانحرافات السلطوية ليبرالية كانت أم اشتراكية. استطاع العامل الديني مع بدايات ثورات التحرر الوطني التي اشتعلت في نهايات الحرب العالمية الثانية أن يدخل ميدان الصراع السياسي، تمثل هذا الدخول بداية من خلال تشكيل الأحزاب السياسية، ومن ثم تم الدخول عن طريق الاختراق الديني للمنظومة الليبرالية نفسها كما حصل في الحزب الجمهوري الأمريكي.

يقف العالم اليوم لا على عتبة تزاحم التيارات السياسية الدينية والليبرالية وحسب وإنما هو بالفعل يكابد ويلات صدام هائل بين القيم الليبرالية والدينية على المستوى الفردي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفكري.

بعد تراجع اليسار الاشتراكي وانحسار دور الكنيسة وإزاحة كل منهما من دائرة المنافسة الثقافية العالمية لم يبق في ساحة الصراع الفكري العالمي غير الليبرالية والإسلام. هذا الواقع هو ما عبر عنه البعض كبرنارد لويس وصموئيل هنتجتون حين تحدثوا عن صراع الحضارات النهائي بين الإسلام والليبرالية، وإن كان فوكوياما قد حسم نتيجة الصراع بالقول أن الليبرالية الرأسمالية قد أنهت جميع جولات صراعها الفكري بسحق الفلسفات الأخرى، وأن تاريخ الإنسانية انتهى عند فلسفة الليبرالية الرأسمالية!

الصراع بين الليبرالية والإسلام ليس صراعا افتراضيا مفارقا لواقعنا، إن تجليات هذا الصدام في عالمنا العربي غير خافية، فالعلاقات الأسرية التقليدية بدأت في التجدد، والقيم الاجتماعية الكلاسيكية بدأت في التبدد، وبدأ داخل الأسرة والمجتمعات حراك صاخب باتجاه إعادة ترسيم وصياغة حدود تلك العلاقات. أما على مستوى النخب الثقافية فإن الصدام الفكري يتجلى في اللغة الخطابية التي تجاوزت حدود الحوار والجدال بالتي هي أحسن إلى لغة التبخيس والتجريح والسباب والقذف.

إن من بين أهم أسباب الصدام العنيف بين ممثلي الليبرالية والإسلام في عالمنا العربي هي تلك الضبابية التي تلف كلا الفكرين والأطروحتين، فالفكر الإسلامي المطروح ليس سوى لفيف قراءات اجتهادية للنص الإلهي، هذه القراءت المتعددة ليست بالضرورة متجاورة ومتكاملة بل هي في كثير من الأحيان متضادة ومتصادمة، فممثلو كل قراءة يزعمون أنهم حملة قبس النور المقدس وغيرهم قابع في ظلمات الهلاك والضلال. كثيرة هي القراءات الإسلامية للنص الإلهي، فهناك القراءة الصوفية، وهناك القراءة السلفية بتفرعاتها الثلاثة التقليدية والإخوانية والجهادية ، وهناك الطرح الشيعي القائم على ولاية الفقيه والآخر القائم على تكفير أتباعها، وهناك الإباضيون وهناك الزيديون.  وكل فريق من هؤلاء يزعم أنه (الفرقة الناجية) وأن قراءته للنص الديني تمثل القراءة النهائية التي تجبّ ما سواها.

الفكر الليبرالي ليس أقل انشعابا بل ربما يكون أعقد اشتباكاً من سالفه، فهناك الليبرالية العلمانية، وهناك الليبرالية القومية، وهناك الليبرالية الرأسمالية، وهناك الليبرالية الأدبية، وهناك ليبرالية الشارع!

كأي حدث لم يُعدم الصراع بين الليبرالية والإسلام عن الرصد والتحليل ومحاولة المقاربة، وآخر تلك المقاربات أسفرت عن ظهور مصطلح (الإسلام الليبرالي) وتم اعتبار حزب العدالة والتنمية التركي أكبر  ممثليه، وبدراسة هذا المفهوم وقراءة تجربة أصحابه ندرك أنه لا يأسس لنظرية فكرية ناضجة بقدر ما يعبر عن محاولة براجماتية لفك الاشتباك مؤقتا بين الإسلام واللبيرالية على المستوى السياسي فقط.

ما تنشده مجتمعاتنا العربية اليوم ليس مجرد التوفيق التلفيقي الأشبه بدس الرؤوس في التراب، بل نحن بحاجة ماسة إلى تشريح الأطروحات جميعها، ومحاولة فهم الأسس التي تنبني عليها، ومن ثم الحكم والاختيار وانتخاب الأفضل القادر على البقاء والاستمرارية.

العدد الأول ثقافة وفكر

عن الكاتب

د. زكريا بن خليفة المحرمي

باحث وكاتب