محراب الفراشة

شيء ما في الفجر، يحيي فينا املا غريبا، ذلك الاحساس الذي ينتابنا ونحن نفارق قمرا يخفت نوره رويدا. وشيء ما في الظلمة، يشي لنا بشيء من الخوف والشوق والامان الذي لا يتحقق الا بشعاع نور يخترقه, كنصل كتارة عمانية.
الفلق، هكذا هو، بابتسامته الساخرة نهاية كل ليل يوشوش لنا، اننا مهما حاولنا عبثا ان نطغى على ظلمة الليل بمصابيح تنساب فيها افلاج الكهرباء بكل دقة، او قناديل ترشف عرق التراب مثلما ترشف عجائز الصحراء فنجان قهوتها الصباحي، فان الليل لا ينجلي الا بشعاع شمسي، وكوكب يتراقص طربا وهو يدور حول نفسه، لينساب ضوء تلك النجمة الاقرب الينا رويدا على الجبال والهضاب، السيوح وتلال الرمال، مراعي الاغنام، شرفات المنازل، اثاث المجالس، ازقة الحواري، سعف النخيل، خَلال العسق المتدلي، سواقي الافلاج، عناقيد العنب، نوافذ السيارات، احذيتنا المبللة بندى الليل الغارقة في الرطوبه، بعدما انهكها مسير النهار الملبد بغبار الارض، ورفات الغابرين. اولئك اللذين علمونا انه لولا انسلاخ الليل لما اتى نهار، ولولا سواد القلم، لاصبحت الصفحة البيضاء فارغة، ولولا الاضداد، لما ظهر الجمال المرسوم في لوحة اعجاز رائعة تضمنها كتاب الله المنظور.
وهذا هو الصباح الذي تفتحه مجلة الفلق، من هنا كان المنشأ، ومن هنا تأتي قناعتنا أننا بحاجة ليس فقط الى تقبل الاختلاف، وانما الى تبنيه فلسفة ومنهاجا في التعامل مع الاخرين. إن من يمارس القمع ضد الاخرين، إنما يمارس – دون وعي – عزلة اجتماعية على نفسه، وعزلة فكرية على عقله. فقمع الاخر، لا يأتي دون ممارسة فعليه للعنف، ومن يلجأ الى العنف او التسخيف مع الاخر المختلف وفكره، انما يثبت قدما عدم قدرته على التعامل مع الفكرة الاخرى المغايرة، وعلى عدم ثقته بفكرته التي يتبناها.
ان اللجوء الى العنف في مواجهة الفكرة، لا تظهر الا سلاطة اللسان الخطابية، والتي تؤدي عادة الى ضمور الفكرة وتواريها تحت نيران السباب الملتهب. انما الفطن الذي يعمد الى اذكاء فكرته بما يوقد نورها، ويظهر جمالها، فتسلب الالباب ، وتريح النفوس، وتخطو خطوتها الملائكية الواثقة، نحو استقرارها في المصفوفة الفكرية.
في داخلنا جميعا، تكمن تلكم النزعة الفرعونية* التي تعمد الى اخراس صوت الاخر المختلف واقصائه، بيد ان ما يميزنا عن الحيوانات المفترسة، هي تلكم القدرة على ضبط الذات، وارجاع العقل الى صراطه المستقيم. لهذا تاتي مجلة الفلق الالكترونية اليوم، لتشق بعصاها طريقا في البحر يبسا، تسري فيه انسانيتنا بسلام، وتغرق ذلك الفرعون القابع في نفوسنا. تاتي الفلق، لتضم اصابع اليد المختلفة الى جناح الفكر، لتخرج بيضاء من غير سوء، تدهش في جمالها فرعون وملأه.
لقد اتي على بلادنا حين من الدهر لم تكن ثقافة الاختلاف فيه شيئا مذكورا، بل كان – وما زال – المجتمع يعاني من شح النقد الذاتي، والتفكير المنهجي، الذي يقود الى رحاب التطور، ويعطي الوقود اللازم لانطلاق الانسان في مضامير الفكر، ويجهز البلور الذي يروي ظمأه من ينابيع الحكمة. وما زالت كل محاولات التفكير الخارجة عن المدارس السائدة تقابل بردود افعال متباينه، تتوسل اللين تارة، ويطغى العنف عليها تارة اخرى. لتتصندق الافكار كلها في صناديق مغلقه، وكل يرى ان العالم باسره، بحره وسمائه قابع في صندوقه. والجميع يخشى ان يرى ما في صندوق الاخر، فالصناديق التي تعزف الابواق امامها، انما هي صناديق تحمل افاعي راقصه في داخلها.
نحن في الفلق، ندعوا الجميع ان يفتحوا صناديقهم للجميع، وان لا يتخوف اصحاب الدوائر الفكرية المغلقه، من الولوج في دائرة الاخر المختلف، فلعله يجد فيها ما يتقاطع مع دائرته. فتتقارب الدوائر، ويزول ذلك الخوف من الاخر، ليصبح تعاملنا حينها مع الافكار لا مع الشخوص، ونعطي تلكم الافكار التي نرعاها بحرص وعناية، فرصة التلاقح او التنافر مع الاخر. هكذا تصقل الافكار، وهكذا تبنى اعمدة الاحترام المتبادل.
نحن لا نزعم ان الفلق ستكون النور الذي سيزيح عتمة ليل الجهل، لكننا نامل ان نكون تلكم الابتسامة الساخرة في وجهه لتنبئه بوجود طوفان النور الجارف، الذي سيمحي ظلمته ويغسل ما تبقى من رجسه.

butterfly-light-ray-blue

شيء ما في الفجر، يحيي فينا املا غريبا، ذلك الاحساس الذي ينتابنا ونحن نفارق قمرا يخفت نوره رويدا. وشيء ما في الظلمة، يشي لنا بشيء من الخوف والشوق والامان الذي لا يتحقق الا بشعاع نور يخترقه, كنصل كتارة عمانية.

الفلق، هكذا هو، بابتسامته الساخرة نهاية كل ليل يوشوش لنا، اننا مهما حاولنا عبثا ان نطغى على ظلمة الليل بمصابيح تنساب فيها افلاج الكهرباء بكل دقة، او قناديل ترشف عرق التراب مثلما ترشف عجائز الصحراء فنجان قهوتها الصباحي، فان الليل لا ينجلي الا بشعاع شمسي، وكوكب يتراقص طربا وهو يدور حول نفسه، لينساب ضوء تلك النجمة الاقرب الينا رويدا على الجبال والهضاب، السيوح وتلال الرمال، مراعي الاغنام، شرفات المنازل، اثاث المجالس، ازقة الحواري، سعف النخيل، خَلال العسق المتدلي، سواقي الافلاج، عناقيد العنب، نوافذ السيارات، احذيتنا المبللة بندى الليل الغارقة في الرطوبه، بعدما انهكها مسير النهار الملبد بغبار الارض، ورفات الغابرين. اولئك اللذين علمونا انه لولا انسلاخ الليل لما اتى نهار، ولولا سواد القلم، لاصبحت الصفحة البيضاء فارغة، ولولا الاضداد، لما ظهر الجمال المرسوم في لوحة اعجاز رائعة تضمنها كتاب الله المنظور.

وهذا هو الصباح الذي تفتحه مجلة الفلق، من هنا كان المنشأ، ومن هنا تأتي قناعتنا أننا بحاجة ليس فقط الى تقبل الاختلاف، وانما الى تبنيه فلسفة ومنهاجا في التعامل مع الاخرين. إن من يمارس القمع ضد الاخرين، إنما يمارس – دون وعي – عزلة اجتماعية على نفسه، وعزلة فكرية على عقله. فقمع الاخر، لا يأتي دون ممارسة فعليه للعنف، ومن يلجأ الى العنف او التسخيف مع الاخر المختلف وفكره، انما يثبت قدما عدم قدرته على التعامل مع الفكرة الاخرى المغايرة، وعلى عدم ثقته بفكرته التي يتبناها.

ان اللجوء الى العنف في مواجهة الفكرة، لا تظهر الا سلاطة اللسان الخطابية، والتي تؤدي عادة الى ضمور الفكرة وتواريها تحت نيران السباب الملتهب. انما الفطن الذي يعمد الى اذكاء فكرته بما يوقد نورها، ويظهر جمالها، فتسلب الالباب ، وتريح النفوس، وتخطو خطوتها الملائكية الواثقة، نحو استقرارها في المصفوفة الفكرية.

في داخلنا جميعا، تكمن تلكم النزعة الفرعونية* التي تعمد الى اخراس صوت الاخر المختلف واقصائه، بيد ان ما يميزنا عن الحيوانات المفترسة، هي تلكم القدرة على ضبط الذات، وارجاع العقل الى صراطه المستقيم. لهذا تاتي مجلة الفلق الالكترونية اليوم، لتشق بعصاها طريقا في البحر يبسا، تسري فيه انسانيتنا بسلام، وتغرق ذلك الفرعون القابع في نفوسنا. تاتي الفلق، لتضم اصابع اليد المختلفة الى جناح الفكر، لتخرج بيضاء من غير سوء، تدهش في جمالها فرعون وملأه.

لقد اتي على بلادنا حين من الدهر لم تكن ثقافة الاختلاف فيه شيئا مذكورا، بل كان – وما زال – المجتمع يعاني من شح النقد الذاتي، والتفكير المنهجي، الذي يقود الى رحاب التطور، ويعطي الوقود اللازم لانطلاق الانسان في مضامير الفكر، ويجهز البلور الذي يروي ظمأه من ينابيع الحكمة. وما زالت كل محاولات التفكير الخارجة عن المدارس السائدة تقابل بردود افعال متباينه، تتوسل اللين تارة، ويطغى العنف عليها تارة اخرى. لتتصندق الافكار كلها في صناديق مغلقه، وكل يرى ان العالم باسره، بحره وسمائه قابع في صندوقه. والجميع يخشى ان يرى ما في صندوق الاخر، فالصناديق التي تعزف الابواق امامها، انما هي صناديق تحمل افاعي راقصه في داخلها.

نحن في الفلق، ندعوا الجميع ان يفتحوا صناديقهم للجميع، وان لا يتخوف اصحاب الدوائر الفكرية المغلقه، من الولوج في دائرة الاخر المختلف، فلعله يجد فيها ما يتقاطع مع دائرته. فتتقارب الدوائر، ويزول ذلك الخوف من الاخر، ليصبح تعاملنا حينها مع الافكار لا مع الشخوص، ونعطي تلكم الافكار التي نرعاها بحرص وعناية، فرصة التلاقح او التنافر مع الاخر. هكذا تصقل الافكار، وهكذا تبنى اعمدة الاحترام المتبادل.

نحن لا نزعم ان الفلق ستكون النور الذي سيزيح عتمة ليل الجهل، لكننا نامل ان نكون تلكم الابتسامة الساخرة في وجهه لتنبئه بوجود طوفان النور الجارف، الذي سيمحي ظلمته ويغسل ما تبقى من رجسه.

أدب العدد الأول

عن الكاتب

المعتصم البهلاني

رئيس تحرير مجلة الفلق الإلكترونية