على هامش التحرير

كتب بواسطة بدر العبري

صحيح أن “الجزيرة” ساهمت في إنجاح الثورة وإسقاط نظام طاغية امتص ثروات الشعب لدرجة أن “الأرض كانت غضبانة” كما قال سائق سيارة أجرة لنا ولكنها ضخّمت من “سعة الصورة” على حساب إنسانية الثورة وعلى حساب تفاصيل دقيقة تُبيّن أحياناً عظمة الثورة وفي أحيان أخرى – والحق يُقال!- عبثيتها.

في هذه السلسلة من المقالات سأحاول الحديث عن الثورة المصرية على ضوء زيارة فريق الفلق لمصر نهاية شهر أغسطس الماضي, ستكون هنالك قراءة مغايرة قليلا لما رسمه الإعلام لنا كما أن إسقاط الأحداث المصرية على واقعنا المحلي أمر لا بد من التطرّق إليه في قادم المقالات.

بدر العبري في ميدان التحريرعندما نزلتُ من سيارة الأجرة مع رفاقي أمام “ميدان التحرير” بالقاهرة ليلاً لأول مرة في نهاية نوفمبر المُنصرم ، كان تصوري الوحيد عن المكان هو ما تنقله لنا قناة “الجزيرة” عنه: عشرات الآلاف من المُعتصمين الغاضبين يهتفون ليل نهار بسقوط المجلس العسكري وبإعدام المشير، لا يكلون ولا يملون كما أنهم لا يتزحزون من أماكنهم قيد أنملة رغم البلطجية والغازات المُسيلة للدموع والرصاص الحي والميت الذي ينهال عليهم بين توتر وآخر. ولذلك كان خوفيّ الوحيد مُترّكزاً على رأسي من رصاصة طائشة تُعيدني لوطني جثة هامدة مع تقرير تشريح جثتي بدلاً من تقرير حول الأوضاع في ميدان التحرير.

ولكن ما إن خطوت بضع خطوات بعيداً عن سيارة الأجرة حتى استقبلني صراخ فتى دون العشرين من عمره وهو يشير لي بفرشاة رسم وألوان وبوجهٍ رُسم عليه علم مصر “إرسم ع وشك علم مصر.. بتلاتة جنيه بس”.. تحسستُ جيبي وتأكدتُ من وجود محفظتي وقد انتقل الخوف عليها تدريجياً وأنا أتابع المشهد أمامي:

باعة مُتجولون ينادون على ما يحملونه، وآخرون مصطفون على جانبيّ الشارع ليبرزونها، العشرات من سيارات الأجرة تنتظر زبائنها لتقلّهم من أمام الميدان لمختلف أنحاء القاهرة، وآخرهم بائع يمتاز بحمله لمكبر صوت وهو ينادي بصوت أجش على بطاقات إعادة الشحن لمختلف شركات الإتصال المصرية.

 

“أهذا هو ميدان التحرير؟!!”

أجاب أحد صاحبيّ بلا، فميدان التحرير ما يزال بالأمام، مشينا والمشهد ما زال يتكرر أمامنا إلى ما نهاية، مئات الباعة ومعروضاتهم المُتشابهة ولكن مع إختلاف الوجوه: بائعٌ كهل وخلفه عائلته تجلس بصمت، طفلٌ وحيد لا أدري كيف يتدفأ من البرد والوحدة في هكذا ظلام، عجوزٌ تنادي على بضاعتها وبجوارها فتاة يانعة تكتفي بالتحديق بالوجوه المارّة بصمت…إلخ، حتى على بُعد أقدام من ثورة الخبز كان للجوع موطئ قدم!

 

ووصلنا أخيراً إلى عتبات ميدان التحرير..

كان في استقبالنا هناك حاجزٌ من المتطوعين يقومون بالتحقق من هويات الداخلين وتفتيشهم، كُنامستعدِّين لهكذا لحظة بجوازاتنا وفي غضون ثوان كُنا قد أصبحنا داخل الميدان.

ولكن ما داخل الميدان لم يكن يفرق كثيراً عن خارجه فصفوف الباعة ما تزال مستمرة على مدّ البصر ببضاعتهم التي لم تختلف كثيراً: أعلام مصر بمختلف الأحجام، صور الزعماء الدينيين والسياسيين المصريين والعرب، شاي، فندال، ميداليات، كُشري، مكسرات، تماثيل مُصغرة لأبرز المعالم السياحية بمصر..إلخ، كان الأمر في البداية أشبه بــ”سوق جمعة” عُماني ولكن مع لمسة مصرية.

وأخيراً بدأت صفوف الباعة بالتلاشي تدريجياً مع اقترابنا من قلب الميدان، وهناك – في وسط الميدان- كان في استقبالنا مظاهرة حاشدة تهتف بسقوط المُشير، وفي الحقيقة كانت هناك مجموعات صغيرة من الناس تتمركز حول شخص ما يصرخ وهو مرفوع فوق الأكتاف ليصرخ بعبارات مناهضة للمجلس العسكري ليكرروا ما يقوله، وهكذا تتكرر هذه المجموعات والدوائر الصغيرة لتشكل للناظر من خلال “الشاشة الصغيرة” دائرة كبيرة وحشد ضخم متجانس من الناس، في حين أن التفاصيل الصغيرة تغيب حينها.

 

“الجزيرة” التي ترّبعت كاميراتها في بناية مجاورة من عدة أدوار كانت المثال المناسب لهكذا تغطية؛ التغطية التي تُغيّب التفاصيل الصغيرة لتخلق صورة يتيمة عريضة للمشهد.. صورة غير مُزوّرة قطعاً.. ولكنها ليست “الحقيقة كاملة” كما تحاول إقناعنا.

صحيح أن “الجزيرة” ساهمت في إنجاح الثورة وإسقاط نظام طاغية امتص ثروات الشعب لدرجة أن “الأرض كانت غضبانة” كما قال سائق سيارة أجرة لنا ولكنها ضخّمت من “سعة الصورة” على حساب إنسانية الثورة وعلى حساب تفاصيل دقيقة تُبيّن أحياناً عظمة الثورة وفي أحيان أخرى – والحق يُقال!- عبثيتها.

فبينما كنت أتسكع ليلاً – يومها وفي الأيام اللاحقة- لطالما شدتني تلك التفاصيل الدقيقة من الميدان التي لا ينقلها الإعلام لنا إلا لماماً لأنها لا تشكل “خبطة صحفية” أو لــ”مآرب أخرى”: صورة الفتاة الجميلة التي تتأبط ذراع شاب لا يملك إلا أن يكون وسيماً أمامها بينما يأكلان من نفس العلبة، العائلة المصرية التي فرشت بساطها على جنب وجلست لتتناول عشاءها غير عائبة بضجيج المظاهرات التي تعبر الميدان خلفها، الصغار الذين يطاردون بعضهم البعض، الصغير الذي يبيع “المحارم الورقية” أو المياه للمتظاهرين..الخ، باختصار يمكنني القول إن كانت مصر أم الدنيا فإن ميدان التحرير كان حينها أم مصر، فالناس هنا بمختلف مشاربهم جاؤوا لمختلف الأهداف بدءاً من الاعتصام انتهاءً بالتفسح ومروراً بطلب الرزق!

والوضع كاد أن ينقلب إلى “سياحة ثورية” لاحقاً عندما أصبحت أجول مع الصديق المشاكس عمار المعمري في الميدان متنقلاً من بائع لآخر لنكسب دردشة ودية نتعرف من خلالها على حقيقة الوضع ولنجرب مختلف أنواع المأكولات الخفيفة، فكان من الطبيعي أن نرى مثلاً مجموعة من الشباب السعوديين يلتقطون صورا لهم أمام علم بلادهم بالميدان كي يسجلوا حضورهم بــ”صورة” في هذه اللحظة الفارقة من التاريخ المصري، ولم لا؟! فالأهرامات باقية لعقود أخرى في حين أن مصر قد تستقر في أية لحظة من الآن!

ولكن كل هذا لا يظهر في الصورة الواسعة للجزيرة التي تُلتقط من بعيد، فالحبيبين والصغار والعائلة وأنا وعمار كلنا من بعيد نشكل جزءاً من صورة المتظاهرين والغضب الشعبي على المجلس العسكري على عكس ما كنا عليه.

 

ومن أوضح التبريرات التي حصلت عليها في كيفية تحول التحرير إلى هكذا صورة ما قاله لنا بائع عجوز: ” جئت للمشاركة في ثورة يناير، وبعد سقوط مبارك جئت بأعلام مصرية لبيعها للمتظاهرين، وبعد أن رأيت أن التجارة ناجحة جئت بأعلام أخرى وبصور بعض الزعماء، وبعد مرور الوقت أصبح لي ركن ثابت بالميدان لأترزق منه”. ومن الواضح أن القصة هي نفسها بالنسبة للبقية. إن الناس في الميدان لمختلف الأهداف والغايات وبمختلف الخلفيات ولكن هذا لا يظهر إلا لمن ينزل للميدان حقاً.

 

بالطبع لا يجب أن يفهم من الكلام أعلاه التقليل من وزن الثورة المصرية ولا من متظاهري التحرير ومن إعادة صياغتهم للتاريخ المصري والعربي، فهو بدايةً يتناول فترة قصيرة ومتأخرة نسبياً من عمر الثورة المصرية، وهي فترة لا يتفق الجميع فيما يجب عمله فيها، فبينما كان معتصمو التحرير يتظاهرون ضد المجلس العسكري كان معتصمو ميدان العباسية يعتصمون لتأييده ولتأييد قرار تكليف الجنزوري بتشكيل الحكومة، وكذلك كان الإخوان المسلمون بعيداً عن الإعتصامات خشية وقوع ما لا تحمد عقباه.

بل ما يجب أن يفهم هو العكس تماماً، فالثورة المصرية والاعتصامات اندمجت تماماً مع الحياة المصرية اليومية ونجحت في أن تكون جزءاً من الحياة اليومية للمجتمع هناك، كما أنها ضمنت لنفسها الإستمرارية عندما أصبحت جزءاً أساسياً من حياة البائعين –مثلاً – هناك. وهو الأمر الذي يجب أن يُخشى منه كذلك حتى يتم تحويل مسار الثورة لمسارٍ آخر أو الدخول في دوامة غير منتهية من الخلافات والنزاعات وهو ما يبدو أنه قد حصل.

 

ما حاولت ذكره في الأعلى هو فقط توضيح بعض التفاصيل التي وضعها الإعلام على هامش التحرير في حين أنها أساس من أسسه وجزء منه، ويجب علينا أن لا نصدق الصورة التي يحاول أن يرسمها البعض عن الميدان لغرض أو لآخر، فالصورة أعمق مما تبدو عليه في “الشاشة” وأكثر جماليةً بكل تأكيد.

وفي المقالات القادمة سيكون هناك قراءة أوسع للخلفية التاريخية التي دفعت بمصر للوصول لثورة 25 يناير، كما أن عدداً من المقارنات مع وضعنا المحلي ستكون بالطريق، وكذلك قراءة أدق للمنظمات والأشخاص المشاركين في صناعة تلك الثورة

العدد الثاني والعشرون سياسة

عن الكاتب

بدر العبري