ربيع الحرائق الجميلة

لم يتوانَ النظام العربي “البوليسي” في كبت جماح الثورة رغم استيفائه كل وسائل الترهيب والقمع، قنابل مسيلة للدموع أريقت بوجه المحتجين قيل إنَّها تستعمل في الأصل ضد “الخنازير”، رصاص حي أطلق على الرأس والرقبة والصدر مباشرة

هل من ربيع للحرائق الجميلة؟!.. يقول هوميروس: “ليس هناك في الدنيا شيء أعذب من أرض الوطن”… ومن أجل الوطن نصوغ أحلامنا؛ إلَّا أن البعض لم يترك لنا حرية صناعة الحلم فكان علينا الانتحار أو الرحيل عنه.. وحتى لا ننتحر أو نرحل تعلمنا صناعة الأُوكسجين كي نتنفس تحت الماء، وأتقنا تكوين الجناحين كي نغرد في أفقه، وتمرسنا غرس البذور حتى تبقى جذورنا ممتدة في أرضه وأغصاننا فارعة في سمائه.. فما كان إلَّا عبثا أن يفرغوا هواء الروح، ويحجبوا شمس الحرية، ويقطعوا أشجار الغابات.

وفي الحلم لا يخرج خاسراً إلَّا الموت.. لهذا نحلم، ولذا نتطلع كي لا تصدأ العيون وتكمم الأفواه وتنحسر الرؤى إلى غير رجعة.. فالشباب الأنقياء هم الأقدر على صياغة الحلم، وهم الأقدر على نسج الرؤى، وهم الأقدر على إشعال الحرائق الجميلة باختلاط تدرجات لونيها الأحمر والأزرق، وانبساط شعاع ضوء قبسها المشرق..

***

ثمة طاقات شابة لا زالت قادرة على صناعة الحلم وسط كل هذا العالم الكثيف المادي، وعلى إشعال غاباته بقناديل تحرق جزءاً من العتمة، فبوركت الحرائق التي توقد النَّار وتولِّد الطاقة وتحرر الكامن.‏

في كثير من ربوع الدول العربية المتاخمة، شباب حالمون تطلعوا لفتح صفحة جديدة في الفضاء، وسعوا لكسر حاجز عازل في الساحة، فكانت الحرائق الجميلة ركناً هادئاً بين جنباتها وزاوية مزهرة في منعطفاتها، وكانت النداءات المتميزة عبر أبوابها المتعددة، والحجاجات النيرة تثقب جدرانها لينبعث الضوء الطليق لشعوبها أجيالا برسم الكلمات، وبزكاء الأنفاس عبر« المواقع الإلكترونية» التي كانت أول عهد المبادرين لاحتضان حرية التعبير، أو من خلال”الصحافة الحرة” التي كانت الصفحة الواثقة للكلمة الحرة بما ينشر فيها والتفاعل معها..فهنيئاً لكل الحالمين بالتغيير المأمول في كل منبر حر، وزاوية جريئة، وركن متوقد من المحيط إلى الخليج.‏

لنخط بهمة إرادتنا سويا كلمات مضيئة لكل الحالمين والمتطلعين حلماً من نوع آخر اسمه « لماذا التغيير»؟!.. هو مقهى ثقافي، وربما صحيفة، وربما راية شامخة بامتياز توظف كل جماليات الفكر والفن والموسيقا لاجتذاب رواده.. إنَّه ركن آخر لتناول قهوة الثقافة، أو افتتاح مقهى التغيير.‏

***

في البدء كان الحلم، ومنه نسج حلم متألق بصفحة يرسم فيها الجيل الجديد ملامح طريق واعدة بكلماته وأفكاره ورؤاه..فلا زلنا بحاجة الى مشاغبة الشباب القادرين على إشعال الحرائق الجميلة النيِّرة؛ خاصة وأن الغالبية العظمى منَّا تحولوا إلى رجال إطفاء!‏ بالخوف بالحَزن بالجبن بالقنوط بالاستسلام..ولكن كسر الشباب العربي حاجز الخوف الذي جثم على صدور الكادحين من أجل لقمة العيش، وخرجوا من المناطق المهمشة تنمويا في مسيرات تندد بالبطالة والمحسوبية وسوء توزيع الثروة، وتنادي بالخبز والعدالة والحرية.

أوجدت الدولة الشرعية من يسايرها ويوائمها ويواليها لضرب المحتجين وقمع “بؤر التخريب” وسلطتْ آلتها الأمنية على شباب عزل تسلحوا فقط بإرادة واعدة، وشجاعة غاضبة لا تضاهى؛ نهلوها من تاريخهم وأجدادهم، حتى اشتبك الطرفان وسالت الدماء وانطلق تعداد القتلى والجرحى من أبناء الشعب الواحد معلناً تمدد الثورة التي سرعان ما غطَّت أغلب الدول العربية.

لم يتوانَ النظام العربي “البوليسي” في كبت جماح الثورة رغم استيفائه كل وسائل الترهيب والقمع، قنابل مسيلة للدموع أريقت بوجه المحتجين قيل إنَّها تستعمل في الأصل ضد “الخنازير”، رصاص حي أطلق على الرأس والرقبة والصدر مباشرة، اعتقالات عشوائية وتعذيب بمراكز الإيقاف، ترويع للأهالي واغتصاب للنساء والفتيات أمام مرأى الجميع…كل ذلك ونحن في عصر الحقوق والإنسانية.

***

وبعد، كنَّا إلى عهد قريب نكرر عبارة: “طويت صفحة الثورات والحرائق الجميلة” التي كانت مشهدا مضيئا في تاريخنا الحديث، ولكن يبدو أن إصرار المحتجين كان أقوى من تحطَّم فراعنة وأصنام العصر، وتكسر قيد وأغلال الظلم؟…فهل سينجح إعصار ثورات العرب خلال الفترة الأخيرة أمام القمع والعنف والدماء؟؟.. يبدو أن فرعون ما كان صادقا في تهديده لأن منظمات حقوقية أكدت أن مجازر حقيقية ترتكب وأن عدد القتلى بالمئات حتى الآن عدا الجرحى… ففي اعتقاد بعض المسؤولين والسياسيين، حينما يشتعل حريق كبير داخل البيت، ولا يستطيع إطفاءه، يجب أن تشعل عدة حرائق صغيرة، أو كبيرة خارج البيت، فتشتت انتباه الخارج، وتتفرغ لإطفاء حريق الداخل، كما يحلو لك، وبالطريقة التى تراها ممكنة، دون أن تتحلق حولك العيون لتراقب ما تفعل.

حرائق متناثرة باحتدام في ربوع الوطن العربي، تكاد تلتهم الوطن، فالشعب المحكوم بالحديد والنَّار، تحت حكم الحزب أو الأسرة أو الطائفة، امتدت إليه “رياح التغيير” التى تضرب الوطن العربى بقوة، ولم يعد ممكنا أو مقبولا استمرار سيادتها بأي شكل، ولا الحياة دون أبسط حقوق الإنسان العادية التى يتمتع بها المواطنون فى جميع أرجاء العالم، بينما العرب ممنوعون منها باعتبارها سمٌّ قاتل لناحرهم ومكبلهم.

***

هم قبس الحرائق دون منازع… ليست تلك الحرائق التي تستعر بلون ماجن فيأكل بعضها بعضاً، ويسكنها من ترد أسمائهم على لائحة التردي تحت بند “مشروع مؤامرة” فلا تنجب سوى الرماد… بل هم نوَّار تلك الحرائق الجميلة التي تستعر ببطء ووقار … تسير نحوك فلا تملك سوى أن تنتظرها، و تركض نحوها، فتستعر بين جلدك وتصطلي في دمك… وتصيح كل ذرة من كيانك: أن بورك فتيلة النَّار وزيتها.

هم ليسوا أحد هؤلاء الذين يشربون فنجان القهوة، ويحتسون الشيشة، وينصتون لذات الأغنية ألف مرة… ويكررون شراء ذات العطر… لكن لهم زاوية عند أحد مقاهي العاصمة تحفظ بسمتهم و عطرهم و إيقاع نبضهم … لهم أرصفة صارت مع الوقت تألف خطاهم وتعرف سيمائهم… بذات جريدة الصباح في يمناهم، وذات الكلمة الحرة على شفاههم… هم شباب يمرون بي ويمضون دون احتلال… دون جند وعسكر و يتركون من بعدهم أغصان أرضهم تشتجر، وأفق بلادهم ينشرح، وطوائفهم تتعانق لأجل مساحة حرة في ظلّهم الممشوق.

 يركبون موجة التحدي، ويصارعون ثورانها، ويعانقون لهيبها… فتظل ذاهلة فاغرة فاها ليطبقوا على زبد من ماء أجاج … يشعلون الحريق بمساحات أخرى للاضطرام وهم يراقبون الموت البطيء يدب بنا شهياً جميلاً جميلا حتى النخاع… فهم جذوة الحرائق في الفصول الأربعة دون منازع.

 قد يرحلون مع الدخان البليد ويتركون جميع الأسطر الفارغة لنملأها فتصير دماؤهم عبيرا لأنفاسنا… لا يتناولون الحب على موائد الضجر بقدر ما ينتظرون أن يهطل في بيداء قلوب من يعشقونهم دون مواسم… نرتقبهم في منعطف حالم، أو ديمة ماطرة، ولا يخلفون الموعد؛ حتى صارت وجوههم تغري مطر التساؤلات بالهطول… كثائر يعشق قضية فيعصف فيطيح بكل أسوار البطش التائهة، وسدود الصمت الواهنة.

هم قبس الحرائق وإن أضاعوا عناوين اللهفة بين اشتعالاتها، وأحرقوا كل مكاتيب العشق الأزلي في شرارة عشوائية، وشنقوا أشواق الحريات على أسوار المدن، وسعّروا النواح عابثاً على سياج الآفاق… أما يظلّ القلب في تهليله أن بورك بالنَّار وجذوتها.

23/9/2011م

أدب العدد الثاني والعشرون

عن الكاتب

عزيزة الطائي

كاتبة عمانية