ناصر بن جاعد (3) … اشتراكية الفردوس

“الناظم بنى منظومته هذه كلها على قاعدة معاني آية المسيح، وآية النور، وآية الروح” ناصر بن جاعد.

منذ أن طرح المستشرق الأمريكي برنارد لويس كتابه “الإسلام في التاريخ” عام 1973 وطبعته المنقحة في عام 1992 استولت فكرة صدام الحضارات وصراعها على مفكري العالم، يتمحور كتاب برنارد لويس حول فكرة أزلية الصراع بين الغرب والإسلام، فيقول: “وفي الصراع والصدام بين حضارة الغرب والحضارة الإسلامية كان العنصر الغائب مقارنة بالصدام بين حضارة الغرب والحضارات الآسيوية الأخرى، وهو عنصر الخبرة التاريخية من ذكريات ومواقف، والتي تولدت بفعل الخبرات المتوارثة في الصراع لدى كل من المسيحين والمسلمين”.

فكرة “أزلية” الصراع بين الإسلام والغرب تطورت إلى “الأبدية” والمواجهة الحتمية مع صامويل هنتجتون الذي تكهن في كتابه “صدام الحضارات” بتحولات سياسية وشيكة في العالم العربي، وتنبأ بوصول الإسلاميين إلى السلطة، وهو ما نراه اليوم!، وأن القوى الإسلامية ستتحالف مع الصين ودول شرق آسيا ضد الغرب المسيحي في صراع كوني مرتقب.

حاول كثير من المفكرين التملص من  إلزامات أطروحة صدام الحضارات المؤسَسة على فكرة الصراع الديني، ومن بين هؤلاء محمد عابد الجابري وإدوارد سعيد اللذين كانت ردودهما أقرب إلى السلفية الدينية منها إلى الحداثة الفلسفية، حيث اتهما هنتجتون بالأخذ عن برنارد لويس وبالانتقائية النصوصية في النقل، لكن تلك الردود لم تكن بمثل شعبوية الأطروحة اللويس-هنتجتونية التي تخترق الوعي لتمتزج بالعواطف واللاشعور فتثير هواجس الناس وتتفاعل مع المسكوت عنه من اختلافات دينية وتوترات طائفية بين الشعوب والأمم.

قدم المفكر الهندي أمارتيا سنج في كتابه “تعدد الهويات” أطروحة واعدة لمواجهة فكرة “صدام الحضارات”، على اعتبار أن الدين ليس سوى وجها واحدا من وجوه الهوية الفردية، وكل إنسان له هويات أخرى تميزه بجانب الدين، فهناك الهوية العرقية، والهوية الجغرافية، وهوية اللون، وهوية اللسان واللغة، وهوية الوظيفة، وهوية الاهتمامات العلمية والفنية والأدبية، وهناك الهوية الرياضية والموسيقية، إضافة إلى ما هو أكبر ألا وهو الهوية الإنسانية، وحاجة الإنسان إلى أخيه الإنسان. فإن اختلفت أديان الناس هناك دائما ما يجمعهم ويوحدهم ويعيد تشكيل الجماعة البشرية خارج إطار الهويات الدينية.

هذه الأطروحة الهوياتية الحالمة تقاطع المفكر الإيراني عبد الكريم سروش مع كفل منها في كتابه “الصراطات المستقيمة” لا في إطار الهويات وإنما في إطار الأديان ذاتها، منطلقا من فكرة “نسبية” الحقيقة الدينية، وبالتالي ضرورة “تعددية الأديان” والمذاهب.

بيد أن السؤال المركزي هو ما الذي اضطر هؤلاء جميعا إلى الخوض في لجة الجدل حول الجذرية والصدام، أو التعددية والوئام بين الحضارات والأمم والثقافات، الجواب يكمن في قولة برنارد لويس: “فعندما يقول المسيحي أو المسلم للآخر: أنت كافر وستحرق في نار جهنم، فإن كليهما يفهم تماماً ماذا يعني الطرف الآخر، وكلاهما يقصد بهذه الكلمات نفس المعنى”. إذن الذي أحدث كل هذه الجلبة هو تلك الفكرة القائمة على تنجيس الآخر وتكفيره.

ناصر بن جاعد كعادة الأنبياء والقديسين يدهشنا بسباحته ضد التيار الجارف لمروجي فكرة الفرقة الناجية، وهذه الدهشة تنشأ من طرحه لفكرة أن كل عقل هو مؤمن بالله فطرة، ولكنه إيمان كامن في اللاشعور، من هنا صار كل الناس في الحقيقة مؤمنون من أهل الجنة.

دخول النار لا يتحصل إلا حين يقوم الوعي باستحضار فكرة الإيمان القارة في اللاشعور، وجعلها محكا تعرض عليه دعوة الإيمان، فإن رفض هذه الدعوة مع تطابقها مع الحقيقة القارة في الأعماق، يكون الإنسان جاحدا، وللحجة مكابرا، أما حين يعجز الوعي عن استحضار تلك الحقيقة، فإن الحجة لا تقوم عليه ويظل مؤمنا بالفطرة، وإن تم تمسيحهُ باليهودية أو تعميده بالنصرانية.

يقول ناصر بن جاعد: (وإن لم يهتد إلى الاعتقاد، ولم ينو الخلاف، وكل شيء لزمه أدى، فهو في الحقيقة معتقد، وقد ثبت له إيمان أبيه آدم وأمه حواء، لقوله تعالى في حكم ذريته أولياءه: {ألحقنا بهم ذريتهم} … (وإنما يهوداه وينصراه ويمجساه أبواه) أي في الحكم الظاهر في أحكام الدنيا دون أحكام الآخرة).

هذا النص غير المسبوق في تاريخ المذاهب والأديان يتجاوز في تسامحه أطروحات التعددية النسبية القلقة التي اعتمدها عبد الكريم سروش، وكل الطوباية الهوياتية الحالمة لأمارتيا سنج،كما أنها تفكك الأطروحة العقائدية القاضية بتقسيم الناس إلى مؤمنين من أهل الجنة وكافرين من أهل النار التي لم يستطع لا الجابري ولا إدوارد سعيد قراءة خطاب هنتجتون خارجها.

إن نظرية ناصر بن جاعد تقرر بأن جميع البشر هم من أهل الجنة سواء أكانوا مسلمين أم يهودا أم نصارى باعتبار أن الإيمان فطرة عقلية، ما لم يكابر أحدهم الحجة إن انتصبت أعمدتها في عقله.

إن ناصر بن جاعد وبخلاف جميع النظريات الدينية لا يعتبر الانتساب إلى الأديان والطوائف محدد الإخلاص ودخول جنة الخلاص، وإنما ولأول مرة في تاريخ الإنسانية يعتمد “العقل” أساسا وهوية لدخول الجنة والفوز بها، فمن احترم عقله صار مؤمنا ومن دان للهوى والشهوات ورفض الحجة التي يقدمها له العقل كان مكابرا.

إن هذه المنظومة التي يمكننا تسميتها بـ “اشتراكية الفردوس”، والتي تجعل دخول الجنة ليس حكرا على المسلمين وحدهم بل تتجاوزهم لتضيف إليهم كل نصراني ويهودي ومجوسي وصابئ يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا، يمكنها أن تكون بوابة التقاء بين الحضارات وجسرا لتجاوز الهوة التاريخية بين أتباع الديانات.

 

ملاحظة: ينشر بالتزامن مع ملحق شرفات الثقافي بجريدة عمان.

العدد الثالث والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

د. زكريا بن خليفة المحرمي

باحث وكاتب