تأملات علمية: نحن ثلاثة رابعنا جمل!

كتابه Reel Bad Arabs لجاك شاهين

المقصود بالجمل هو كاتب هذه السطور! و قصة ذلك أنني عام 1988 رافقت كمترجم فريقا من الخبراء البريطانيين عهد إليهم وضع خطة تنمية ظفار 2020 . في رحلة الى الجازر كنت برفقة ثلاثة منهم أحدهم خبير في البيئة البحرية فلما توقفنا عند محطة الوقود في ثمريت تناهى إلى سمعي قوله لزميليه نحن ثلاثة رابعنا جمل.و تناهى الى سمعي تثريب رفيق له اعترض على هذا الوصف الذي قصد به الحط من القدر. و لقد جمعتني بهذا الدكتور المعترض صداقة طويلة فيما بعد إذ بدا شخصا تحرر من التحيزات العمياء خاصة الأفكار المقولبة في الغرب تجاه العرب التي روجت لها وسائل الإعلام و سينما هوليود. إذ يذكر أستاذ الإعلام الأمريكي العربي الأصل جاك شاهين في كتابه Reel Bad Arabs ، عرب السينما الأشرار ، انه من أصل 820 فيلما أنتجتها هوليود و يظهر فيها عرب ثلاثة منها فقط، نعم ثلاثة فقط، يظهر فيها العربي في صورة ايجابية. طبعا الجمل كان دائما حاضرا كرمز سلبي.

بيد ان الجمل لمن يعرفه مخلوق جدير بحنا و احترامنا.و هو آية وجهنا الله الى تأملها: “أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت” (الغاشية: 17).و من آخر ما اكتشفه العلماء عن الإبل ان أجسامها المناعية أو الأجسام المضادة تتألف من سلسلتين طويلتين بدون السلستين الخفيفتين الأخريين اللتين تكونان في الحيوان الثديية الأخرى. هذا التكوين يجعل أجسام الإبل المناعية مقارنة مع أجسام الإنسان و الحيوانات الأخرى صغيرة صغرا يسمح بدخولها الخلايا مما يفتح آفاق تسخيرها لمكافحة الخلايا السرطانية المستعصية و الجراثيم المقاومة للعلاجات. بل ان دراسة أجريت عام 2005 أظهرت نفع خلايا الجمل المناعية هذه في الوقاية من بعض السرطانات.

ان الذين ينظرون في خلق الإبل كشفوا عن آليات للتكيف مع التجفاف و البيئة الصحراوية. فهناك آلية هيدروسكوبية في منخر الجمل حيث تحجز الأغشية المخاطية نسبة كبيرة من الماء الموجود في هواء الزفير فترده مرة أخرى الى الجسم. و تخفض هذه الآلية الماء المفقود عن طريق عملية التنفس. و عالم الأحياء الأمريكي نت شميدت نيلسن الذي وضع مذكراته في كتاب اسماه ( أنف الجمل مذكرات عالم فضولي) هو من اكتشف هذه الآلية. و لا تحدث هذه العملية إلا في حالة إصابة الجمل بالتجفاف و عندما يكون الهواء الخارجي جافا. و مثال هذه الآلية قطعة البسكويت تكون في الهواء الرطب فتصير رطبة بسبب التشبع بالماء الذي في الهواء. و يستخرج الجمل الماء الذي في الروث قبل طرحه الى حد انه يمكن استخدام البعر فورا كوقود. كما تركز كلى الجمل البول فتخفض فاقد الماء إذ تبلغ ملوحة بول الإبل ضعف ملوحة ماء البحر.

أما تحمله للتجفاف فقد يفقد الجمل 40% من ماء دمه دون ان يتضرر في حين يموت الإنسان إذا فقد 12% من ماء جسمه.و خلاف كل الثدييات الأخرى فان شكل خلايا دم الجمل الحمراء بيضاوي و ليس كرويا الأمر الذي يسمح بجريانها في الدم في حالة التجفاف الشديد كما تتحمل هذه الخلايا البيضاوية مص كميات كبيرة من الماء في شربة واحدة بدون ان تنفجر إذ يستطيع الجمل شرب كمية كبيرة من الماء في شربة واحدة للتعويض عما فقده من سوائل. فهو يستطيع شرب 30 جالونا في عشر دقائق. و هذه الكمية تؤدي الى موت الحيوانات الأخرى بسبب التسمم المائي. و السبب ان كرياته البيضاوية تنتفخ الى 240% من حجمها الأصلي بدون ان تنفجر. و الحيوانات الأخرى تنتفخ الى 150% فقط. و لا توجد خلايا دم حمراء بيضاوية الشكل في أي مخلوق ثديي إلا في الجمل. و التسمم المائي هو زيادة كمية الماء في الدم بحيث تؤدي الى خلل في مستويات النواقل الكهروكيمايوية مثل الصوديوم. و يؤدي هذا الى اضطراب دقات القلب و دخول السوائل الى الرئة و انتفاخ الدماغ محدثة حالة مثل حالة السكر و في الحالات الشديدة الصرع فالموت. فضلا عن ذلك يستطيع الجمل شرب الماء المالح و المياه الأخرى التي لا تستسيغها الحيوانات الأخرى.

أما تكيفه مع البيئة الصحراوية فيظهر في عديد الآليات. إذ يستطيع الجمل رفع حرارة جسمه الى درجة 42 و يبدأ في التعرق إذا زادت حرارة الجو على هذا الحد. و كان نت شميدت نيلسن أيضا أول من اكتشف هذه الآلية و غدد العرق في الجمل. و ليس هناك حيوان ثديي آخر يستطيع السماح بارتفاع درجة حرارة جسمه ست درجات مئوية .

و من الآليات المدهشة في الجمل هو السنام الذي يشكل خمس حجم جسم الجمل و هو مخزون من الدهون أو الأنسجة الدهنية. و تركيز الدهون في السنام يقلل من البطانة الحابسة للحرارة في بقية جسم الجمل و هو ما يشير الى تكيف مقصود للعيش في المناخات الحارة. و عند تأيض هذا النسيج الدهني فإنه يصبح مصدرا للطاقة حيث ينتج جراما واحدا من الدهن عبر التفاعل مع الأكسيجين جراما واحدا من الماء. و يستوعب السنام في الظروف العادية 30-50  كيلوجراما من الدهن و لكن في الظروف القاسية لا يستوعب سوى كيلوجرامين اثنين و بإمكان الجمل ان يعيش بهذه الكمية من الدهون مدة 30 يوما. و الجمل أفضل المخلوقات العاشبة في كفاءة استخلاص البروتين و الطاقة من الأعلاف رديئة الجودة. و له فم كبير به 34 ضرسا قاطعا بطانته جلد سميك يسمح بأكل النباتات الشوكية بدون ان يتضرر باطن الفم. و يغطي انفه شعر صلب يحول بينه و بين وخز الأشواك.

للجمل خفان في كل قدم و هي كبيرة بالمقارنة مع بقية الحيوانات. و تحت كل خف بطانة جلدية مسطحة و هذا يساعد الجمل على المشي على الرمال دون ان تغوص فيها أقدامه. و أما الجلد الموجود في أسفل البطانة فسميك جدا يقي الجمل حرارة الرمل. و لعيني الجمل رموش تدخل الواحدة في الأخرى وبيهذا يستطيع ان يحمي عينيه من الرمال المحمولة في الهواء و في هذه الحالات يستطيع ان يغلق انفه لكي لا تتسرب الى داخله الرمال.و الى جانب هذا فان كل عين فيها جفن ثالث رقيق جدا و شفاف يتحرك من الجانب الى الجانب فيعمل مثل المساحة بحيث يمسح أي رمل عالق على سطح العين. كما يمكن للجمل ان يغلقه لحماية العين فيستطيع الرؤية من خلاله.

المستقبل للجمل و ليس للسخرية و الازدراء . ففي الولايات المتحدة نفسها عقر دار هوليود توشك إدارة الدواء و الغذاء الفيدرالية على اصدرا الإذن بتسويق ألبان الإبل تجاريا و عبر حدود الولايات و ذلك بعد تزايد أعداد المربين في الولايات المتحدة و تزايد الطلب على اللبن لأغراض صحية. فقد كشفت الدراسات عن ان له خصائص مضادة للبكتيريا و الفيروسات. و انه مفيد لخفض السكر عند مرضى السكري (توجد 52 وحدة أنسولين في كل نصف لتر من الحليب) و لعلاج مرض كرون (تقرح القولون) و التوحد (مرض مناعي يصيب الأطفال) و سرطان الكبد و التهاب الكبد الوبائي و سرطان الثدي و حساسية الطعام. و حليب الإبل غني بالحديد و فيتامين ب و فيه من فيتامين ج ثلاثة أضعاف حليب البقر. و هو غني بالأملاح و البروتينات و الأجسام المضادة مما يجعله غذاء كاملا.و لقد تم اكتشاف منافع لبول الإبل كذلك. فقد أظهرت الدراسات التي أجريت في بلجيكا و المملكة العربية السعودية ان الجسيمات النانوية في أبوالها واعدة لعلاج سرطانات القولون و الرئة و الدم و البنكرياس و المعدة و الدماغ. كما كشفت الدراسات ان الأجسام المضادة المستخرجة من البول تقوي عضلة القلب.

أخيرا ما زلت اذكر رحلة من طاقة الى صلاله  على ظهر جمل قبل النهضة المباركة ربما في عام 1965 حيث استأجر والدي رحمة الله ثلاثة جمال نركبها و كنت أنا و جدي رحمه الله على أحدها. رحلتنا الى صلاله كانت ليلا و خلا الجو من كل صوت إلا صوت أطيط الرحال تحفنا السكينة و روائح الليل. لقد كانت خبرة نفسيه نتطبع في الذهن فلا تنسى شبيهة بالخبرة الروحية. فلا غرو فعلى ظهور الإبل انتشر دين السعادة الروحية، الإسلام.

 ملاحظة: ينشر بالتزامن مع ملحق أشرعة بجريدة الوطن.

* إعلامي عماني و عضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين ISWA

الرابع والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد عبدالله العليان

إعلامي عماني و عضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين ISWA