تحذير من إهلاك قائم وإهلاك قادم

من رأي الشيخ محمد الغزالي رحمه الله أن ما أصاب الأمة الإسلامية من بلاء أو هزيمة ابتداء من هزيمة معركة أحد غالبا كان بسببها والمعنى واضح هو أنها السبب في كل ما يصيبها لتقصيرها، وأنا من المؤمنين بأن كل ما يصيبنا على المستوى الشخصي أو العام يجب أن نبحث عن الخلل في أنفسنا قبل أن نحمّله الآخرين، ومن هنا يمكن أن نقول إذا كانت هناك مؤامرات تحاك ضد الأمة العربية والإسلامية – وهي موجودة – ما كان لها أن تنجح لو لا أنها وجدت البيئة الصالحة للنجاح، ويمكن لنا أن نرى الأسباب

لقد حبا الله الأمة الإسلامية – والعرب في وسطها – خيرات كثيرة ابتداء من الموقع الجغرافي وليس انتهاء بالثروات الهائلة التي لو تم استغلالها الإستغلال الأمثل لجعلت من هذه الأمة أمة قائدة ورائدة للعالم في كل مجالات الحياة، وحتى الدين الإسلامي نفسه الذي يدعو إلى الرقي بالحضارة الإنسانية ويدعو إلى التسامح وهو من أجلّ نعم الله على هذه الأمة تم تشويهه من قبل المسلمين أنفسهم وأصبح مقرونا بكلمة الإرهاب، وأصبح هناك أكثر من إسلام لأن عقول المسلمين قررت أن تأخذ إجازة مفتوحة

والمتأمل في أوضاع الأوطان العربية لا يحتاج إلى كبير جهد أو عناء ليقرأ معاناة المواطنين اليومية، فرغم كل تلك الثروات إلا أن نسبة الفقر والجهل والمرض مرتفعة ومتفشية لأن الدول العربية تعيش على الهامش دون وجود تخطيط مسبق لليوم أو للغد طالما أن أنظمة الحكم مستقرة على الكراسي، إذ نتج  ذلك عن وجود أقلية مترفة مستفيدة من الأوضاع على حساب أغلبية فقيرة معدمة صامتة مقهورة، وأصبحت مجموعة من المتنفذين لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة تملك الأوطان بكل ما تحمل من خيرات، واختلط التجار بالسياسيين كما اختلط المال بالسياسة، وتم تشكيل لوبيات أقرب إلى المافيات مما أدى بالأوطان أن تكون مرهونة بيد هذه الشلة أو تلك لسنوات طويلة على حساب الفئة الغالبة من المواطنين، فتَحتَ مسميات كثيرة تم الإستيلاء على كل شيء في الأوطان، وبحجة تطوير السياحة تم منح الشواطيء كلها لهؤلاء وبدعم حكومي كامل وتم القضاء على مظاهر الطبيعة وأصبحت موارد الدولة مسخرة لهذه الفئة فقط، وتم بيع ثروات الوطن بالرخص من نفط وغاز ومعادن وغير ذلك، والأغرب والأمَرّ حتى الرمل والحصى لم يسلما من البيع والهدر، وظهر الفساد في البر والبحر وتم تجريف الأسماك التي كانت تعرف أنها وجبة الفقراء، وكأن النية مبيتة لمحاربة الفقراء حتى في لقمة عيشهم!. وصار المواطن العربي يسمع يوميا مناقصات تطرح بمليارات الدولارات في مشاريع أقرب أن تكون وهمية، فيما  الإعلامُ يعد الناس بفرص عمل لا تأتي

وتكاد الظروف في الوطن العربي كله تتشابه مع اختلافات بسيطة هنا وهناك حسب اختلاف البيئة واختلاف اللوبي أو المافيا

 وماذا كانت نتيجة كل ذلك ؟ لقد أدت سيطرة فئة صغيرة على مقدرات الشعوب والأوطان أن انتشر الجهل بين الناس وأصبح خريج الجامعة كأنه تلميذ في الإبتدائية بمستواه التحصيلي والثقافي الضعيف وارتفعت نسبة الجريمة وتغيرت أخلاق الناس وانتشرت الفواحش من زنا ولواط ورشاوي والسرقات، وصارت المادة هي الهدف الأساسي للناس، وعندما انبرى نفر من المخلصين للإصلاح تم الزج بهم في السجون بتهم مختلفة ومزورة، وفي عصر التكنولوجيا والاتصالات وهو عصر الحرية والكلمة الحرة والفضاء المفتوح تم التضييق على كل صاحب رأي لكي لا يقلق راحة الشلة المتنفذة والمستفيدة، حتى كان ما مكان

ولكن ما يؤسف له أنه في طول الوطن العربي وعرضه أن الأجهزة لم تقم بدورها لا الأمنية ولا البحثية ولا غيرها فلم تقدم الدراسات ولا المقترحات للحكومات ولم تقف ضد انتشار الفساد في كل المرافق الحياتية واليومية حتى انفجرت الأوضاع في كل مكان بل إن هذه الأجهزة ساهمت في تضليل الرأي للحكام بأن أظهرت أن الأمور على ما يرام وأن الشعب كله يسبح بحمده، فيما كان الهم الأساسي لهذه الأجهزة هو مراقبة هاتف فلان وفلان، وقد لحق الفساد حتى الأجهزة الأمنية نفسها – وهي التي يفترض أن تكون الحامية للوطن وللمواطنين – وكم من وقائع تم نشرها عبر وسائل الإعلام العربية عن فساد أجهزة الأمن والشرطة والجيش في قضايا التجسس لصالح دول مثل دول الجوار أو غيرها أو قضايا الخيانة والتخابر أو قضايا الإرتشاء وهتك الأعراض؟!

يصف د. أحمد صبحي منصور حالة الوطن العربي الحالية هذه ب “القرية الظالمة” حسب التعبير القرآني، ويرى أنه عندما ترفض القرية الظالمة الاصلاح وتطارد المصلحين فالهلاك على الأبواب، وهذا موجز ما جاء فى القرآن الكريم وهو ينطبق على كل زمان ومكان، إذ يقول الله في قاعدة إهلاك القرى الظالمة في تاريخ البشر: ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ثم يقول فى سريان هذه القاعدة فى تاريخ البشر قبل نزول القرآن : ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا )، ولأن الظلم هو العملة السائدة فى تاريخ البشر إلى يوم القيامة فإن إهلاك “القرى الظالمة” مستمر الى يوم القيامة بعد نزول القرآن طالما يوجد منذرون وطالما يتم إضطهادهم

ويرى د. منصور في كتابه الجديد الذي ينشره في حلقات الآن تحت اسم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” باب ” تحذير من إهلاك قائم وإهلاك قادم” أن هذا يتحقق الآن فيما يعرف بالعالم الاسلامي، فكل دولة فيه هي قرية ظالمة، ولكن كان ينقصها وجود المنذرين فى القرون السابقة، وبما أن د. أحمد صبحي منصور رئيس ما يعرف بأهل القرآن فإنه يرى أن ظهور أهل القرآن منذرين من أكثر من 30 عاما يدعون المسلمين إلى الإصلاح السلمي بالقرآن بتطبيق حقائق الاسلام المهجورة فى الحرية الدينية والعدل والسلام والديمقراطية وحقوق الانسان، إلا أنه بوجود الظلم الموجه ضد أهل القرآن وهم الذين وصفهم بأنهم منذرون إكتملت ملامح القرية الظالمة المرشحة للهلاك طبقا لقوله جلّ وعلا : (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) القصص 59 ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ) الشعراء 208 : 209

ومن هنا يمكن أن نرى ما أصاب الأمة العربية في الحقب الماضية فمن زوال  الصومال وتفككها، ثم تفكيك السودان والعراق وليبيا وأفغانستان وما يجري في  سوريا الآن، وهناك إحتمال قوي بهلاك قادم لدول أو قرى ظالمة أخرى في الجزيرة العربية ومصر وشمال أفريقيا وباكستان، ولكن لا يزال أهل القرى في غفلتهم سادرين خصوصا الأغلبية الصامتة عن نصرة الحق، والصامتة عن مواجهة الباطل والظلم

وممّا يعجّل بالهلاك – حسب رأي د. منصور – قيام المترفين الحكام بتلميع جهلة الوعاظ ليكونوا أئمة الدعوة للدين الأرضي السائد، فأفسدوا أفئدة الأغلبية الصامتة، وأرضعوهم ثقافة العبيد والرضى بالظلم والصبر عليه، ودخلوا بهم في نفق الدين الأرضي وخرافاته وثقافته السمعية، وأصبح وعّاظ الدين الأرضي نجوم الإعلام وقادة التوجيه فى المساجد وعلى الانترنت والقنوات الفضائية، مما أعطى قوة للسلفيين والإخوان المسلمين حيث أصبح لهم نفوذ فى الشارع أسفر عن وصول الإخوان والسلفيين الى أعتاب السلطة في مصر وفي ليبيا وتونس، وهذا خلق مشكلة عويصة راهنة، فالثورة قام بها الشباب ليس للوصول للحكم ولكن للتغيير الى حكم ديمقراطي حقوقي، ولكن قفز عليها أئمة الأغلبية الصامتة من الإخوان والسلفيين، وأصبح الاختيار صعبا بين استبداد قائم يقاوم فى سبيل البقاء، واستبداد قادم يعدّ العدّة لدولة دينية مستبدة، تكون أسوأ من الاستبداد العادي

وإذا كان د. يرى أن وعاظ السلاطين شر فإن ما ينطبق على هؤلاء ينطبق أيضا على الإعلاميين والكتاب والصحفيين، ففئة منهم نافقت الحكام والحكومات وتغنوا بكل قرار تتخذه الحكومة حتى لو كان في هذا القرار ضرر للشعب أو حتى للحكام أنفسهم، والمثير أن أول تغيير يقع على الأرض فإن هؤلاء يغيرون مبادءهم وأفكارهم بسرعة مما يدل على أن هؤلاء هم الخطر الحقيقي على الحكام وعلى الأوطان

من حق د. أحمد صبحي منصور أن يمتدح جماعته – جماعة أهل القرآن – ولكن ليس معنى ذلك أن الكلام الذي ذكره في هذا الفصل من كتابه ليس واقعا أو حقيقة، فالأمة العربية تعيش على هامش التاريخ، وحتى إذا ما قررت أن تقوم من سباتها فإن ذلك يحتاج إلى فترة إعداد طويلة لسنوات بعيدة ووفق استراتيجية واضحة، ومتى ما وُجدت الإرادة ووُجد التخطيط السليم فإن النتائج حتما ستكون جيدة وإلا فإن الإهلاك قائم وقادم وهو عام سيصيب الكل صالحا كان أو طالحا  (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)

والعدل دائما هو أساس الملك وهو السبب الرئيسي لنجاة الأمة من أي فتنة، وقديما سأل والي الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز عن جبي الضرائب في اليمن حتى يعزز حصونه وبالتالي يقوي من حكم الخليفة فكان جواب عمر بن عبد العزيز رحمه الله  “حصّن ديارك بالعدل”

الرابع والعشرون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com