عن أي اتحاد يتكلمون ..؟!

أثيرت مؤخرا فكرة الاتحاد الخليجي، ولحق تلك الفكرة الكثير من اللغط حول موقف السلطنة من الاتحاد لدرجة أن وصل هذا اللغط إلى رمي الكلام جزافا من أناس يحملون صفات رسمية ومن أناس تسبق أسماءهم ألقاب أكبر من مستوى ما كتبوه أو قالوه حول الموقف العماني، والسلطنةُ حرة في أن تتخذ القرار الذي تراه مناسبا لمصالحها ولا عيب في ذلك وهي التي عرفت باستقلالية قرارها منذ تولى مقاليد الحكم فيها جلالة السلطان المعظم حفظه الله حيث ظهر ذلك جليا في المواقف والسياسات التي اتخذتها السلطنة وهي كثيرة لا يمكن حصرها في مقال واحد، ولكن تبقى أبرز هذه المواقف هي إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين الشعبية منذ البدايات الأولى للعهد الجديد في وقت كانت الصين من المؤيدين الفعليين لثورة الجنوب، ومنها إقامة علاقات دبلوماسية مبكرة مع الاتحاد السوفييتي الذي وقف مع اليمن الجنوبي ضد السلطنة بالمال والسلاح والعقائد، كما أن السلطنة اتخذت موقفا حازما في تأييد الرئيس السادات في ما عُرف بمبادرة السلام وما تبع ذلك من اتفاقيات كامب ديفيد، ورفضت رفضا قاطعا مقاطعة مصر كما فعل العرب جميعا الذين قاطعوا مصر ثم أعادوا العلاقات معها بوجود الصلح مع إسرائيل وكأن المقاطعة كانت مجرد لعبة أطفال لأن السبب لم ينتف، وقد التزمت السلطنة بمقررات جامعة الدول العربية كلها وحضرت جميع فعالياتها مع الالتزام التام في دفع حصتها المقررة للجامعة في وقت لم تلتزم بالدفع دول نفطية غنية مما سبب في أزمة الجامعة المالية قبل سنوات، كما أنها التزمت التزاما تاما بقرارات مجلس التعاون الخليجي الذي مر على إنشائه أكثر من 30 عاما ولم يحقق شيئا يذكر، ومن ذلك مشاركتها الفعالة في حرب تحرير الكويت، وقد شارك جلالة السلطان في كل قمم مجلس التعاون عدا ثلاث قمم فقط لظروف خاصة كانت قمة أبوظبي الأخيرة منها نظرا لما شاب العلاقات العمانية الإماراتية من توتر في تلك الفترة (ولو كان الأمر يؤخذ بالعواطف في السياسة كنت أتمنى أن لا تشارك السلطنة في القمة تماما ، لكن السياسة لها ضروراتها ولا تعتمد على العواطف فقط ، هذا استطراد شخصي لا علاقة له بالموضوع)

وتتبع السلطنة في سياساتها دائما سياسة الأمر الواقع باعتبار أن مصلحة الوطن هي الأساس ولا تعتمد على سياسة رد الفعل، لذا تجدها تستقبل على الفور قادة اليمن الجنوبي في أراضيها بعد أن انتهت الحرب بإقرار الوحدة بين اليمنين وهم الذين ناصبوا السلطنة العداء بتأييدهم لحركات التمرد مما أوقع السلطنة في تلك الفترة في مآزق كثيرة منها استنزاف المال العام.

لقد ظهر التميز العماني إبان احتلال العراق للكويت حيث احتفظت السلطنة بعلاقات جيدة مع العراق رغم معارضة بعض الدول الخليجية لذلك، واستقبل جلالة السلطان في مسقط طارق عزيز وزير الخارجية العراقي، مما أثار لغطا خليجيا فيما قال جلالته لطارق عزيز في ذلك اللقاء ( أرى أن المسألة خطيرة جدا وأقترح أن ينسحب العراق فورا من الكويت ويجب أن نعمل على انسحاب العراق من الكويت بما يحفظ كرامته ) وقد اقتنع طارق عزيز بما سمع ونقل ذلك إلى القيادة العراقية ولكن تأخير تنفيذ القرار أدى إلى تلك النهاية المؤسفة.

وهناك نقطة أخرى هي أن بعض العرب الذين تصدوا لمصر وقرروا مقاطعتها احتاجوا لها في لحظة تاريخية فلم يكن أمامهم إلا أن يلجأوا إلى السلطنة لكي تتوسط لهم والتفاصيل تترك للتاريخ.
وإذا كان إنشاء مجلس التعاون جاء كخطوة الهدفُ منها هو وقف النفوذ الثوري الإيراني في المنطقة فإن فكرة إنشاء الاتحاد الخليجي هي الأخرى الهدف منها الوقوف ضد إيران وضد قوتها المتنامية في الوقت الحالي خاصة بعد سقوط الحليف المصري وبعد فشل مشروع ضم الأردن والمغرب إلى مجلس التعاون الخليجي وهي الفكرة التي لم تلق أي ترحيب حتى على المستوى الشعبي، وهذا من شأنه أن يطرح تساؤلات هل يحق لهذه الدول أن تُسمَّى دولا حقيقية طالما لم تستطع أن تبني لنفسها جيشا يحميها؟ وهل ستستمر تعتمد على القوات الأمريكية فقط وعلى ما تمليه عليهم واشنطن وتحدد لها من الصديق ومن العدو؟!

من حق السلطنة أن تقيم علاقات جيدة مع إيران مثلها مثل أي دولة في العالم وذلك بحكم الجوار والمصالح والتاريخ، والسياسة العمانية تنبع من الداخل ولا تمليها عليها لا الدول المجاورة أو غيرها، ثم إن العلاقات العمانية الإيرانية قديمة جدا قدم التاريخ نفسه وقد مرت بفترات شد وجذب ولكنها لم تنقطع، وفي العصر الحديث حافظت السلطنة على علاقات جيدة مع إيران الإمبراطورية وإيران الجمهورية، ففي الوقت الذي ساند فيه شاه إيران الراحل السلطنة ضد المتمردين في الجنوب أقامت السلطنة علاقات جيدة جدا مع الثورة الإيرانية، وكان معالي يوسف بن علوي بن عبد الله، ثاني مسؤول عربي يقابل الإمام الخميني بعد الرئيس ياسر عرفات في البدايات الأولى لانتصار الثورة الإيرانية مما أثار تساؤلات كثيرة خاصة في دول الجوار، كيف استطاعت عمان أن تصل بهذه السرعة إلى قادة الثورة الإيرانية وإلى الإمام الخميني بالذات، كما أشرت إلى ذلك في مقال سابق.

ولقد حافظت عمان في الوقت نفسه على علاقات جيدة مع إيران والعراق رغم الحرب بينهما في وقت كانت كل دول الخليج تقاطع طهران مما أغضب دول الخليج والعراق لأن مصلحة البلد فوق أي اعتبار، وقد سبق لجلالة السلطان أن قال لتريم عمران في جريدة الخليج في الثمانينيات من القرن الماضي والحرب على أشدها بين العراق وإيران “إن الفرس موجودون هنا من آلاف السنين وسيبقون، وكذلك نحن موجودون هنا من آلاف السنين وسنبقى” وهذا كلام بليغ يعني أن لا فائدة للعداء بين الطرفين بحكم الوجود التاريخي وبحكم ضرورات الجغرافيا مع ما يربط بيننا من عقيدة الدين والتاريخ والمصير المشترك.

من الأخطاء التي وقع فيها من تناول الموقف العماني من الاتحاد الخليجي عبر منتديات الحوار إظهار المسألة كلها وكأنها مذهبية، وهذا للأسف أصبح شائعا الآن كثيرا بين العرب أو المسلمين أنفسهم بأن يحولوا كل شيء إلى خلاف مذهبي حتى لو أن الأمر يتعلق بكرة القدم، وهذا ما جعل من الكثيرين يأخذون مواقف ضد إيران ويعتبرونها العدو بسبب الاختلاف المذهبي فقط وكل ذلك لمصلحة إسرائيل العدو الحقيقي للأمة سابقا وحاليا ومستقبلا، والحقيقة أن المجتمع العماني مجتمع متماسك وموحد وبعيد عن كل النعرات والتعصب بفضل سياسة التسامح التي انتهجتها الدولة سواء في حرية اعتناق المذاهب أو حتى الأديان وهي حقيقة لا يستطيع أن ينكرها مواطن أو زائر أو مقيم ولا تدخل المذهبية أبدا في رسم السياسة العمانية، ولا يوجد ذلك إلا في أذهان أناس أصيبوا بعاهات مذهبية قاتلة وبغيضة.

لقد سبق للسلطنة أن رفضت الانضمام إلى العملة الخليجية الموحدة ولم تر هذه العملة النور حتى الآن، والآن ترفض فكرة الاتحاد من منطلق مصالحها الخاصة وهي مصالح لا تتعارض مع مصالح الدول الخليجية الأخرى ولن تقف أبدا ضد أي اتحاد بين الدول الخليجية ولا بين أي دولتين خليجيتين، فإذا كانت فكرة الاتحاد نبعت من الخوف من إيران، وأن الخطوة الأقرب للتطبيق هي الوحدة بين السعودية والبحرين لتذويب الغالبية الشيعية فيها في محيط سني فإن من حق الشعب البحرين ومن حق أي شعب في المنطقة أن يتخذ القرار بنفسه عبر استفتاء حر ونزيه وهو ما لن يحصل أبدا، وللتذكير فإن الشعب البحريني اختار عام 1971 عبر استفتاء حر ونزيه هويته العربية وأصر على عروبته رافضا فكرة الشاه السابق بضم البحرين إلى إيران، مع العلم أن من رفض الانضمام إلى إيران هم من الشيعة، ومن حق الشعب البحريني الآن أن يؤخذ برأيه حول الاتحاد مع السعودية، ومن المؤكد أنه سيرفض ذلك لأن مطالب الشعب البحريني هي الاصلاح وليس الانضمام لا إلى السعودية أو الانضمام إلى إيران، لذا لكي ينجح أي اتحاد يجب أن يكون بموافقة شعبية.

إذا كان الحديث الآن يدور حول إنشاء اتحاد خليجي – وهي فكرة لن ترى النور سلفا – ألم يكن الأولى تعميق التعاون بين الدول الخليجية وتفعيل مجلس التعاون الذي مرت عليه عقود وهو مجرد ديكور جميل يلتقي فيه القادة لتبادل الأحاديث الودية دون تحقيق إنجاز مّا ؟ ثم كيف يمكن التحول من مجلس التعاون إلى الاتحاد وما بين الدول الأعضاء من الخلافات ما يعلمه العامة قبل الخاصة؟

لقد فتح الله خزائنه لهذه المنطقة ولكنها للأسف بعثرت تلك الثروات الهائلة في أشياء تافهة ولا يزال بعض الناس يعيشون بعقليات العربان القديمة، وإلا لكانت هذه المنطقة من أفضل مناطق العالم في كل شيء ولكنها لا زالت تتسول من يدافع عنها ولا زالت تتوهم وجود أعداء وتعيش على النعرات الطائفية والمذهبية حتى يهلكها الله وتلك سنة من سنن الله في خلقه.

الخامس والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com