قناة الجزيرة والربيع العربي

لقد لفت انتباهي ما ذكرته مصادر صحفية نقلا عن مصادر قطرية مطلعة أن شبكة الجزيرة سجلت أكبر خسائر لها منذ انطلاقتها عام 1996، إذ قدرت قيمة خسائرها منذ انطلاق ما يسمّى بالربيع العربي في تونس وحتى مطلع العام الحالي أكثر من 300 مليون دولار أميركي، وينتظر أن ترتفع الخسائر حتى نهاية العام إلى أكثر من 500 مليون دولار، وهي خسائر إستثنائية لا تغطيها إطلاقاً المواد الدعائية والإعلانية للقناة، لكن تكفلت الحكومة القطرية بتغطيتها.

ووفقاً للمصادر نفسها فإن القناة لم تحقق أرباحاً منذ إنطلاقتها، وحافظت على مستوى خسائر سنوية تقدر ب10 ملايين دولار، قبل أن تبدأ بتسجيل خسائر إضافية بسبب استقطاب مذيعين ومعلقين سياسيين وضيوفاً لبرامجها، هذا مع غياب الإعلانات بعدما اتفق وزراء إعلام الخليج بعدم الإعلان عبر القناة.

وقد جاءت الخسائر مع انطلاق “الربيع العربي”، إذ خصصت بثاً على مدار الساعة للتغطية المباشرة للأحداث في تلك الدول وهي عملية مكلفة وباهظة  خاصة أن معلومات ترددت أن المحطة دفعت بسخاء لجهات سورية معارضة  للظهور على شاشتها، كما فعلت ذلك من قبل مع معارضين ليبيين، مما أدى إلى ازدياد التهم حول القناة بأنها تطبق أجندات سياسية وأنها مجرد أداة في يد النظام القطري لتحقيق غايات معينة، بل وتتعدى التهم قطر نفسها إلى تهم أخرى بتنفيذ أجندات أمريكية بل وصهيونية، وقد جاء الموقف القطري تجاه الأحداث في ليبيا وسوريا ليؤكد وجهة النظر التي تقول إن القناة تنفذ أجندات مدروسة بدقة.

إن تحمل قناةٍ خسائر بهذا الحجم يطرح سؤالا منطقيا هو ما المردود الذي ستجنيه قطر وما هي مصلحة هذه القناة؟ وهل يمكن أن تكون تلك الخسائر كلها من أجل رسالة تؤمن بها دولة قطر أو إدارة القناة؟

لا يمكن لأحد أن ينكر، ما قامت به قناة الجزيرة منذ انطلاقتها إلى يومنا هذا في فتح الوعي العربي الجمعي حول العديد من النقاط التي كانت شبه مغيبة أو ممنوعة من الطرح قبل افتتاح القناة، وبالتالي فلا يمكن أيضا نكران أن ما حصل في الشارع العربي من انتفاضات وثورات إنما كان نتيجة لما قامت به قناة الجزيرة من شحن وشحذ للهمم على مدى السنوات الماضية، ويكفي الشعار الذي تبنته القناة من أول يوم انطلاقها وهو “الرأي والرأي الآخر”، مع رمزية أخرى تُعرض في القناة ولكنها تفوت الكثيرين أو ربما لم ينتبهوا إلى معناها ومغزاها، وهي تطبيق لمثل صيني يقول:”ليس شرطا أن تكون الضربة المئة هي التي كسرت الصخرة وإنما ال99 ضربة التي سبقتها”، حيث تقدم القناة صخرة قوية يتم ضربها بمطارق كبيرة لتنكسر إلا أنها تظل قوية متماسكة، ويتم تقطير الماء عليها من حنفية قطرة قطرة ،ثم تأتي ضربة المطرقة فإذا بالصخرة تتفتت إلى أجزاء متناثرة، وهذا ما فعلته قناة الجزيرة في المجتمع العربي بتناولها ملفات كانت محرمة، مثل تناول الحكام العرب والديكتاتورية العربية والتعذيب في السجون والمعتقلات العربية وسياسة التوريث، وكذلك بثها الأفلام الوثائقية عن إهانة المواطنين داخل أقسام الشرطة مع التركيز على مشاهد الفقر في الوطن العربي مما تسبب في الكثير من الإشكاليات بين القناة والكثير من الأنظمة العربية، وأصبح المواطن العربي يشاهد المعارضين على الهواء بالصوت والصورة والفكرة مما أدى بالمواطنين العرب أن يغيروا قناعاتهم وتأخذهم الجرأة ضد حكامهم وحكوماتهم، ولعل الحرب الإسرائيلية على غزة وعلى لبنان كانت الذورة إذ أصبح الحكام العرب مضغة في أفواه العامة من المواطنين العرب، إذ ركزت القناة كثيرا على عجز الحكام العرب عن الدفاع عن الوطن والمواطنين والمقدسات، وكان د. فيصل القاسم نجما في هذا المضمار، ولكن الكثيرين اتهموه بأنه لا يجرؤ أن يتكلم عن سوريا بالقوة نفسها التي تكلم فيها عن الدول العربية، وهي تهمة وُجهت لقناة الجزيرة نفسها بأنها تفتح النار على الدول العربية والحكام العرب ولكنها لا تجرؤ أن تفعل ذلك مع قطر ومع دول الخليج.

لقد كانت قناة الجزيرة على مدى سنوات هي القناة المتابَعة الأولى لأنها كانت تتحدث عن نبض الشارع العربي إذ وجد فيها المواطن العادي ما يعبر عنه وعن آماله وآلامه وطموحاته، وامتلكت القناة كل الأسباب التي توفر النجاح من حرية في الطرح وموازنة كبيرة إضافة إلى عناصر بشرية مقتدرة يشار لها بالبنان. ولكن هل بقيت قناة الجزيرة كذلك حتى الآن؟ لا توجد دراسات دقيقة عن انخفاض مستوى مشاهدة القناة باستثناء دراسة واحدة نشرت في الجزائر أشارت إلى الانخفاض الكبير في نسبة متابعي القناة بعد الثورات العربية بحجة أن القناة تخلت عن شعارها المعتاد وهو الرأي والرأي الآخر وفرضت على المشاهد رأيا واحدا فقط وهو الرأي الذي تريد فرضه وصار موقفها واضحا أنه غير حيادي إذ كانت منحازة لبعض الثورات إلى درجة  التحريض وإلى درجة بث صور قديمة من أماكن أخرى وكأنها تغطيات حديثة، فيما كانت غائبة عن تغطية البعض الآخر مما يشير إلى الانتقائية في التغطية، ولكن مع ذلك لا يمكن أن نتجاهل أن لقناة الجزيرة الدور الأكبر في انتشار الإنتفاضات العربية بسرعة من مكان لآخر لأن القناة ألغت كل برامجها وصارت تعبيرا عن أصوات المعارضة، ولم يسلم حتى برنامج “مع هيكل” من الإيقاف وهو الذي يتابعه الملايين في الكرة الأرضية، رغم أن الأستاذ هيكل هو من أعطى قناة الجزيرة الشرعية بظهوره فيها بعد أن دارت اتهامات كثيرة حول القناة.

لقد كتب الكثيرون من الكتاب العرب حول الانتقائية التي اعتمدتها القناة وتوسعها في تغطية الحالة المصرية والليبية والسورية واليمنية، وتعتيمها على ما يحدث في مناطق أخرى مشيرين إلى أحداث البحرين وتجاهل المشاكل في دول الخليج مثل أحداث الطائف في السعودية، على أن السقوط الكبير في التغطية الإعلامية كان واضحا جدا في الحالة السورية إذ أن كثيرا من المتابعين للأحداث على الأرض أكدوا أن كثيرا من اللقطات التي تبثها القناة إما أن تكون معادة أو تكون قديمة منقولة من العراق أو اليمن، وكذلك بعض الفبركات التي قدمتها قناة الجزيرة وغيرها من القنوات، ويكفي البيان الذي أصدره المصور الإيطالي  “ماركو دي لاور” الذي ندد فيه بسلوك المعارضة السورية و قناة “البي بي سي” البريطانية على استخدامهما صورة من الصور التي التقطها عام 2003 في العراق على أنها لـمجزرة الحولة في سوريا وهي الصورة التي لا تزال تنتشر كالنار في الهشيم في مواقع العارضة السورية على أنها صورة من الحولة، وهي ليست الوحيدة بل هناك مثيلاتها من الفبركات قُدمت عبر الفضائيات العربية ومنها الجزيرة، ومن هنا لا يمكن أيضا أن نتجاهل بعض الأعمدة الأساسية في الجزيرة التي قدمت استقالاتها احتجاجا على سياسات القناة في التحريض وفي الإنتقائية.

وقد أعجبني كثيرا ما كتبه د. صالح بن علي العبري في جريدة الرؤية الذي سبقني في تناول موضوع الجزيرة إذ قال “القتل وما يجري لإخواننا في سوريا شيء لا يرغبه أحد وهي دماء زكية وغالية وعلى الذين ساهموا في إراقتها أن يراجعوا حساباتهم، وأن يعيدوا النظر فيها وأن تتوقف القنوات المنتمية للعربية من تأجيج الصراع الطائفي والفئوي وتحكيم لغة المنطق والواقع، وأن يتوقف الدعم المالي والإعلامي عن تتأجيج الوضع المأساوي في سوريا”، وهذه رسالة نتمنى أن تصل إلى من يتخذ القرار ويرسم السياسات الإعلامية خاصة في قناة الجزيرة، ولا يمكن لأي متابع أن يغفل تصريح الفريق الدابي بعد رئاسته لجنة التحقيق العربية في سوريا عندما قال: إذا وقفت الجزيرة حملاتها ضد سوريا فإن الأزمة ستتوقف بعد يومين..!

السابع والعشرون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com