الخارطة في صوب والطريق في صوب !!

 

 

مدخل

لا أملك في هذا المدخل إلاّ التنويه على تنويه سابق نزل مع بدايات أول مقال يتناول الأعمال الرمضانية العمانية في رمضان الماضي يقول: ” أهلاً بالمختلفين على هذه المقالات قبل المتفقين معها “، التالي مقال عام يحاول أن يقرأ الشكل العام للدورة البرامجية الرمضانية لتلفزيون السلطنة في ظلّ استحداث الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ولاحقاً ستتبعه مقالات أخرى مفصّلة لبعض الأعمال .

 بعد المدخل

لا يخفى على أحد الترقب الذي كان يسكن المشاهد العماني تجاه الدورة الرمضانية لهذا العام، من منطلق استحداث هيئة للإذاعة والتلفزيون وتشكيل إداري لها، فهناك مساحة تفاؤل جماهيرية مفتوحة وإن بدأت في التراجع مؤخرا، إلاّ أنها لا زالت تُبقي بداخلها أمل التوسع مع رمضان تلفزيوني دسم في مادته وفي أقل التوقعات دسم إلاّ ربع !

فهل من دسم جديد يوسّع مساحة التفاؤل والإيجابية ويواكب ذهنية المشاهد وتطلعاته أم أن القديم بتكلّساته لا يزال يمارس تضييق هذه المساحة إلى درجة تلاشيها ؟

بضعة أيّام من المشاهدة كفيلة بتكوين رأي يُعطي الجواب، أن الجديد هو وجود اللاجديد ، وحتى في الجديد الذي يُفترض أنيكون جديداً، جاء عادياً في ظل الثورة التقنية التي أصبحت في المتناول ومن الطبيعي وجودها ، كأن تستعرض التصريحات الكثيرة خبر تدشين تقنية الـ HD في زمن أصبحت هذه التقنية متوفرة في أبسط لعب الأطفال وهذا ليس بجديد في واقعه بل مفروض وبديهي.

 

جاء رمضان ولم يأتِ جديد على مستوى المعروض من سلعة تلفزيونية في الدكّان البصري العماني الذي يفترض أن يكون هدفه جذب مشاهدٍ عمانيٍ بات لا يستهلك وقته في مشاهدة شاشته الوطنية الوزارية سابقا الهيئوية حالياً؛ لأسباب باتت معروفة ومتعلقة بالوعي الفني والموضوعي المدهش لهذا المشاهد، وأصبح منذ زمن الأقرب لاستهلاك سلع الشاشات الأخرى التي تعرف من أين تأكل كتف الذائقة الجمعية الخليجية والعربية، على إعتبار أن هذه الذائقة لم تعد في صندوق مغلق بإحكام وتخضع لنظام تغذية فوقي وأبوي، بل أصبحت حرّة تقتات من بريّة الفضائيات بكل سهولة ويسر وإقناع ومتعة وذوق وجودة … وفن.

 

رئيس الهيئة معالي الدكتور عبدالله الحراصي الرجل المثقف القادم الجديد للنفق الإعلامي كأكاديمي من جامعة السلطان قابوس يصحبه في صياغة رمضان هذا العام برامجيا سعادة ناصر السيباني نائب الرئيس المقيم أساساً في النفق الإعلامي، قطبا التحرك الجديد في الصيغة الإعلامية البصرية لابد وأنهما قبل رمضان كانا يملكان ( خارطة طريق ) واضحة لما هو مطلوب تحقيقه، وأحسب أن معالي الدكتور الحراصي  أكثر  حرصا على أن لا تتسّرب فرصة رمضان هذا العام من بين يديه، ليس لإظهار إمكانياته التخطيطية والتنفيذية كنخبوي طالما نظّر في مدونته عن الإعلام وشجونه فحسب، بل للإمساك بقرون ( وعل ) ثقة المشاهد العماني الشارد منذ زمن، ومحاولة طمأنة هذا المشاهد على أن الإيجابية قادمة وبقوة للنفق الإعلامي الطويل وأن السلبية إلى زوال بعيد من الطرف الآخر للنفق .. فهل تحقق ذلك ؟!

 

ما تحقق أقرب لتكرار القالب المعتاد لشكل الدورة البرامجية، وقد لا يكون ثبات القالب في حد ذاته مشكلة، فها هي القنوات الفضائية ثابتة في قوالب التقديم وتصنيف المواد المقَدمة للمشاهد في رمضان، ولكنها ذكية بما فيه الكفاية في خلق تنوع  داخلي يُسمّر مُشاهدها حتى في الفواصل الإعلانية و يراعي ذائقة الأسرة بكافة تشكيلاتها العمرية والذهنية في رمضان، مع وجود قيمة معيارية واضحة وهي مستوى الجودة العالي في المحتوى والشكل الفني، ناهيك عن الأفكار التي من خارج الصندوق المعتاد والتي تحقق فكرة الدهشة المتجددة بين سنة وأخرى، كل هذه العناصر من الملاحظ أنها كانت غائبة عن الطريق المؤدي لخارطة طريق المسؤولين الجدد عن تلفزيون سلطنة عمان، وكأن خارطة معالي الوزير التصحيحية التي في ذهنه والتي عبّر عنها في الكثير من لقاءاته الخاصة وتعليقاته عبر مواقع التواصل الإجتماعي اِتخذت طريق كلاسيكي قديم أفضى في النهاية إلى تثبيت المثل العماني ” تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي ” .. فاستمر ( وعل ) ثقة المشاهد في النفور والابتعاد واتسعت الهوة بين طرح التدوين التنظيري وبين واقع العمل الفعلي .

 

يقول قائل ما : ” تراك هلكتنا يا حميد في مقارنة وضع وإمكانيات تلفزيوننا العماني مع تلفزيونات وقنوات لها باع طويل وإمكانيات أكبر ” وسأقول أن تكرار نغمة عدم المقارنة القديمة هي خطاب من وضع طموحه في ( مندوس ) يظل ذو طموح محبوس وإن كان الحابس ( مندوس ) مزركش بالذهب .. ولا يشفع الفارق في الإمكانيات حالة مراوحة المكان والقيمة العادية والهزيلة التي تلفّ نفقنا الإعلامي الذي عبره يفترض أن ننقل ثقافتنا وتكويننا وإبداعنا وطموحاتنا بشاشة تمثل تطلعات جمهور يتعب  داخله النفسي والوطني كثيرا، عندما لا يضع قناته العمانية في رمضان إلّا ليسمع أذان المغرب، وهي الموجودة  في مرتبة أولى في دليل ترتيب القنوات بجهاز الاستقبال! ، فما يمر عبر هذا النفق اليوم هو ما مرّ سابقا، وحتى التكوينات البرامجية التي حضرت العام الماضي والتي كانت بمثابة نَفس جديد في شكل تلفزيوننا الرمضاني من شاكلة الكرتون العماني وبرامج وأعمال درامية أخرى  تكفل في إنتاجها التلفزيون مع شركات الإنتاج الخاصة، لم تستفد من الخطوة الثانية، فكان أن ثبت مسلسل يوم ويوم الكرتوني في نفس دائرته، وكان أن وقع برنامج قيم في نفس مُربعه الأول ولم يغادره، وكان أن اِستمر تقديم المادة التراثية ببرنامج أماسي في نفس المستوى التفريغي الخالي من الخيال والإبداع والعمق، وكان أن لم يراوح برنامج على السحور خطابه والأكلات التي يحضرّها الشيف عيسى على مائدته، وكان أن عادت حليمة الدراما العمانية لعادتها القديمة إلا من عمل وحيد جاذب ونوعي اِسمه ( أنا وضميري ) ضاع في زحمة جدول البث والترويج التقليدي، وكان أن وكان أن … وتتعدد ( وكان أن .. ) بسلبيتها الموجعة إلى ما لانهاية، وزد على ذلك أن خارطة طريق الهيئة تخلّت عن عناصر إبداعية كانت تمد التلفزيون ببعض الجرعات التي يمكن أن تُحدث  توازن ملحوظ في قبول الجمهور للمادة المقدمة، فالمخرج عامر الرواس خارج عن دائرة إسناد أي مهمة بصرية له، والشاعر سالم السعدي في إجازة غير مفهومة عن البرامج التراثية هذا العام، سيقول قائل : ” ها أنت يا حميد تُدخل الخاص في العام و وتأخذك العاطفة تنتصر لأصدقائِك عامر وسالم !! ” وأقول ، إنما أنتصر لمبدأ الجودة الذي يضيف للشاشة ولا ينتقص منها، سواء جاءت هذه الجودة من صديق أو غيره، فالهيئة بصورة واضحة تخلّت عن كروت جماهيرية رابحة لا تُخطئها الذائقة، وعندما أحبت أن تُشهر كرتاً ذو مصداقية جماهيرية كبيرة كمحمد المرجبي في برنامج شيّابنا خانتها الفكرة وقصّرت في مد اليد الفنية اللازم مراعاتها والأخذ بها لهكذا نوع من البرامج التسجيلية كعناصر جاذبة ومشوّقة، فكان أن خسرت الكرت ولم يكسب المرجبي !!

حركة إزاحة سالم السعدي عن البرامج التراثية الشعبية، ومراضاة خالد الزدجالي ببرنامج رمسة على البرنامج الثاني، ومحاولة منافسة ألوف وحروف محمد الشهري ببرنامج مسابقات عبدالله السباح، وعدم وجود لجنة تراجع مستويات الجودة والتطور المطلوب في برامج شركات الإنتاج الخاصة التي استمرت كأجزاء ثانية كيوم ويوم وقيم، والسماح بهزال درامي كمسلسل دين ودنيا .. كل هذا لا يمكن أن يفهم بحال من الأحوال أنه ضمن مبدأ التنوع وإنما ضمن مبدأ عدم توظيف الكرت المناسب بالصيغة المناسبة في المكان المناسب، كل هذا لا يعبّر إلاّ عن طريق ترابي لا يمتّ بصلة للطريق الذي يُفترض أن يخدم الخارطة التي يظهر أنها في صوب والطريق في صوب، وفيما يبدو أن النيّات الطيبة لا تكفي وحدها في إصلاح النفق الإعلامي طالما لم تأخذ بأسباب التميز، وحتى يتم هدمه بالكامل في انتظار بناء جسر مكشوف يستوعب وعي وثقافة وإبداع شباب اليوم العماني، على الضائع بين مدخل النفق ووسطه ومخرجه أن يستعين بنظام ملاحة ذاتي التوجيه .

 

مَخرج

 

الفيديو المرفق مقدمة للمسلسل المصري  ( مع سبق الإصرار ) والذي يُبث في رمضان هذا العام وسط مشاهدة واسعة وجماهيرية .. الذي يدعو للفخر العُماني بهذا العمل المصري أن مقدمته الملفتة تمّت صياغتها بإبداع أنامل العمانية شيماء المغيرية بطريقة الرسم بالرمل !

السابع والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

حميد البلوشي

كاتب وإعلامي عماني