​ حديث عيسى ابن مسعود …… حيرة الغلبان في ما أصدره الإدعاء العام من بيان!

“لغرض تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، يكون لكل شخص الحق، بمفرده وبالاشتراك مع غيره، على الصعيدين الوطني والدولي، في الإلتقاء أو التجمع سلمياً..”

إعلان الأمم المتحدة المتعلق بحق ومسؤولية الأفراد والجماعات 1998م

“… وتجمعوا وتجمهروا…”

من خطبة الإدعاء العام بالمحكمة

كنت في جولة أتمشى بقدميَّ، فمررت بجانب المجمع التجاري، فقلت لنفسي لآخذ لي جولة في الداخل، أطالع فيها الناس، وأستمتع بشيء من الهواء البارد بدلاً من الحر الخانق، وأشرب ماء أروي به عطشي، فدلفت إلى المجمع، وأخذت أمشي بين المحلات التجارية والماركات العالمية، إلى أن اقتربت من أحد المقاهي، فدخلت وطلبت لي قنينةً من الماء البارد، وجلست في كرسي لأستريح، وأخذت أكرع من الماء البارد كرعاتِ عطشان ظمآن.. وبعد أن ارتحت قليلا، وأرتوت العروق وارتخت المفاصل، إذ بي ألمح في ركن المقهى البعيد أستاذ اللغة العربية عيسى ابن مسعود، وكان منهمكاً في قراءة صحيفة باللغة الإنجليزية، فتحركت من مكاني وذهبت إليه، ووقفت أمامه وسلمت عليه، فدعاني للجلوس معه.

قلت له بعد أن تبادلنا الأخبار والعلوم: أراك تقرأ باللغة الإنجليزية، هل هجرت اللغة العربية وأنت بحرها الواسع، وأستاذها الضليع البارع؟

فابتسم لي وقال: بل إن قراءتي للجريدة باللغة الإنجليزية له علاقة ببحث لغوي أقلقني وأهمني، فطالعت هذا الخبر المنشور باللغة الإنجليزية علّي أجد بلسماً وشفاءً، فلم يزدني إلا حيرةً وبلاءً!

انتبهت إلى الخبر الذي كان يقرأه في جريدة مسقط ديلي بتاريخ 25 يوليو 2012م، فإذا به بيان للإدعاء العام يوضح فيه أسباب المخالفات القانونية “للمتجمهرين”، وأسباب اعتقالهم، والحقوق التي منحها لهم، وقانونية الإجراءات التي اتخذها بحقهم، مع صورة منشورة مع الخبر يظهر فيها المتهمون والمتهمات بالتجمهر وهم يحملون لافتات كتب على بعضها “لا للإعتقالات التعسفية” و”المادة 24 من النظام الأساسي للدولة”.

وأخذ عيسى ابن مسعود يشرح لي كيف أن قضية “التجمهر” شغلت ذهنه وبلبلت خاطره، فهو عاشق اللغة العربية، الهائم في كلماتها ومعانيها، والقاضي سحابة أيامه في مطالعة القواميس بحثاً عن أصل المفردات، واشتقاقاتها، ودلالاتها، ومعانيها، وله في هذا فلسفة عجيبة يؤمن بها؛ وهي أن أصل المشكلات في عالمنا العربي تعود إلى أن الناس يرددون الكلمات مثل البغبغاوات دون أن يدركوا أصل معناها، ويتثبتوا من دقة دلالتها وفحواها، ولهذا فهو يعتبر أن إصلاح اللغة هو الطريقة المثلى لإصلاح العالم! وهذا سبب مطالعته للقواميس، وبحثه الدائب عن معنى كل كلمة أو مصطلح جديد يتردد في الإعلام، أو يشيع تداوله بين الأنام.

قال لي عيسى ابن مسعود:

– لقد قرأت بيان الإدعاء العام المنشور باللغة الإنجليزية مراراً وتكراراً، وللأسف أنه لم ينشر في أي صحيفة باللغة العربية، ويبدو أنه خصص لمخاطبة الجاليات الأجنبية. لقد أردت أن أتثبت وأتيقن من كلمة “التجمهر” وترجمتها  إلى اللغة الإنجليزية، فمطالعتي لقواميس اللغة العربية لم تشفِ غليلي، لا لأن معنى كلمة “التجمهر” غامض؛ فهي أوضح من الشمس في رابعة النهار، وإنما مبعث حيرتي هو غموض الصلة بين معنى الكلمة في قواميس اللغة العربية، والمعنى الذي تتداول به في نصوص القوانين، وغرف التحقيقات، وقاعات المحاكم! فأنا مؤمن تماماً أنه لو اتضح المعنى المحدد لكلمة التجمهر لانحلت الأزمة، وانكشفت الغمة، ولتصالح الخصوم، وتصافحوا بالأيدي والخشوم، ولانتهت هذه المشكلة التي شغلت الرأي العام، وبلبلت الخواطر والأذهان، وتركت الحليم حائراً تعبان!

قلت له وأنا أشير إلى الخبر بالجريدة:

–         كلمة التجمهر تمت ترجمتها في الخبر بـ “illegal gathering” أي تجمع غير قانوني.

فقال وهو يؤكد بهزات رأسه على كلامي:

– هذا صحيح. لقد بحثت عن النسخة الإنجليزية من النظام الأساسي للدولة فوجدت أن المادة (32) التي تشير إلى حق المواطنين في التجمع مترجمة كالتالي: “The Citizens have the right to assemble…” وكلمة “assemble” كما تشير قواميس اللغة الإنجليزية تعني أيضاً التجمع. أي أن القواميس العربية والإنجليزية اتفقت على أنه لا يوجد لكلمة “التجمهر” من مرادف في المعنى سوى التجمع، فالمعنى متقارب واللفظين مختلفين، وهذا يؤكد ما قلته لك بأن أصل المشكلات في العالم لا تنشأ إلا بترديد الألفاظ دون تثبت من معانيها الصحيحة، ولهذا لابد من توضيح معنى كلمتي التجمع والتجمهر بدقة شديدة، لتنجلي الرؤية في هذه القضية.

قلت له وأنا أنظر إليه بإعجاب:

–         يا عيسى إن بحثك اللغوي في أصل كلمتي التجمهر والتجمع في اللغتين العربية والإنجليزية لهو جهد عظيم، فجهابذة اللغة العربية الكبار كان جهدهم منصباً ومحصوراً في اللغة العربية فقط، وهذا كان يعود إلى ظروف عصرهم وزمانهم، أما الآن فنحن نعيش في عالم متشابك، تداخلت فيه اللغات والثقافات، وأصبحت اللغة الإنجليزية هي لغة العلوم والقوانين، وأظن بأن اكتشافاتك ستنير العقول والبصائر، وتجلي الغموض عن معنى التجمهر الذي أصبح تهمة يعاقب مرتكبها بأشد العقاب، ويُشَهَرُ به على رؤوس الأشهاد!

فلمعت عينا عيسى ابن مسعود ببريق الفرح، وتهلل وجهه واستبشرت أساريره وهو يقول:

–         سآتيك بما يشفي حيرة الأذهان فيما أدلى به الإدعاء العام من بيان، وسأقف أولاً عند أصل كلمة التجمهر ومعناها باللغة الإنجليزية، ودلالتها في الثقافة الإنسانية، وبعد ذلك نعود إلى اللغة العربية، فأسمع مني -حفظك الله- لأن ما سأقوله لك هو نتاج جهدٍ وبحثٍ طويل، فقد كنت أراقب الأحداث والمحاكمات بصمت وروية، حتى أفهم الأمر بوضوح، وأيضاً كي أجنب نفسي مخاطر الإنزلاق في القيل والقال، والوقوع بين براثن المندسين والمخبرين في صفحات التويتر والفيس بوك، والذين وشوا بالكثيرين، فأورودهم موارد الهلاك، فخذ مني العلم اليقين.

قلت لهو وأنا أستأذن منه للحظات:

–         دعني إذاً أطلب لنفسي كوباً من القهوة، ثم بعد ذلك سأوليك آذاني الصاغية.

اتجهت إلى البائع وطلبت كوباً من القهوة، ووقفت أنتظر حتى يجهز، وأخذت في وقفتي أجول بنظري في أنحاء المجمع التجاري، أتأمل في حشود الناس القادمة من كل حدب وصوب، وحين التفت إلى عيسى ابن مسعود وجدته غارقاً في الصحيفة، وبدا لي لحظتها وكأن غلالة شفافة من الكلمات تحيط به وتسيجه في عالم وحيد منعزلٍ عن كل ما حوله، أخذت أتأمل فيه وأحاول أن أسبر أغوار نفسه على حين غفلة منه.. لحظتها بدا لي عيسى ابن مسعود وكأنه يسكن في قواميس اللغة لا في هذا العالم! وهو في جلسته الآن في ركن المقهى البعيد أشبه بكائن خرج من إحدى قواميس اللغة ليشرب قهوته، ثم بعد ذلك سيعود ويتمدد في إحدى القواميس اللغوية من جديد، وسيصبح كلمة أو جملة لها العديد من المعاني!

 حين عدت بقهوتي إلى الطاولة وجدت عيسى ابن مسعود لايزال غائباً في سرحانه العميق، فجلست، وأخذت أرتشف قهوتي بهدوء وصمت، منتظراً أن يعود من عالمه اللغوي الواسع، وبعد دقائق التفت إلي وقال:

–         إنني لمستغرب جداً أن يصدر الإدعاء العام بيانه هذا باللغة الإنجليزية، أما كان أولى به أن يخاطب قومه بلسانهم، خاصة بعد الإنتقادات التي طالت أداءه؟

قلت له:

–         ربما الإدعاء العام مهتم كثيراً بطمأنت الأجانب المقيمين، خاصة وأنه أشار في خطبه وبياناته المنددة بالتجمهر إلى أن الذين تجمهروا وتجمعوا اختاروا مكاناً حيوياً في قلب مسقط النابض، وأن ذلك ولاشك – كما قال – لفت أنظار الأجانب، ولابد أنهم استاءوا من هذا التجمهر، ولاشك أن الاستثمار الأجنبي خاف وولى هارباً، ومعه ملايين الريالات هربت إلى الخارج فزعاً من التجمهر، ولهذا طالب الإدعاء العام بإنزال أقصى العقوبات بالمتجمهرين، لأنهم خدشوا أنظار الأجانب المستثمرين.

احتد عيسى ابن مسعود قال:

–         إنه لأمر عجيب أن يهتم مسؤلو الإدعاء العام بالأجانب والرأي العام الدولي، لأنني شعرت أنهم منهمكون في ملف القضية، غارقين بين سطورها دون أن ينتبهوا لأبعاد الدولية. اسمع – هداك الله – لو كان الإدعاء العام متواصل مع الثقافة الكونية لما أصدر بيانه عن التجمهر بعبارة “illegal gathering” أي تجمع غير قانوني، فهذا ما لا تفهمه الثقافة المدنية الحديثة، فالتجمع في الثقافة المعاصرة أصبح حق إنساني واضح كحق التعبير عن الرأي، وحق التعليم وغيرها من الحقوق، بل إن تجمع الناس في الساحات، وحملهم لللافتات يعتبر مشهد حضاري، ويدل على رقي الشعب وحصوله على حقوقه السياسية، وحتى المظاهرات السلمية هي موقرة ومقدسة، فترى الناس في البلدان الديمقراطية يمشون في الشوارع حاملين اللافتات، مطالبين بحقوقهم بشكل سلمي وحضاري، فما بالك ببضع أفراد تجمعوا في رصيف موقف للسيارات بعيد عن الشارع العام، وحملوا لافتات سلمية مكتوب عليها نصوص القوانين والدستور.

أضاف عيسى ابن مسعود وهو ينظر إليَّ بتركيز عالٍ، وحماس شديد، كما لو أن أفكاراً ألمعيةً برقت في ذهنه:

–         إن بيان الإدعاء العام يدلل على أن انهماك الكثير من موظفيه في الثقافة التراثية التقليدية أنساهم التواصل مع الثقافة المدنية الحقوقية المعاصرة. لو تفحصت خطبهم وبياناتهم لوجدتها طافحة بالشقشقات اللغوية من سجع، وجناس، وطباق وغيرها من المحسنات البديعية التي ظهرت في عصور ضعف اللغة العربية وتردي أساليب التعبير والكتابة. تستمع إلى البعض ممن يتحدث بلسان الإدعاء العام في التلفزيون والإذاعة فتجد الكلمات تتطاير في السماء، وكأنها بالونات حمراء، وصفراء، وخضراء تمتليء بالهواء.. كلمات كثيرة ومعاني قليلة.. وكأن المراد هو استعراض العضلات اللغوية! ما هكذا الفصاحة والبيان. أينهم من البلاغة والإيجاز؟ ثم إن بيانات الإدعاء العام يفترض بها أن تكون مكتوبة ومصاغة بلغة عصرية، وأن ترتكز على فلسفة القانون ومبادئه الكلية، وأن تُبنى على التحليل العقلي، والبرهان المنطقي، وعلى الوقائع الواضحة، والأدلة الصريحة.

قلت مقاطعاً استرساله في الكلام، حتى لا يشطح بي بعيداً في علوم اللغة وأصول الفصاحة والبيان:

–         لقد ذكرتني يا عيسى بحادثة رواها لي أحد الأصدقاء، حيث أخبرني أنه في العام الماضي حدثت وقفة احتجاجية أمام مبنى إحدى المؤسسات الحكومية في عهد وزير سابق، وكان معه في ذلك الوقت وفد أوروبي جاءه للزيارة، فما كان من هذا الوزير المحنك إلا أن دعاهم للوقوف بالقرب من نافذة مكتبه ليشاهدوا المتجمعين بلافتاتهم المطالبة بتغييره وتنحيته من منصبه، وقال لضيوفه الأوروبيين: أنظروا، أتقولون بأنه لا توجد لدينا حرية؟ هاهم المتجمعين بلافتاتهم الغاضبة المنددة، وقد سمح لهم بحرية التعبير والتجمع دون أي تدخل من السلطات، أليس هذا بدليل على أن البلد يعيش في عهد من الحريات والحقوق السياسية؟ فأعجب الضيوف، ورجعوا إلى بلدانهم يشيدون بالديمقراطية، والحقوق السياسية في البلد السعيد!

ابتسم عيسى ابن مسعود، وهتف بحماس وإثارة:

–         أسمنه هذا الوزير محنك سياسياً! شوف كيف خاطبهم بلغة يفهمونها، وثقافة يعوها! أما بيان الإدعاء العام الذي يتحدث عن “تجمع غير قانوني” فهذا ما لا يفهمه الأجانب، بل يفهمونه على أنه مصادرة صريحة لحق التعبير عن الرأي والتجمع السلمي التي هي حقوق إنسانية واضحة ومستقرة في وعيهم وثقافتهم. دعنا نعود الآن إلى اللغة العربية، لنوضح المعاني بدقة وجلاء.

أخذ عيسى ابن مسعود يشرح وكأنه يدلي بالقول الفصل فيما بين التجمع والتجمهر من اتفاق ووصل، وبدا لي كأنه يقرأ من إحدى القواميس حين قال:

–         تجمهر، يتجمهر، تجمهراً، فهو مُتَجَمْهرٌ. وجَمْهَرَهُ: أي جَمَعَهُ. وتجَمْهَر الناس: أي تجمعوا واحتشدوا. تجمهرهم: أي تجمعهم واحتشادهم. وجمهور الناس: أي جُلُّهُمْ، وجمهور كل شي: معظمه. وعددٌ مجمهر: مُكَثَّر. والجُماهِيرُ: الضخم. وجمهرت القوم: أي جمعتهم. وجمهرت الشيء: أي جمعته، والجمهور من كل شيء معظمه.

نظر إليَّ بإبتسامة ظافرة منتصرة وكأنه يريد أن يضع النقاط الأخيرة على الحروف ليكتمل المعنى الذي أراد أن يقوله:

–         كما هو واضح في القواميس أن التجمهر هو ذاته التجمع، والفارق بينهما في المعنى هو أن التجمهر يطلق على تواجد الأعداد الكبيرة من الناس في مكان واحد، كأن يكونوا مائة شخص أو أكثر، والغريب أن المادة (137) من قانون الجزاء تشير إلى التجمهر بالقول: “..كل من اشترك في تجمهر مؤلف من عشرة أشخاص على الأقل..”، وهذا التوصيف ليس دقيقاً من الناحية اللغوية، فتواجد عشرة أشخاص أو حتى أربعين شخصاً في مكان واحد يسمى تجمعاً وليس تجمهراً. فكما ترى فإن وضوح معاني الكلمات في الأذهان يجعلنا نستخدمها في التعبير الصحيح، وبالتالي تجنب الخلط بين المعاني، والخطأ في تقدير المواقف، وما يحدثه ذلك من تخبط وتعسف في تطبيق القوانين. ثم إن التجمهر سلوك طبيعي للإجتماع البشري، فالناس يتجمعون ويتجمهرون في مناسبات كثيرة، وأحياناً بشكل عفوي، لذا فإن التجمهر لا يعتبر تهمة أبداً في أي قانون إلا إذا ثبت بأنه أضر بمصلحة عامة، ويجب تقديم البرهان المادي على ذلك. كما أن معظم القوانين اشترطت في صحة التهمة بالتجمهر أن يكون قد تم إنذار المتجمهرين بالتفرق وإخلاء المكان، ومع ذلك أصروا على بقائهم في المكان، وعدم إذعانهم للأوامر، أما إذا لم يتم إنذارهم وإبلاغهم بالتفرق فعندها لايجوز إلصاق تهمة التجمهر بهم بأي حال من الأحوال.

بعد أن أنهى عيسى ابن مسعود مرافعته اللغوية البارعة أثنيت عليه ثناءً حاراً، وقلت له لابد أن تكتب رأيك هذا في الصحف أو إحدى المدونات الإلكترونية أو حتى الفيس بوك، ليستنير برأيك الكثيرين، فرأيته ينظر إلي بعينين مذعورتين، فاستغربت من ردة فعله، ولكنني واصلت كلامي له بالقول: إن ما قلته يا عيسى وأوضحته لشديد الأهمية، خاصة في هذا الظرف الصعب، ونحن بحاجة لآراء أمثالك من الخبراء الضليعين في اللغة والقوانين، فقد أوضحت بالفعل أبعاداً لغوية وثقافية لم ينتبه لها بالقدر الكافي، وأرى أن رأيك سيكون له صدى طيب.

لكنه رد علي وهو يتلفت يمنة ويسرة، وكأنه يتجنب أن تقع عيناي في عينيه:

–         إنني عاكف الآن على تأليف كتاب، وستكون فيه كل آرائي وأفكاري واعتقاداتي، وسوف أتحين الوقت المناسب لإصداره، فالوقت الحالي غير مناسب بتاتاً، فالشكوك، والظنون، والريب تطارد الجميع، ولا توجد حرية للرأي والتعبير، لذا سأتخير الوقت المناسب لإصدار هذا الكتاب الذي سيضم عصارة جهدي، وخلاصة فكري، وسيكون هو وصيتي الأخيرة، ورسالتي للأجيال القادمة!

وأضاف هو ينظر لي بإرتباك وحيرة:

–         إنني قد تركت الفيس بوك، والتويتر، والواتس آب، والمدونات، والمواقع، وكل العالم الإلكتروني. أريد أن أعيش ما تبقى لي من عمر بهدوء، وأن أربي أولادي التربية الصحيحة.. وبعد أن أضمن مستقبلهم، وبعد أن ينهوا دراساتهم الجامعية، وأطمئن أنهم حصلوا على وظائف مرموقة، عندها فقط سأقوم بنشر كتبي ومؤلفاتي، وإعلان أفكاري وآرائي، فما يدريني إن لم يطلني أنا السجن والعقاب بسبب ما أقوله وأعلنه، أن يضمروا النوايا السيئة لأبنائي، فيحرمونهم من الحصول على فرص العمل الجيدة، وتكون حجتهم أن أباهم معارض سابق، وأنه كانت له آراء وانتقادات سلبية للحكومة!

كنت أنظر إليه مستغرباً ومدهوشاً، أردت أن أرد على حججه، أن أشرح له وجهة نظري، ولكنه هب واقفاً معلناً عن رغبته في المغادرة، وكي يقطع أمامي أي فرصة للكلام قال لي وهو يصافحني:

–         أرجو أن يظل هذا الكلام الذي دار بيننا طي الكتمان. كما قلت لك بحوثي واهتماماتي اللغوية هي للمتعة الشخصية، ولا أريد لها الآن أن تذيع وتشيع، وسيأتي الوقت المناسب الذي سأقول فيه كلمتي!

ودعني متجهاً إلى خارج المجمع التجاري، كنت أنظر إليه بتعجب واستغراب محاولاً أن أفهم موقفه! وأخذت أشيعه بنظري وهو يبتعد رويداً رويدا.. لاحظت أنه ترك المساحة الكبيرة في الممر العريض وأخذ يمشي بمحاذاة الجدار الأيمن لقاعة المجمع التجاري! كان كلما ابتعد تضاءل، وهو يسحب قدميه بتثاقل، ويلوح يديه يميناً وشمالاً بشيء من الإرتباك الأقرب إلى الخراقة!.. رأيته يذوب ويختفي بين جموع البشر القادمين والخارجين من المجمع التجاري، إلى أن اختفى وتبدد تماماً.

السابع والعشرون سياسة

عن الكاتب

ناصر صالح

كاتب عماني