“المستحيل الرابع” في “أربعاء الرماد”: عن متون محاكمات يوم الأربعاء

من متطلبات المعارضة السياسية العلنية – والتي عرفناها في عماننا للمرة الأولى منذ فبراير من العام الماضي في تتويج لأشكال سابقة أخرى من النضال، أن تتوقع دوماً مؤمرات سريّة.

وهذا ما حدث في يوم الأربعاء.

 

إلى الذين عادوا إلى هناك وسيظلوا دوماً وأبداً هنا.

 

–1–

“أيها المستحيل الرابع

ارفق بي

وتحقَّق”.

حين كان الحلم أكبر من غيمة مثقوبة (مشروع “الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي”) كان حبيبنا الغالي الطفل البحريني المشاكس هذا، وهو من أهم الرموز النضالية والإبداعية في المنطقة، ومن خلف القضبان التي أصابها ضارياً بالصدأ، والضجر، والإهمال الذاتي المحرِج إلى درجة انه:

“عندما كان الحارس ينام

كنتُ أوقظه”

والتي – أي القضبان — من وراءها كتب هذا المارق العتيد ما يرقُّ له قلب الشِّعر من كلمات، وما يلتاع له الأسى من حزن، قد طلب من أمَّه أن تخيط له من جدار السجن ثوبا، وذلك من حيث ان:

“السجن ممر نعبره
كي نغسل عن وجه العالم
أسطورة هذا الشعب الخادم” (اقتباسات مباشرة وغير مباشرة من العزيز  قاسم حداد – أبو طفول).

……………

…………….

فذكِّر، لأن الذكرى تنفع الأحياء، والأموات، ومن سوف يولدون.

 

–2 —

لا يحدث الليل إلا إذا تسلَّل بين أصابعه ضوء بعيد لا يراه الجميع.

 

–3 —

“سقط السّقوط، وأنت تعلو

[…]

كسروكَ ، كم كسروك كي يقفوا على ساقيك عرشا
وتقاسموك وأنكروك وخبـّأوك وأنشأوا ليديك جيشا

[…]

سقط القناع عن القناع عن القناع
سقط القناع “(محمود درويش).

 

— 4–

أحبكم ولستم الوَسَنْ

جئتكم ولستم الزيارة

ولا أغادركم فأنتم الذّهاب.

 

— 5–


في الحالة الوحيدة من نوعها في تاريخ السينما العالمية تمكن المخرج  العظيم الراحل يلماز غوني (الذي يجمع الكثير من النقاد والمؤرخين السينمائيين على انه أهم مخرج سينمائي تركي) من إنجاز فيلمه الروائي الطويل الأشهر “يول” (والكلمة تعني باللغة التركية تعني بالضبط والتحديد:  “الطريق الواصل بين مدينتين متباعدتين”، كما بين مسقط وسمائل مثلاً!) وهو – يلماز غوني — قابع في زنزانة السجن التي زُجَّ فيها بسبب تهمة سياسية ملففقَّة هي الإقدام على اغتيال قاضٍ جائر كان يصدر أحكاماً بالغة اللاعدالة والقسوة على المتهمين في قضايا محاكمات اليسار التركي (ولا من تساوقات مقصودة هنا، كي لا أتَّهم بـ”التحريض” في ظل وجود مؤسسات في بلادنا لا تزال مصرّة بكل ثقة على أن تقدّم للبشرية اختراع أهم “مايكرسكوب” في التاريخ؛ فـ “المايكروسكوب” هذا يقرأ أنفاسك وأنت نائم قبل أن يحلل كلماتك وأفعالك وأنت صاحٍ).

لكن كيف يمكن أن يقوم أي مخرج بإنجاز فيلم روائي طويل وهو في الزنزانة التي هي بالتأكيد ليست “موقع التصوير”؟.

ما حدث هو أن يلماز غوني كان قد كتب سيناريو الفيلم كاملاً على الورق قبيل صدور محكوميته الجائرة.  ومن الأشخاص الذين سُمِحَ لهم بزيارته في السجن الذي كان يخشى انه لن يخرج منه حيَّاً صديقه ومساعده الإخراجي سيريف غورين.

في تلك الزيارات لم يكن غوني يجشّم نفسه عناء الحديث عن الصحة أو الأحوال في السجن، بل أقنع غورين بالقيام بإخراج الفيلم بالنيابة الصداقية والإبداعية، وكان يملي عليه أدق التفاصيل بما ينبغي عمله في كل لقطة ومشهد:  التركيب المشهدي، درجة حرارة اللون، حركة الكاميرا، الموسيقى، إلخ.  وقد فعل غورين ذلك بأمانة شديدة وبعض التصرف إن اقتضى الأمر (لدرجة ان بعض الأدبيات السينمائية اليوم تشير إلى فيلم “يول” باعتباره “إخراجاً مشتركاً” بين غوني وغورين).

…………………….

…………………….

نحن لا نستطيع أن نزوركم في سمائل.  لكن الضوء في رؤوسكم  ينتظر النصوص التي سنقرأها هنا في مسقط.

…………………….

…………………….

“سنقرأ نصك الآتي معاً

وأموت من خوف عليك” (قاسم حدّاد، أيضاً).

 

— 6–

“الكلاب تنبح، والقافلة تسير” (إبراهام لِنْكُن).

 

— 7–

يضيق الحال

وكم في أحوال الدنيا من كلمات.

 

— 8–

في التوتر الذي أصابنا جميعاً في قاعة المحكمة (التي تبرعت لكم هيئتها الموقرة  بحوالي أسبوع آخر من حبس الغل، والتشفي، والانتقام السادي، بحيث انه كان “مطبوخاً” النطق بالأحكام في الثانية إلا خمس دقائق ظهراً لعدم تمكينكم وتمكين محاميكم من الوقت الكافي للقيام بإجراءات الاستئناف الروتينية التي هي من حق أي متهم صدر بحقه حكم ابتدائي فقط).. في ذلك الوقت، إذاً، كنت أرى الطائرات الورقية وهي تهطل على مبنى المحكمة، ومبنى السجن المركزي في سمائل.

كنت أستعيد أجمل مشهد في فيلم “لا تدعهم يطلقون النار على الطائرة الورقية” لِتُنْكْ بازاران.

…………………….

…………………….

كان الهواء كبيراً.

 

— 9–

في عيونكم ما يكفي من كبريت

حتى ولو أحرقْنا هذا الهشيم كلّه.

 

— 10–

“أمام القانون يقف حارس” (كافكا).

 

— 11–

يصرّون دوماً على “هيبة السلطة”، ولكنهم لا يتفكرون أبداً في ما “يهاب” المواطن من فقر، ومرض، وجوع، وجهل، وتجهيل، وإهمال، وانتقاص كرامة.

نريد أن نحذرهم من طائلة الذاكرة، فيأتون بالكرباج والأقفال.

لقد نسوا أو يتناسوا انه مع بدايات ظهور الثورة النفطية في الخليج كانت بعض الأوساط في البلدان الخليجية الشقيقة التي هاجر إليها العمانيون بأعداد كبيرة لطلب الرزق والحد الأدنى من الكرامة (والتي – أيضاً نسوا أن يتناسوا – شكّل فيها العمانيون الخلايا الأولى إلى ما قاد بصورة لم يكن منها مناص لما حدث في جبل سمحان في ظفار في 9 يونيو 1965، وما حدث في إزكي في 12 يوليو 1970).. كانت بعض تلك الأوساط، إذاً، تنعتنا، نحن العمانيين، بـ “هنود الخليج” في مماثلة تحقيرية وازدرائية بالعمالة الهندية الوافدة إلى تلك البلدان بغزارة بعد أن انبثق من الأرض الذهب الأسود.

أرجو أن لا يساء فهمي.  الهند في النسبة لي لا تمثل إلا أنموذجاً تاريخياً مشرّفاً، وعظيماً، واستثنائياً، وليس “رفيج” بالمعنى المسيء المتداول؛ فالهند هي غاندي (في النضال الوطني السلمي)، وهي طاغور (في الأدب)، وهي ساتيجيت راي (في السينما)، إلخ.

…………………….

…………………….

لكم ما تهابون، ولنا ما نهاب، لفرط الخوف.

 

— 12–

قضى قضاؤنا أن يكون هذا هو رمضان الوحيد الذي لن يتلوه عيد في البيوت العمانية.

وأنتم قضيتم أن تكون كل أيامنا أعيادا.

 

— 13–

“ماضي الأيام الآتية” (عنوان إحدى مجموعات أنسي الحاج الشعرية):

تاريخ المؤسسة الأمنية لدينا:  “جونيَّة” فلفل أحمر  (يكفي أن تستمع إلى شهادات معتقَلي الستينيات والسبعينيات السياسيين) .

حاضر المؤسسة القضائية لدينا:  “جونيَّة” فلفل أخضر (يكفي أن تكون قد شهدت ما حدث في المحكمة الإبتدائية في مسقط يوم الأحد، 8/ 8/ 2012).

مستقبل المؤسسة الإعلامية لدينا:  “جونيَّة” فلفل أصفر (تكفي قضية نشر الصور والبيانات الشخصية الخاصة بالمتهمين في قضية الإعابة).

فيا عيوننا ويا بلادنا:  أعانك الله على هذه الألوان الحارقة.

 

— 14–

ذاكرتكم مجرد حبر على ورق.  أما ذاكرتنا فهي ما سيستأنس به التاريخ من ألق.

 

— 15–

أطالُ بلسماً قديماً

في الطريق إلى الجرح الجديد.

 

— 16–

“أنت الخصم والحكم” (بطريقة معكوسة هذه المرة).

 

— 17–

من متطلبات المعارضة السياسية العلنية – والتي عرفناها في عماننا للمرة الأولى منذ فبراير من العام الماضي في تتويج لأشكال سابقة أخرى من النضال، أن تتوقع دوماً مؤمرات سريّة.

وهذا ما حدث في يوم الأربعاء.

 

— 18–

في غيابكم كل الأيام أربعاء.

— 19–

يقولون:  “وراء كل رجل عظيم امرأة”.  أما في عماننا فامرأتان.

 

— 20–

كأنك التوقيت

وقد تغافلت عنه المواقيت.

 

— 21–

أيتها الفضيحة:

لم نعد ننشد لك سوى الفضيحة

أيها الستر:

رأيناك في الفضيحة.

 

— 22–

هذه النص قصير (اضطراراً) لأن الحديث في موضوعه سيطول (اختياراً).

 

 

 

— 23–

“ودَعوا صرختي تصل إليكم” (تي إس إيليُت، من تحفته الخالدة “أربعاء الرماد”).

 

الثامن و العشرون سياسة

عن الكاتب

عبد الله حبيب

كاتب وأديب