عارف البرذول متجمهرا ! …. من يوميات عارف البرذول

لم يكن عارف البرذول يوما معارضاً لحكومة الأرض ولا الكواكب الأخرى المجاورة ، ولم يكُ امرءَ سوء ، ولم يك مشاغباً ، ولم يكُ بغيّا، ولكن الظروف هي التي جعلته يبدو كذلك، بعد أن نُشِرتْ صورته وصور جميع أصدقائه وجيرانه الذين دعاهم للغداء في ذلك اليوم المشؤوم في جميع صحف كوكب المريخ، بعد إدانته بتهمتَيْ التجمهر وإعاقة الطريق .. في الباص الذي أقلتهم فيه قوات الأمن المريخية إلى مكان غير معلوم قال عارف لزوجته حبينة : “الله يصرفك ، انتي اللي اقترحتي نحتفل بنجاح سلوم في المريخ ” كانت حبينة ساهمة واجمة ، فيما علق صديقه محاد قائلا : ” ويّاحوه ويّاحوه .. شكلها العزومة بتكون على دال “..

كان سلوم قد نجح بتقدير مقبول في الصف السابع، بعد ثلاث سنوات متتالية من الرسوب، الأمر الذي حدا بعارف وزوجته للوفاء بنذرهما بأن يدعوا أصدقاءهما والجيران لمأدبة غداء في المريخ ..

لم يكن هؤلاء يعرفون أن قوانين المريخ تختلف عن قوانين الأرض، في الأرض مثلاً يستطيع الناس أن يتنفسوا ما شاؤوا من الهواء، أما المريخ فإن شعاره “الهواء للجميع “، ولذا فإن الجهات الأمنية هي التي تضطلع بمهمة توزيع الهواء في دوارق صغيرة، بهدف حماية المريخ من أصحاب الرئات الضخمة التي تستهلك من الهواء أكثر مما ينبغي، وفي الأرض يستطيع الناس الكلام بحرية في أي وقت يشاؤون أما في المريخ فإن من أراد الكلام فعليه أن يكون خاضعا لقانون “الممنوعات والزجر”، الذي يشترط على المتكلم أن يشتري إطاراً دائريا من محل كبير لاطارات السيارات ملاصق لمبنى الادعاء المريخي العام، بحيث يحق له أن يقول ما يريد ما دام مرتدياً لهذا الإطار الذي يطلق عليه “إطار القانون”، وفي الأرض يستطيع الناس أن يتجمعوا بحرية ويشاهدوا مباريات كرة القدم، ويحضروا الأعراس والمآتم بأي عدد كان، أما في المريخ فإنه لا يجوز أن يتجمع أكثر من عشرة أشخاص في مكان واحد، وهو الأمر الذي لم ينتبه له عارف عندما أصر على النادل المصري برعي أن يرافقهم في الرحلة، “والنبي اعفيني يا سي عارف، بيقولوا الجو في المريخ وحش قوي “، ولكن عارف المعروف بكرمه الحاتمي أصر، فكان برعي وزوجته يحملان رقمي 10 و11 في الدعوة بعد محاد وزوجته وابنتهما، ومدرب السياقة بريك، والمطربة الغالية بنت سعدون وطبالها عبودي الأخرس، علاوة على عارف وزوجته حبينة وابنهما المحتفى به سلوم ..

عندما توقف هؤلاء أمام مطعم “المائدة المريخية” طلب عارف من كبير نادلي المطعم التقاط صورة جماعية لهم دون أن يعلم أن هذا النادل مخبر .. وما هي إلا لحظات حتى هجمت عليهم قوة مكافحة الشغب المريخي المكونة من 111 جنديا واقتادتهم مكبلي الأيادي إلى الباص ..

في الطريق إلى مكان الاحتجاز طفقت الغالية بنت سعدون تدندن على أنغام طبل عبودي بأغنية لمطرب أرضي اسمه سالم بن علي: “دونك الأيام فامضِ يا عُماني / وتسنم فوق هامات الزمانِ ” فكان أن أضيفت لها تهمة “التحريض”، وغنى محاد أغنية مطرب أرضي راحل اسمه سيد مكاوي: “الأرض بتتكلم عربي .. الأرض ، الأرض “” فأضيفت له تهمة “النيل من مكانة المريخ” .. أما بريك فقد أسيء فهم عبارة قالها في الباص بسبب لهجته الصورية التي تقلب القاف غينا، حيث قال يطمئن زملاءه المحتجزين : “يا جماعة المريخ بلد زين .. أنا مؤمن باستغلال القضاء ” وكان يقصد “استقلال القضاء “، فكان أن أضيفت له تهمة ازدراء القضاء المريخي .. والوحيد الذي حظي بمعاملة خاصة من هؤلاء المحتجزين سواء في الباص أو في السجن هو عبودي ، حيث أفردت له سلطات السجن عنبراً خاصا به تلفاز وثلاجة وسرير وثير وبلاي ستيشن ولاب توب، فيما زجت بزملائه كلاً في زنزانة انفرادية ضيقة بمفرده .. ولأن عبودي أخرس فإنه لم يكن يستطيع السؤال عن سر الاهتمام به، ولكنه عرف لاحقا من بعض حراس العنبر بأن للمطبلين وضعاً خاصاً في كوكب المريخ .

ولأن العدل هو أساس الحكم في المريخ فإنه لم تمض تسعون يوما على احتجاز هؤلاء المتجمهرين الأرضيين حتى قدموا للمحاكمة في مبنى يطلق عليه المريخيون”دار القضاء على الشعب “.. كان القاضي أحول، تخاله ينظر للمتهمين المحتشدين في زنزانة خشبية في حين أنه ينظر إلى الجهة المقابلة التي يجلس فيها ضابط أمن مريخي كبير .. قال عارف الذي طالت لحيته خلال فترة الحبس : “والله إني ما تجمهرت ولا أعقت الطريق يا حضرة القاضي .. التوبة .. طلعوني من هنا واعتبروني ما فيي مهجة إذا جيت المريخ مرة ثانية ” .. قالت الغالية بنت سعدون : “وراس أبوي ما أعرف أيش معنى ترحيض”، فصحح لها المدعي المريخي :”تحريض” .. وقال محاد ” المريخ على عيني وراسي يا جماعة ومكانته محفوظة ” ، أما برعي فكان يضع يده على خده وهو يردد بصوت خفيض :”يا مآمن للمريخ ، يا مآمن للمية في البطيخ” ..

وبعد أن استمع القاضي للجميع مدعيا ومتهمين ومحامين قرر أن تكون الجلسة الثانية للمحاكمة بعد أسبوعين .. وأثناء خروجه من القاعة تعثر – بسبب حَوَلِه – برِجْل الضابط الأمني الكبير فسقط على أنفه .. ولأن عملية تجميل أنفه المنبعج ستتطلب سفره إلى كوكب زحل المجاور، فقد استبدلته المحكمة بقاض ثان أطرش .. كان هذا القاضي يخجل من صممه، ولذا فقد كان يتصنع الاستماع للمتهمين والمحامين وهو يبتسم رغم أنه لا يسمع شيئا، موطِّناً النية أن يقرأ ما قالوه لاحقا في محضر الجلسة ..وبعد انتهاء الجلسة، ولأنه أطرش ، فإنه لم يسمع سؤال الضابط الكبير عن موعد الجلسة القادمة للمحاكمة فلم يرد ، وفي الحقيقة فما كان للقاضي أن يرد ، فهو نفسه لم يسمع نفسه عندما نطق بموعد الجلسة القادمة .. ولأن المحكمة المريخية حريصة على أن تأخذ العدالة مجراها فقد عينت – بتوجيه من الضابط الأمني – قاضيا ثالثا للقضية .. كان هذا القاضي أعمى ومشهورا بالعدل، وكان من ضمن القضاة الذين كافأتهم الجهات المريخية العليا بمبلغ مائتي ألف ميرخ ( وهذه هي عملة كوكب المريخ ) اعترافاً بجهودهم في إحقاق العدالة .. لفرط كفاءته ، لم يستغرق القاضي الأعمى وقتاً طويلا في هذه القضية فما هي إلا جلسة واحدة حتى نطق بالحكم المريخي العادل الذي لاقى ارتياحاً من الجميع في كوكب المريخ والكواكب المجاورة، لدرجة أنْ قررتْ أعرق الجامعات في المريخ وزحل والمشتري والزهرة تدريس هذا الحكم في كلياتها الحقوقية :

“حكمنا بإدانة المتهمين من الأول إلى العاشر بالسجن ثلاث سنوات مع الشغل بتهم التجمهر وإعاقة الطريق والتحريض والنيل من مكانة المريخ وازدراء القضاء .. أما المتهم الحادي عشر المدعو عبودي الأخرس فقد حكمنا ببراءته وتعويضه التعويض المناسب .. رفعت الجلسة”

 

الثامن و العشرون سياسة

عن الكاتب

سليمان المعمري

اديب وكاتب