فرضاني،،، خطرات وأسفار

كتب بواسطة د.محمد المحروقي

السفر هو الموضوع الأقرب إلى النفس، حيث المختلف والعجائبي والمدهش. نسافر في الأماكن والقارات ، كما نسافر على صفحات الكتب.

تشدّنا مدن بعبقها التاريخي كزنجبار والقاهرة، وتشدّنا مدن أخرى بحداثتها وصخبها كباريس ودبي، إلى حدّ ما. وتجذبنا جميعاً كتب التاريخ والحضارة والأسلاف. إنه نوع من البحث الطبيعي عن الجذور لقبول الذات واطمئنانها. وينشدّ بعضنا إلى كتب دقيقة في تخصّصه أو على سبيل الهواية. في هذه المساحة وتحت العنوان نفسه سنلتقي معاً في خاطرة من خطرات السفر، حول حكاية عن مدينة أو موقف أو شخصيّة أو كتاب.

وكلمة “فرضاني” الواردة في العنوان شاهدة بارزة على تلاق حضاري مما تمّ بين الأمم والشعوب. ونحن في عمان نفخر لأننا ننتمي لشعب موغل في العراقة والأصالة والتفاعل الايجابي مع الآخر. وقد ضربنا بسهم فائز في ذلك التلاقي المشار إليه، وينبغي أن لا نبادل به خسرانا. والفُرضة في العربية هي: «محط السفن من البحر» كما ورد في القاموس المحيط. وورد في لسان العرب:وفُرْضةُ النهر: ثُلْمَتُه التي منها يُسْتقى. وفي حديث موسى، عليه السلام: حتى أَرْفَأ به عند فرضة النهر أَي مَشْرَعَتِه، وجمع الفرضة فُرَضٌ.
وفي حديث ابن الزبير: واجعلوا السيوف للمنايا فُرَضاً أَي اجعلوها مَشارِعَ للمنايا وتَعَرَّضُوا للشهادة. وفُرْضَةُ البحر: مَحَطُّ السفُن.

 وفي اللغة السواحلية يرد استخدام الكلمة بشكل متواتر ، وبمعنيين اثنين مترابطين؛ الأول أن الفرضة هي الميناء ، وهي تسمية اصطلاحية محضة متفقة تماماً مع الاستخدام اللغوي العربي. والمعنى الثاني ينضاف إليه مدلول اجتماعي ترفيهي حيث يكون الفرضاني هو الشاطيء الخاص الذي يذهب إليه الناس عصر كل يوم للترفيه والعشاء ومقابلة الأصدقاء. وهو عبارة عن مطعم مفتوح بمشاكيك اللحم والدجاج والحبار وأم الربيان المسماة الصفيلح، وبه خبز التشباي وعصير قصب السكر. ويبدأ الباعة بالتوافد إليه منذ الظهر، بينما يبدأ حضور الناس بعد العصر. ويستمرون حتى ساعة متأخرة من الليل. ويقع في مدينة الحجر القديمة في قلب زنجبار.

إن كلمة “فرضاني” كلمة محورية تجمع لغوياً ثقافتين اثنتين تفاعلتا ايجابياً على مدى قرون عديدة. فاللغة السواحلية هي مزيج من ألفاظ اللغتين العربية والبانتوية. يقال – غالباً- إن اللغة السواحلية أخذت من اللغة الأولى الألفاظ، ومن الثانية القواعد. هذه المفردة أتمنى أن أراها أيقونة لمشروع علمي يبرز ذلك التلاقح وعلامة المسجلة لشركة تسوّق منتجات الثقافة السواحلية، وهي عديدة جداً.

ومثيل لهذه الكلمة كثير كثير. فكلمة “سلطاني” السواحلية هي نفسها كلمة “سلطان” العربيّة، وتستخدم للدلالة على زعماء القبائل. وذلك استخدام مطابق للاستخدام العربي. وعندما كنت أترجم كتاب “مغامر عماني في أدغال أفريقيا” للفاتح العماني الذي سيطر على الكونغو وأجزاء كبيرة مما يسمّى الآن تنزانيا وكينيا وأغندا، وقد لقّبه معالي السيّد مستشار السلطان للشؤون الدينية والتاريخية محمد بن أحمد بن سعود البوسعيدي بصقر عمان، هذا المغامر هو التاجر حمد بن محمد المرجبي الملّقب بتيبو تيب. أقول عندما كنت أترجم سيرته الذاتية كانت تستوقفني كثيراً الكلمات العربيّة المجراة على قواعد لغة البانتو. لكنّني كنت غالباً أجد كلمات عربية صرفة في سياق جملته السواحلية، مثل كلمة “نعمة” أي فضل وخير، وكلمة “السنبوق” وهو المزمار الطويل المقوّس المتخذ من قرون بعض الحيوانات. وفي أحيان أخرى أجد استخداماً لآيات قرآنية كاملة ، مثل “ولا تلوموني ولوموا أنفسكم”. وهي مواضع كان المترجم الانجليزي المستفرق (على نسق المستشرق) وايتلي يضطرب في ترجمتها ، ويتجاوزها في بعض الأحيان.

وفي زيارتي الأخيرة لتنزانيا سمعت استخداماً شدّ انتباهي. كانت أمّ تصرخ في ابنها مؤنّبة بالسواحلية: “واستعرابو وايا”. أي: ألا تتحضر أنت!. ومكان “تتحضّر” استخدمت كلمة “واستعرابو” ، ومعناها الحرفي أو الأصلي ألا تتعرّب. وهذا الاستخدام عجيب جداً. فبين اللهجات أعرف أن اللهجة العمانية تستخدمة الكلمة نفسها للدلالة على التحضّر، فنقول: متى يستعرب هذا؟ أي متى يكون شبيها بالعرب فيتحضّر. ولا أستبعد أن تشاركنا لهجات أخرى في الاستخدام. والأمر الثاني أنّ العربي كان مثالاً للمدنيّة والرقي ، لذا اختارت السواحلية هذه المفردة.

وهذا الحضور الكثيف للغة العربية مفهوم مقبول ضمن ما أشرنا إليه من دور للعمانيين في خلق هذه الثقافة ، بل هذه الهويّة الجديدة؛ السواحليّة. وللتذكير فإنّ السواحلية كتبت أولاً بالحرف العربيّ، والمرجبي نفسه كتب سيرته بالحرف العربي ، ثم ضاع هذا المخطوط، ولم يصل إلينا سوى نصّ وايتلي المكتوب بالحرف اللاتيني. والبحث مازال جاريا عن المخطوط الأصل. ومذ قريب التقيت بالأخ محمد بن علي بن محسن البرواني وحدّثني بما يسعدني في هذا الشأن. فعسى أن تنتعش النفوس بالحصول على هذا المخطوط المكتوب بخط المرجبي الجميل بطابعه العماني المميّز.

زرت زنجبار عدة مرات منذ 1992م حتى الآن. فرحلتي الأولى خارج عمان كانت إليها. كما زرت كينيا وأوغندا وجزر القمر. وقد عدت بزاد خصب من هناك. آلاف الوثائق والصور والكثير من الذكريات. وأسعى إلى زيارة الشريط الشرق الأفريقي بأكمله من الصومال إلى مدغشقر، ولا أنسى جزر السيسشيل. فعسى أن يتسنّى ذلك قريباً.

التاسع والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

د.محمد المحروقي

مدير مركز الفراهيدي للدراسات العربيّة