حِصَان مُجَنَّح

إلى … حصاني المُجنح مع الاعتذار الشديد ؛ لأن حماقاتي حرمتهُ من فرصة التحليق مع الأصدقاء في سماء الملتقى الأدبي بصور

 

                 قدومُكَ بعثر كل أوراقي ، وأعاد وجهكَ الصغير ترتيل أحلامي ولكن بكيفيةِ مختلفة . وصلتُ بك إلى حُلمي ، فحملتُكَ بين يديّ ، ولكنكَ بدوت لي لحظتها كحلم مشوه الملامح .

كانت مفاجأة القدر لي بك أكبر من أن أجد لها كلمات … أكبر من أن يعزفها ناي حُزني ، ويبخر بها أجواء وحشتي ؛  لذا تربع الصمت على أطراف روحي ، ودس الكلمات في جُب لا قرار له من أغواري.

كُنتُ أؤمن بأمر واحد وحسب ، وهو أنكَ قدري الذي ينبغي عليّ التصالح معه ، والنظر إلى الجانبِ المشرق من تفاصيله .

كرهتُ موقف الجميع حيال قدومك ، فالأطباء بكلماتِ باردة أراقوا كل بصيص أمل كنتُ عبثاً أحاول التشبث به :

  • عليكِ أن تعرفي منذُ البداية بأنه من أبناء داون ، ومهما فعلتِ فالنتائج لن تصلُ به إلى درجةِ التعافي الكاملة .

كبرتَ مع الأيام وملامحكَ اتضحت لي أكثر ، وصدق الطب وخاب ظن آمالي العريضة  ؛ فملامحُكَ تشبه إخوتكَ من آل داون ، وأنا أشبه الذي يتجاهل الحقيقة ، وينسف على وجع ما تبقى من أمل / سراب !

ورغم كل ذلك كان حُبي لكَ يتضخم مع الأيام كمدِ بحرِ لا جزر له ، وكنتَ أيقونتي التي أقدسُها وأصوغ لها من الأحلام ما هو سلوى لروحِ ضد مناوشاتِ الأوجاع  .

كالسهام تنزلُ عليّ نظراتهم إليكَ … أكره فضحهم حقيقة الأمر ، وعيونهم التي كانت تقول بجفاءِ :

  • طفل لا فائدة منه …أطفال آل داون عبءٌ ثقيل ليسوا إلا .

عندما أصبحتَ في الخامسة من عمركَ كنتُ ممتلئةُ بكَ حدَّ الطوفان في محيط أمومتي لك ، أمومتي  اللاذعة / المالحة / اللذيذة .

دخلت عليّ الغرفة يومها بوجهِ مُبعثر أسدل ستائر الحزن على فؤادي ، وتكورتَ كجنين يتسول بعضاً من الأمان على سريري . حاولتُ أن أراوغُ حزنكَ بالدغدغة , وبأناشيد المنامات التي تُحبها ، ولكن ثمة حزن كان أكثر قوة مني في شدك نحوه .

كانت النافذة محراب صلواتي تجاه السماء ؛ لذا تكورتُ صوبها وتركتُ لك صوت حكاياتي يحرسكَ ويدثركَ من صقيعِ مشاعر الآخرين .

 كنتُ قد شرعتُ في حكاية ثالثة عندما قفزتَ إليّ ووجهكَ متهلل بالفرحِ ، وكررت طلبكَ عليّ بلثغتكِ الشهية ، وكأنما صَبت حروفكَ الشهد على سمعي والبَرد على فؤادي إذ تلعثمتَ :

  • حِ  صَان مُ جَنَّ ح

تسلقتْ عيناك وجهي بابتسامةِ كالسهم استقرت في قلبي ، وإيماءاتُ وجهك تحملني معها لمسافاتِ بعيدةٍ من الفرحِ ، وكنتُ لحظتها أشتهي شيئاً واحداً فقط . أن أدسكَ بيني وبيني للأبد .

إذن حكاية الحِصان المُجَنَّح وحدها من استطاعت أن تنتشلنا يومها من الحزن .

 كم كنتُ ممتنة لتلك الحكاية ؟

 الحكاية التي جعلت منك ملاكاً أغدق عليّ من الفرحِ ما شاء الله ، حتى تلاشيتُ معكَ في نشوة من المرح ، ونحن نمتطي حِصاننا المُجَنَّح ، ونطير بعيداً حيثُ لا مكان لعهر العباد وغوغائيتهم ، حيثُ السماوات صافية إلا من غيمِ يرضع حليب القمر بسكينة .

وكأنني وجدت الفانوس الذي خرج من قمقمهِ المارد السحري !

كنتُ أستدعي حِصانك المُجَنَّح كلما لاح في الأفقِ حزن أو كدر  ، فأعود بكَ ومعكَ طفلة صغيرة بضفيرةِ تُراقص الرياح ، وقلب يعجُ بالأمنياتِ والأغاني .

بين جناحيّ حصاننا يا صغيري كنا نلامس الفوق ونترك التحت للأرضيين – الذين لا يرون أبعد من أرنبةِ أنوفهم – ،  وكنّا نحاول ما استطعنا سبيلا أن نروض الروح  ؛ لتعلو إلى مداركِ لا تهزمها العقبات ، ولا تؤمن بالانكسار .

فيديك بأناملها القصيرة تُهدي إليّ من السكينةِ والأمان ما يعجز عنه كلام الحُكماء  ، وعينيكَ تأخذني معها إلى رياض من الدعةِ والسكون .

كم كنتُ سعيدة بك ومعك ؟

لقد خيبت ظنهم يوم أن وجدوا أمومتي بضاعة كاسدة بين يديك  ،  بينما كُنتَ أنت خير من زرع تربتها فأينعت وربت حصاداً وفيراً .

أتراكَ وجدت في الحصانِ ملاذا من ما أوهموكَ أياه من وهن / ضعف ؟

وأتراكَ عشقتهُ بجناحين يسدان ظلمة الليل  ؛ لنهرب على ظهرهِ إلى رحابِ الله ، حيثُ لا حدّ لرحمة والسلوان ؟

وبعد سنوات …

بلغت حكايتنا حدها من النضح  ، وأصبحتُ مثلك أرتل حكايات حصانك/حصاني المجنح كلما لسعتني كلماتهم  ،  وهيجت جروحاً حسبتها غافية .

كنتُ أمتطي بياضه وأسرق العمر من شيطان كلماتهم وأغيب … إلى البعيد  ، وليس من زوادةِ بحوزتي سواك.

علقنا صور حصاننا المجنح يا صغيري على عتبات الروح  ، بالألوان التي أحببناها له ،  أبيض لحليب الغيم وأزرق لغواية الحكايات .

فمنذُ أن وهبنا الله هذه الحكاية  ، ونحن نُخدر بها عيون الوقت ، ونكسر بها جدار الصمت والملل . كنتُ ما ألبثُ أن ابدأ بها حتى تشرق نجوم الكون على صفحة عينيك ، وتتراقص ابتسامتُك العذبة بين غمازتيك ، فنغوص معاً في خيالي وشغفك ، ونهرب معاً ، ونطير معاً وكأننا طفلين نذرا العمر للفرح والابتهاج .

كنتُ مكتفية بك من كل طقوس بهجة الحياة ، ولا قِبلة لي إلا شطر عينيك ، ولا موسيقى تجيد ترتيبي سوى لثغتُك الشهد .

هذه الليلة .

خانتني حكاياتي وخانتك إيماءات وجهك البريئة ، ولم يأتي حِصاننا المُجَنَّح .

 يدك يا صغيري تنام باردة على كفي ، وعيناك تنظران إلى اللاشئ في وجهي .

ولأن الطب يأبى إلا وأن يكشف عورة الحقيقة بلا مقدمات … وجدتني بين صمت ولادتك وصمت رحيلك أتكور كجنين على سريرك  ، ويجلدني سياط الحقيقة .

حيثُ لا

ح

صان

مُ

جن

 ………………….  نَّح .

 

تمت

 

أدب التاسع والعشرون

عن الكاتب

مريم العدوي

كاتبة عمانية