الخديعة المعلّقة

في الجناح المنزوي من المستشفى، في الغرفة السادسة، السرير رقم (5). ها أنا أقضي ليلتي الثالثة بعد التسعين . في الصباح أرى وجوهاًـ مختلفة، وصامتة، ومتنوعةـ لأطباء وممرضات . تصرخ الأجهزة من التعب والألم.أنابيب معلّقةُ على الجدارن . أصوات تختلف ،تتنوع، ترتفع ، تخفت ،تصمت ،تموت. صوت الزمن هو الوحيد الذي لا يموت. عقارب الساعة البيضاء المعلّقة بعناية فائقة .

تك تك

تك تك تك

تك تك

موجع وموحش هذا الصـــــــــــــوت.

صوت أقدام أطفال يركضون، صوت الريح وهي تعصف برؤوس النخيل، صوت حمامة جبلية وقت الغروب. صوت الماء المنسكب، صوت امرأة تناديني ، صوت طائرة في السماء.صوت رجل أعمى يسرد حكايات غامضة .صوت مؤذّن يأتي من القُرى البعيدة.

تك تك

تك تك

تك تك.

كل الأصوات يطويها النسيان. صوت الساعة المعلّقة بعناية فائقة يقلقني جدا.الزمن بارد هنا. بارد جدا .

مسترخياً ، شبه كلمات تتقطع وتبتعد.تتماهى أحيانا.تصلني أحيانا أخرى .

:” إن حالتي شبه مستقرة، وإنني سأتحسن، بالرغم من الحالة التي تشبه الغيبوبة”.وفي المساء أرى وجوها كثيرة، أعرف بعضها، وأخرى قد نسيتها، وثالثة تسقطُ بين النسيان والغيابِ.

الفتاة الواقفة على طرف السرير، تمسكُ بعاموده. كانت في الطفولة تشتمني

دائماً ، وتصرخ في وجهي؛ أنني فاشل و (بغام)*.الآن تقفُ على بُعد أمتار قليلة تتأمل وجهي . تعابير وجهها تقول بإنها تشفق عليَّ.وأنها ستبكي لو مُت.

: سأموتُ ، سأستمتع جدا بدموعك.

وجه رجل عجوز, كان يشي بي دائما أنني لص. لص يسرقُ كل شيء ،دجاج الجارات ،ملابس بناتهنَّ . ويسرق الطعام من المطابخ.

وجه واحد حاولتُ تذّكرهُ؛ ولم أستطع، فتاة شبه باكية ونصف حزينة. تقفُ على الطرف الأيمن من السرير، خلف امرأة عجوز. متى عرفتها؟

_ لا أدري .

ربما ليست من القرية, شفتاها المطليتان باللون القرمزي وعباءتها المطرزة بغابة من الورود الحمراء تدل على أنها من المدينة .ياااااا الله ضجرتُ من كلامهم وثرثراتهم، ومن مقولاتهم المطبوخة مسبقا.” إنّ حالته هذه هي اختبار من الله . ليمتحنَ قوة إيمانه ، وصبره”

ـ يكفي هذا العذاب إنّي إعلن فشلي في هذا الاختبار القاسٍ والصعب.همستُ بشفتيّ.أيادٍ الممرضات وهنَّ ينّقّلنَّ جسدي تختلف من يد إلى يد . يد تقول لك: كم أشفق عليك أيها الميت.!

ويد تقول:هيا مُتْ و”ريّحنا” من تعبك اليومي ،وتنظيف جسدك العفن.

ويد أخرى : تدمع عيناها وقلبها، وتتمنى أن أرجع لطفلتي _ التي تزورني كل مساء.

خلال الشهور الثلاثة الماضية. كانت الأنابيب رفيقتي. كنتُ أهمسُ لها أن ترحمني.أن تشعر بالألم الذي يقتلني. كنت أُناجي الكيس الأبيض المعلق، والحروف المكتوبة عليه. مُتعتي الوحيدة هي عدُّ ومتابعة القطرات النازلة من

*جاهل

الكيس الأبيض المرفوع جانب سريري.أُخطى في العدِّ , أرجع أعدُّ مرة أخرى.نسيت الأعداد.

يزحف الليل قليلا .وكل ليلة و ( تك تك) ترفع من منسوب قلقي. أُمارس خدعة الأعداد. أصلُ للرقم خمسة وعشرين. وأتذّكرُ أنني نسيتُ العدد سبعة , أرجعُ , أنسى رقم أخر. لذيذة هذه الخديعة .

في الظلمة فقط أستيطع أن أُمارس الخديعةَ مع الوقتِ والليل. اللعب مع الصور المعلّقة على جدارن هذه الغرفة البيضاء الباردة .أفكّرُ أن أكتبَ في وصيتي:

أن يكون لون قبري أبيض.عشقتك أيها البياض.

عشقتك أيها البياض.

في الليل فقط أستطيع الحديث مع الصور المعلّقة ، أن أثرثر معها، أبوح لها بالحنين والألم .بعدما مللتُ من خديعة العدُّ.

هل هذه الصور لي أنا فقط؟ هل للزائرين أم للمرض؟

أم أنها ديكور؟.غير مهم لمِن هي. المهم أنها موجودة .

الصورةُ التي على جانبي الأيسر ،في منتصف الحائط تقريبا. صورة إبل ( ربما عددهن ثلاث أو أكثر).بسبب الكثبان والظلال لم أستطع عدّهن.حاولت عدة مرات عدُّ الإبل ، بعضهنّ يختفنَّ بين الظل والغروب. وحيدات في صحراء تمتدُّ بعيدا .من خلال الظلال الساقطة على جسد الرمال ، الوقت يقول أنه الغروب.

يخرج الزائرون من الغرفة .تضع الممرضة أنبوب التغذية في رقبتي وأنبوب للتخدير في يدي. توّدعني بأبتسامة لا أعرف مغزها. هل هي صادقة , أو هي جزء من روتين العمل؟

عندما تصمتُ كل هذه الأصوات؛ تخرج الإبل من إطار الصورة تقفز في الغرفة .جيراني المرضى لا يشعرون بها . أنا الوحيد الذي أرها جيدا . تخرج من الصورة . بالرغم من أحجامهن الكبيرة إلا إنها تحاول أن تصنع لنفسها مساحة . خفتُ أول مرة شاهدتها .حرّكتُ الأنابيب ، حاولتُ أن أصرخ . ولكن صوتي لم يخرج. وبعد عدة ليالٍ تعودتُ عليها.لا تحضر كلها .تظهر بعضها ،ويختفي البعض الآخر.

تسرد لي يومياتها . وكيف ألتقط المصوّر الصورة؟ .وأن المصور أشعل سيجارته بكل هدوء ، نظر إلى السماء، إطفاء اللفافة . وأن الوقت كان قبل المغيب .تسرد لي حكايات البشر في الصحراء. وقالت لي: أن الصحراء بمثابة الوطن والأم لهنَّ.

سألتني مرة عن أمي ، فقلتُ : أنني لا أتذكّرها جيدا.

كل يوم تسرد لي الحكايات .تغادر الغرفة قبيل الفجر.أو عندما تطلٌّ الممرضة ؛ لتتأكد أنني في وضعية جيدة.أو ربما لتتأكد إنني حيّ !

صورة أخرى في أعلى الباب. رجل بعمامة حمراء منقطة بمربعات بيضاء,العمامة المطوية حول الرأس بعبثية ما . وفوق العمامة حبل أسود مربوط بشكل دائري.الحبل الأسود يشبه (العِقال).يمسك بيده عصا .كنت اتأمل الإبل وهي تمضي إلى الصحراء ، وتختفي وتظهر فوق الكثبان.كنت أفكر في عزلتها .

1: هيش فيك؟

ـ …………

عندما لاحظ صمتي صرخ بقوة

2: هيش تبا ؟

_…….

3: اشفيك سيحت لي بنسمي هيش تبا؟

: لا أُريد شيئا سوى أن تبعد عني رائحة تبغك؟

4: هيش فيها الدوخة ؟

: رائحة تبغك كريهة .تخنقني.تذبحني .

5 : الدنيا حالهي مالهي واليهي كريم وراكبهي حافي.

يشعلُ تبغ مدوخه بكل هدوء ولذة .يصمت حينا ويغني أحيانا.

في صورة أخرى عُلقت بطريقة ما في الممر الذي أذهب عن طريقه إلى دورة المياة . كان صوت امرأة تغني . في البداية لم أنتبه لهذا الصوت الحزين . في الليل فقط اسمع صوتها .لم تخاطبني قط . كانت تخاطبُ ظلَّ رجل، ربما رحل . تحنُّ له . تذكر كل شيء به . وجهه ،صوته ،عيناه.كان صوتها به صفاء غريب . قلت لها من أي البلاد أنتِ؟

: ……….

صرختُ مرة أخرى من أي الدماء أنتِ؟

_ ……..

واصلت غنائها لرجل ما .لم تلتفت لي .

**** *******

بعد ثلاثة أيام من وفاة الرجل النائم في المستشفى في القسم المنزوي. كانت امرأة تغني على قبره . ومرّتْ ثلات إبل بظلالها على القبر .من تحت غافة على طرف المقبرة تصاعد دخان مدوخ لرجل بعمامة حمراء ذات مربعات بيضاء .

_____________________________________

1_ ماذا بك؟

2_ ماذا تريد؟

3_ ماذا بك ، قطعت أنفاسي ، ماذا تريد.

4_ ماذا بها رائحة السيجارة؟

5_ هذا عبارة عن مثل يقول : الدنيا دار المال ، وبها ربُّ كريم . وإنسانها حافٍ.

أدب العدد الثلاثون

عن الكاتب

حمود سعود