خليج الأشباح الجديدة

مسيرة كرامة وطن الكويتية الكبيرة والتي لم يسبق مثلها في البلاد، علامة خليجية تأكيدية على أنهُ لم يبقَ بلدٌ خليجي واحد خارج منظومة الموجة العربية الجديدة من التغيير، تلك الموجة التي وصلت اليمن أول ما وصلت وأطاحت بالرئيس المحرّق؛ إنما كيف يجري تفسير تلك العلامات داخل دوائر صناع القرار الخليجي؟ صناع القرار الخليجي الذين يفترض أنهم صناع ثلث القرار العالمي بما أنهم ينتجون ثلث طاقة العالم. مع أن ذلك غير صحيح إلا في الأرقام!

كل الشوارع الخليجية عبّرت بما لديها من وسائل تعبيرية متاحة عن زمن التغيير، بالمقابل قام الفكر السياسي التقليدي في الخليج باستبدال أشباحه! فالشبح الشيوعي القديم أيام الستينات تم استبداله على التوالي مرة بشبح الأمركة التي سقط الجميع في أحضانها، إلى شبح إيران الخميني الذي جر حرب الخليج الأولى، والمد المذهبي الوهابي مقابل المد الشيعي، إلى شبح العراق الذي جر حرب الخليج الثانية، إلى إيران ما بعد الخميني، إلى شبح الإرهاب، واليوم مع شبح جديد مبرّز هو الإخوان.

ليس الخليج غريباً عن إخوانه، ولا إخوانه غريبون عنه، بل هم أبنائه، لكن التضخيم يأخذ مداه الخليجي، ليجعل من الاخوان فزّاعة العصر السياسية، وكأن الإخوان ليسوا من رحمٍ ديني وجغرافيّ عربي واحد، أو كأن الإخوان جاؤوا من الفضاء الخارجي، وليس من الشارع نفسه.

المشهد الخليجي اليوم ليس مشهداً مستورداً من الخارج، بل هو المشهد الذي نتج عن ممارسات السلطة طوال العقود الماضية، وهو ناتج بالتأكيد من خيارات السلطة السياسية وأفعالها، مع ذلك وفي النتيجة سنجد أن الأزمة المتكررة باستمرار والتي تريد السلطة السياسية الخليجية اليوم إغفالها، والقفز فوقها بحثاً عن شبحِ مؤامرة، وعن عدو جديد، هي نفسها الأزمة المتكررة لانعدام المشاركة السياسية الحقة للشعوب الخليجية في اتخاذ القرار، وهي الأزمة التي لو استمرت بنفس الطريقة فستؤدي إلى كارثة محتمة، تجعل من الخليج بؤرة مضطربة تفكك لحمته وتمتد خيوطها إلى الخارج لتحركها أيادٍ خارجية مجهولة لتحقيق مصالحها. وعلى الخليجيين اليوم أن يعوا تماماً ما هو السيناريو الذي ينتظرهم خلف هذا الدرب.

الحداثة المتخمة بالأشكال، والمباني الشامخة والشوارع النظيفة، والمشاريع الجديدة الباهظة التكاليف ليست حصوناً كافية للمستقبل الخليجي المبهم، إذا لم يتم تحصين الحاضر بإلقاء المسئولية العامة على عاتق أصحابها الحقيقيين الذين يقع عليهم القيام بها، وأصحاب المسئولية العامة والمصلحة العامة هم أنفسهم في كل زمان أهل البلاد نفسها، والشعوب الحرة ذاتها، تلك التي تصدّر الرأي العام والفكر العام والثقافة العامة، وكما لم يفلح الاستفراد بالقرار يوماً في المحافظة على أي شيء مما يملك، فإنهُ لن يفلح، وذلك ما يجب أن يترسخ في وعي الخليج الحديث اليوم.

بلغ الخليج في العقود الأخيرة ذروة شكلية عالية تُعد قفزة هائلة مقارنة بالخليج قبل ستين عاماً، لكن تلك الذروة الشكلية يجب أن تدعمها أسس ثقافية تجعل الفساد والاسترزاق من خلف المشاريع الحكومية شاذاً ومنبوذاً لأنهُ سرقة من الذات، ومن يسرق نفسهُ إلا المختل؟ لا كما يتم وصف الفساد اليوم وتغطيته على أنه نعمٌ وخيرات! يجب الإسراع في إرساء الدعائم الحقيقية الجذرية لأن ما لا دعائم له يسقط حين تتخلى عنه دعائمه.
فكر ومنطق الحكومات نفسه يجب أن يتغيّر ويتطور ويتحضّر، طريقة تفكير الإدارة التابعة لرأس كبير يتم تفخيمه وتعظيمه باستمرار ونسبة كل الإيجابيات إلى فكره وفلسفته وأخلاقه، طمعاً في كسبه بكسب محبة الناس وخضوعهم له وانتظار ما ينهمر من خيرات يده، يجب أن يتحول لفكر أكثر صدقاً مع الذات ومع مقاييسه، ويناسب بين الرموز والذوات وبين تأثيراتها، دون مفهوم التطبيل والنفخ والتزمير لكل شاردة وواردة تنفخ هواءاً من الكلمات في رأس أهرام السلطة، وتجعلهم رؤوساً تتغطرس وترتفع وتنعزل عن الناس وتهرب عنهم بالحجاب، خوفاً من أن يكشفوا أنه رجل عادي مثلهم وإنسان طبيعي يخطئ ويصيب، لا كما يصوره التلفزيون الرسمي والجريدة الرسمية رجلاً خارقاً للعادة منزهاً عن الخطأ معصوماً عن الزلل، فيبتعد وبابتعاده تبتعد الحاشية إلى جزيرة مفصولة عن الناس ترى في الناس قطعاناً تحركهم أشباح، بدل الاقتراب منهم والمشاركة في الحياة العامة كما يليق بإنسان طبيعي.

على صناع القرار في الخليج العربي أن يدركوا زمنهم قبل أن يدركهم الزمن، وأن يدركوا أن القدرة المالية الضخمة التي يوفرها النفط والغاز تهدر بإسراف منذ عقود من أجل المحافظة على فكرٍ سياسي تقليدي قديم متهالك يعود إلى القرون الوسطى، يتصور الساسة أنه الأنسب للحكم الداخلي ولتفكير الحكومة، في تناقض مع فكر هذه الحكومة ذاتها خارجياً والمتوافق مع لغة العالم، لأن هذا الفكر وهذا المنطق ما يلبث أن يسبب أزمات ورجّات هائلة ترج الأوطان رجّاً كلما جاء زمنٌ جديد بدولته ورجاله.

الأشباح استمرت في الظهور والتبدل عقداً بعد عقد في سماء الخليج، لكن هل تساءل أصحاب القرار مرة، هل لظهور الأشباح علاقة بشدة المخاوف؟ لماذا إذن لا نتخلص من المخاوف بدل أن نحارب الأشباح؟! ونتوهمها؟ ونخلقها خلقاً حتى لو لم تكن موجودة أصلاً؟! لتعود السلطة لتساوم الناس على ولائهم ووطنيتهم لبلدانهم كلما شكّت بظهور شبحٍ جديد.

على أوطاننا الخليجية أن تعي بدقة عصرها الراهن وأهميتها للعالم، وأن لا تترك الفرصة للأيادي الخارجية والمرتزقة ليديروا دفة مصالحهم على حساب حقوق أهلها وواجباتهم التي يفترض أن يضطلعوا بها كاملة، بدءاً من مجالسهم القائمة اليوم باندماجٍ كاملٍ لا يتركُ فرصةً للمسافة والظلام الذي يخلق الأشباح، فيوماً عن يوم يتضح جليّاً أن المسألة برمتها تنشأ من سوء فهم تتبادل الأطراف بموجبه الاتهامات، لتضيّق على نفسها الميناء بينما البحر واسع وواعد، غنيّ وطيب ورفيع.

الحادي والثلاثون سياسة

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد