عيسى مخلوف في حواره مع الفلق: العلوم الانسانية تخضع لسوق العرض والطلب

الدكتورعيسى مخلوف، كاتب وشاعر لبناني مقيم في باريس. درس في جامعة “السوربون” وحاز منها على شهادة الدكتوراه في الأنتروبولوجيا الثقافية والاجتماعية وهو يعيش على مفترق بين الثقافات المختلفة له مؤلفات عدة في الأدب (شعراً ونثراً)، وفي البحث يعمل مديرا للأخبار في “إذاعة الشرق” في باريس، وكان عمل في “النهار العربي والدولي” ومجلة “اليوم السابع” وأشرف على القسم الثقافي فيها.

خلال زيارته للسلطنة اقتطفنا منه هذا الحوار الشيق وإن كان قصيرا لضيق الوقت إلا أن إجاباته تحمل الكثير من المعاني والدلائل الرائعة .


– مرحبا بك في بلدك الثاني عمان، كيف رأيت السلطنة وما هو انطباعك عنها؟

– فرحتُ بعمان وأهلها وبطبيعتها الخلاّبة، وكانت المرة الأولى التي أقوم بزيارتها بدعوة من الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء. وكنت تعرفت إليها منذ فترة طويلة من خلال نصوص تراثيّة، وكذلك عبر قصائد وكتابات الشاعر الصديق سيف الرحبي، قبل أن تتسنى لي رؤيتها. قراءتي لتلك النصوص والقصائد مهّدت لي الطريق إلى ما يتجاوز الحدود الجغرافية للمكان في اتجاه جغرافيا الروح والثقافة.

لفتني أيضاً الحوار الذي جرى بعد المحاضرة التي قدمتها، وقد أضاء الحاضرون، من خلال أسئلتهم ومداخلاتهم، نقاطاً كثيرة مهمة.


– تحدثت في محاضرتك عن تراجع الاهتمام بالعلوم الإنسانية في فرنسا والغرب، هل يمكنك شرح هذه الفكرة وإلى ما تعزو أسبابها ؟

– تَراجع العلوم الإنسانية أصبح أمراً واقعاً في الغرب بعد أن وصلت تلك العلوم، في العقود الماضية، إلى مراحل متقدمة جداً، وأحد الأسباب الرئيسة في ذلك التراجع هو إخضاع العلوم الإنسانية، كالثقافة والإبداع على العموم، لمنطق السوق والعرض والطلب. هذا الواقع الجديد، انعكس على الجامعات حيث أن الإقبال على أقسام الفلسفة والآداب يشهد تراجعاً ملحوظاً، يبلغ أحياناً قرابة الثلاثين في المئة، كما حصل في كل من فرنسا وبريطانيا في العقدين الأخيرين، وهناك أقسام للفلسفة أغلقت أبوابها.

– نرى أن المال تغلغل كثيراً في المؤسسات التعليمية ومجال التعليم، وهو الرافد الأكبر لمجال التعليم، كيف السبيل للتخلص من هكذا إشكالية ؟

– علاقة التعليم بالمال لا تنفصل عن علاقة الثقافة والمال، بل هي جزء منها. التعليم، لا سيما التعليم القائم على مناهج حديثة، يهيئ المتلقّي النوعي والقارئ النوعي. القراءة النوعيّة لعمل إبداعي تحتاج إلى تحضير القارئ، مثل التحضير الذي يسبق إنجاز العمل الإبداعي نفسه. يقول الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس إنّ “القرّاء الجيدين هم، كالكتّاب الجيدين أنفسهم، عصافير نادرة”. من هذا المنطلق، لا بد من إيلاء مراكز البحوث أهمية خاصة، ولا بد من إعادة النظر في المؤسسات التعليمية ومناهجها والدور المناط بها، وهو دور كبير جداً، فهو الذي يؤسس لمجتمع المعرفة والتقدّم. ليس فقط التقدم المادي البحت والمجرّد من القيم الأدبية والأخلاقية، بل التقدم الذي يجمع، وبنوع من التكامل والانسجام، بين التقدم التقني والتكنولوجي من جهة، والتقدّم على المستوى المعرفي والإنساني والجمالي من جهة ثانية. وهذا يحتاج إلى ميزانيات للمدارس والجامعات والبحث العلمي، ميزانيات ينبغي أن تقرّها حكومات الدول التي يعنيها مصير البشر والمجتمعات.

وهنا تقتضي الإشارة إلى أنّ ثمة فرقاً بين المال الذي يؤمن بالمشاريع الثقافية ويدعمها ويساعدها على أن تتجسد انطلاقاً من رؤية تنظر إلى الثقافة بصفتها عاملاً من عوامل التنمية وصورة لتقدم المجتمع، والمال الذي يتعاطى مع الثقافة كسلعة ويحصر قيمتها فقط في مردوديتها المادية. هذا التوجّه هو الذي يفرض قوانينه اليوم ويتغيّر معه المعنى الثقافي ومفاهيم الجمال.

البورصة الفنية

– ركّزتَ في المحاضرة على ثقافة الفن التشكيلي وفن الصورة كثيراً ومدى تحكّم المال بهما، فما السبب وراء ذلك ؟

– ركّزتُ على الفنّ التشكيلي لأنّه أحد أكثر الفنون علاقة بالمال في وقتنا الراهن حيث أنّ البورصة الفنية بلغت أوجها. لم يصبح الفن مرادفاً للمال كما هو الحال الآن. تباع الأعمال الفنية، سواء الانطباعية منها أو الحديثة، بملايين الدولارات. في التسعينات من القرن العشرين بيعت لوحة “السوسن” للفنان فان غوغ (الذي مات فقيراً مريضاً ومعدماً) بسبعين مليون دولار. “أعراس بيارات” لبيكاسو بيعت بالمبلغ نفسه. بعض الفنانين الغربيين المعاصرين ارتبط اسمهم بالمال. من هؤلاء، على سيبل المثال، الأميركيان إندي وارول ودجيف كونز، والإنكليزي داميان هيرست، وهذا الأخير باع منحوتة تمثل جمجمة مرصّعة بالألماس بمئة مليون دولار، وهذا أغلى سعر لعمل “فنّي” معاصر! إنها البورصة الفنية إذاً، ولا تساهل فيها. بورصة تتلاعب بالأسعار فيما بعض الفنانين يتلاعب بالفنّ ليصبح فنّاً همّه، في المقام الأوّل، التسلية والتسويق. هذا لا يعني أن الأعمال الفنية الجدية التي تستحق التقدير والاهتمام، غير موجودة. إنها موجودة، لكنّها تتحرّك في الظلّ، ووجودها محاط بالكتمان، لأنها لا تخضع لدورة التجارة الفنية الرائجة وقواعدها المعروفة.

 مدينة في السماء

– كتابك الأخير بعنوان “مدينة في السماء” وقد صدر مؤخراً عن دار التنوير في بيروت. ما هي هذه المدينة التي تتحدث عنها؟

– “مدينة في السماء” هي نيويورك حيث عملتُ بين عامَي ٢٠٠٦ و٢٠٠٧ مستشاراً خاصاً للشؤون الثقافية والاجتماعية في إطار الدورة الحادية والستين للجمعية العامة في منظمة الأمم المتحدة. من هناك، بدأت رحلة هذا الكتاب وهو لا ينحصر فقط في ما أوحته لي تلك المنظمة العالمية التي تصاغ فيها خرائط السلم والحرب، بل يذهب أبعد من ذلك في الأمكنة والأزمنة، وفي مقاربة بعض الموضوعات والأسئلة ومنها الجمال والحب، العنف والموت… من خلال سرد يزاوج بين الشعر والتأمل الفلسفي، بين السيرة والتخيّل، وذلك كله ضمن بنية أدبية واحدة. وهذا الكتاب يأتي في سياق أسلوب بدأ مع كتابين: “عين السراب” و”رسالة إلى الأختين”. قبلهما كانت الكتابة محض شعرية مع “نجمة أمام الموت أبطأت” و”عزلة الذهب”.


– لماذا هذا الانتقال إلى السرد؟

– في السرد يطالعنا الشعر أحياناً أكثر مما يطالعنا في ما يسمى شعراً. التسمية ليست مهمة. المهم في الكتابة هو الهاجس، هو ما نريد إيصاله وبأيّ طريقة. بعض النصوص النثرية شعر صاف. الكتابة اليوم تحتاج هي أيضاً إلى إعادة نظر. ثمّ أن الشعر هو أحد ضحايا العولمة وثقافة الركض والسرعة، وقلّما يلتفت أحد إليه حتى الشعراء أنفسهم. الشعر، كالفلسفة والفكر، يحتاج إلى تأنّ وتأمّل، ويحتاج إلى وقت.

تحوّلات العالم العربي

– كيف تنظر إلى ما يحدث في العالم العربي اليوم؟

– العالم العربي في بداية معركة طويلة. لقد عملت أنساق الحكم العنيفة والسائدة على تجميد المجتمعات العربية عقوداً من الزمن وإخراجها من العصر الحديث. ولقد خلّفت تلك الأنساق نتائج كارثية لن يكون الخروج منها بالأمر السهل. إنّ المعركة الحقيقية المقبلة هي معركة ضد الجهل والفقر، وضد بعض التقاليد التي تقف عائقاً في وجه التقدم. أما الخطوة الأولى فتكمن في رؤيتنا للإنسان نفسه وفي رؤية المرأة بصفتها كائناً قائماً بذاته لا بغيره. كائناً يحق له أن يعيش لا داخل قفص بل في هواء الحرية وبصورة مساوية للرجل من أجل بناء مجتمع جديد. إذ كيف يمكن لمجتمع ما أن يدخل العصر الحديث إذا غَيَّبَ نصف أعضائه؟ كيف يمكن مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية بدون مشاركة المرأة؟ بل أي صورة سترتسم في أذهان الأبناء حيال رؤية أمهاتهم في وضعية دونية، قانونياً واجتماعياً؟ يلزمنا أيضاً الخروج من ذهنية الاستبداد، ومن الاستعمال الاستبدادي للدين، فلا يتم توظيف الدين في السياسية وارتكاب الجرائم باسم الشرائع السماوية. وفي ذلك كله لا بد من الاحتكام إلى العقل والتفكير العلمي، وإلاّ حلّ استبداد المتطرفين دينياً بدل استبداد الطغاة.


– كيف يمكن الوصول إلى هذه المرحلة والعالم العربي، وفي هذه اللحظة بالذات، يغرق في دماء أبنائه؟

– في البداية وقبل كل شيء، تحتاج مجتمعاتنا إلى الخروج من ثقافة الخوف. تحتاج إلى التأسيس لمناهج تربوية وتعليمية تحث على الفكر النقدي. الثورة الفرنسية سبقها القرن الثامن عشر الذي عرف ب “عصر الأنوار”. الأنوار بما هي نقيض الظلام. مفكرو وفلاسفة ذلك العصر صاغوا أفكاراً تحولت في ما بعد إلى مناهج وقوانين ساعدت على تسيير المجتمع. الفيلسوف الفرنسي دوني ديدرو كتب في موسوعته الشهيرة، وتحت عنوان “أن تعبد”، مقالاً اعتبر فيه “أنّ طريقة العبادة ينبغي أن لا تبتعد عن العقل، لأنّ الله هو خالق العقل”. وكم يلتقي هذا الكلام مع توجهات الشاعر والفيلسوف أبي العلاء المعرّي الذي سبق أن تحدث عن “إمامة العقل”…

بينما كان العالم يدخل عصر العولمة وينخرط في ثورة علمية بإيجابياتها وسلبياتها، كان العرب وبفعل عوامل داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، يتخلّون عن الموروث العقلاني في حضارتهم، ويشيحون النظر في الوقت نفسه عن الإنجازات المعرفية الحديثة. أما الخروج من هذه الحالة إلى حالة أخرى، فيقتضي العمل على تأسيس دول حديثة تؤمن بالمواطَنة، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير والابتكار، واحترام الاختلاف، كما تؤمن بالمساواة لأنّ غياب المساواة يولّد العنف. دول تعتبر أنّ الحقّ في المعرفة، كالحقّ في الخبز، حاجة أساسية لا ينبغي التفريط فيها.

الحادي والثلاثون ثقافة وفكر

عن الكاتب

هيثم بن ابراهيم المحرمي