إعلامنا في المرتبة الأولى!

يعيش الإعلام العماني حالة من التأرجح بين عين مغمضة وعين مفتوحة، حالة من التخبط، بعدما كان قد دخل في مرحلة البيات الشتوي، ورغم محاولات الانعاش إلا أنه لم يستطع حتى الآن أن يكون في المرتبة الأولى عند المتلقي العماني مما يدفع بسؤال مهم : لماذا؟ هل لأن الرؤية غير واضحة أم لأن الاستراتيجيات تعاني من تخبط وتراجع منهجي مهني فني، ينقصها الإيمان بالرؤية؟ إن من يقرأ تناول الإعلام العماني للأحداث في الفترة المنصرمة يدرك أنه يعاني أزمة حقيقية على الأقل على المستوى المهني تكاد تصل به إلى أبواب المتحف، فأين هو الإشكال بالضبط .


  1. مفارقات

دعونا نأخذ القضية الأخيرة التي شغلت الشارع العماني مثالا، وهي قضية التجمهر، إذ يبث التلفزيون العماني تقريرا في أخبار العاشرة بتاريخ 10/ يونيو 2012 حول الوقفة الاحتجاجية على الاعتقالات التي طالت العديد من المواطنين، بعد 11 يونيو2012 أي قبل توجيه التهم  يبشرُ الإعلام العماني في وسائله المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة الشعب بالقبض على أبرز المسيئين والمحرضين عبر بيان للادعاء العام، علما أن ميثاق الشرف الإعلامي يشترط المصداقية في تناول المعلومة، وكان الأجدى من الإعلام العماني في تناوله انتظار كلمة القضاء للإدانة أو البراءة، ثم بدأ مسلسل البرامج في تغطية الموضوع، وكأننا نقول للمتلقي العماني أهلا بك في الإعلام الجديد بعد  فبراير 2011 ، وتلك التغطيات اعتمدت الحوار من أطراف مختلفة، إذ أوتي بممثلين من الادعاء العام ومن مؤسسات المجتمع المدني كما يصفونها، بينما لم نجد من يمثل الطرف الآخر ( المتهمين ) من محاميهم أو من أهاليهم !!


أضف إلى ذلك التشهير بهم في مختلف وسائل الإعلام التي تملكها الحكومة بشكل رسمي أو تلك التي تطلق على نفسها أنها خاصة، واعتُبر ذلك تجاوز للحدود التي عادة ما أُلتزم بها في القضايا التي تجيز نشر صور المدانين بضوابط معينة، مما جعلها محط أنظار القاصي والداني، ذلك أن المتفرج لا يرى إلا الأبطال في أي عرض يقدم له، ولكن هذه المرة استطاع أن يرى صاحب الأصابع التي تحرك جميع الخيوط وبوضوح تام !

 يتضح من هذا أن عامل الوقت كان مهما جدا في تأليب الرأي العام، فسقف الحرية الذي ارتفع من حق الجميع، والجميع هنا من يملكون السلطة، والدليل على ذلك أن الأمور عادت لتهدأ من جديد على المستوى الإعلامي، رغم استمرار المحاكمات!! فمن يملك الجهاز الإعلامي هو من يحدد متى ينشر ومتى يتوقف عن ذلك النشر، ولولا التغطيات عبر القنوات الالكترونية المختلفة  التي أصبحت منافسة لهذا الشيخ الهرم، لكان الوضع مختلفا تماما عن ما هو عليه الآن .


 وماذا عن قضية رمال بوشر وقضايا الاختلاسات وغيرها من القضايا التي لاقت رواجا إعلاميا في البداية ثم تم السكوت عنها، أين التغطيات  الإعلامية المتابعة لمآل هذه القضايا لوضع المواطن في الصورة !!


   إن سياسة رفع الغطاء قليلا وزكم الأنوف ثم إعادته إلى مكانه من قوة الرائحة لن تجدي نفعا مع هذا الترهل الناتج عن تراكم الهموم المحلية، ثم إن محاولة احتواء المواطن من خلال رفع السقف متى ما أٌريد ذلك من باب دعوهم ينفسوا قليلا ثم سدوا الأبواب، أو لتصفية حسابات والإطاحة برؤوس بعينها لا تعني أننا في عملية تطوير للإعلام، والمتلقي العماني يدرك تماما ما يدور حوله ويعلم أن الإعلام الذي من المفترض أن يخدمه أصبحت الجرعات التي يقدمها لا تخفف من الواقع شيئا، ولا تعطي مفعول النشوة في نفسه كما كانت على عهدها في السابق، وقد بدأت تخرج أصوات تنادي بقلع المنظومة الإعلامية قلعا من جذورها وبجرافات من ذات الحجم الكبير !


  1. معضلة مرسل أم معضلة متلقي ؟

ينبغي التنويه بأن الأجهزة الأمنية مدركة تماما أن المواطن العماني ليس هو نفسه قبل فبراير 2011، ولكن هل تدرك الأجهزة الإعلامية ذلك في تعاطيها التفاعلي معه كمتلقي ؟!!


هناك أزمة وعي قانوني حقيقية، ويبدو بشكل جلي وواضح أن هذه الأزمة لا تصب في خانة المواطن العماني الذي يظهر أنه أكثر وعيا ولا يحتاج إلى وصاية من قبل أحد، إذ أن هناك من طرح تساؤلا منطقيا وهو: كيف يعتبر هؤلاء أبرز المسيئين والمحرضين قبل أن تتم محاكمتهم ويحكم القضاء في ذلك؟! ألا يعد هذا استهتارا بعقلية المتلقي العماني ؟

 ألا يجب أن ندرك أن المواطن العماني ما عاد يلتزم دور المتلقي العفوي الذي يأخذ الأمور كما تأتيه، بل أصبح مرسلا يحدد ما يهمه ويعنيه ويتناول شؤون الساعة بالسؤال والنقاش والاستنتاج، يدرك تماما أنه خلف الكواليس رسالة ما، مبطنة، هو المعني بها، كما يدرك أن ليس هذا ما يريد في وعيه الواقعي الجديد، بل ما يُراد له أن يتلقى !!


 فالمواطن الآن يقف على القوانين ويناقشها، فما الرسالة التي ستصل إليه عندما يجد تعارضا بين ما يقرأه حقا له وبين ما يطبق على أرض الواقع، وتأتي الوسيلة الإعلامية التي من مهامها توعيته بهذه الحقوق لتتجاوزها وتقول المتهم مدان سواء ثبتت براءته أو لم تثبت !!


  إن الإعلام الرسمي ( الحكومي والخاص ) يوجه رسالة مفادها أنه في النهاية صوت الحكومة، أي في دلالته الواضحة صوت واحد يمثل ويخدم الجهاز الحكومي وذو دور مفقود تجاه المواطن وما يطبخ هناك نشتم رائحته هنا!! فإذا كانت رؤية الحكومة ذات استراتيجيات واضحة فالجهاز الإعلامي كذلك سيكون ذو رؤية واضحة ورسالة محددة، والعكس كذلك من تخبط وفوضى في الرسائل الموجهة بحسب الظروف التي تفرض نفسها، فلماذا على المتلقي أن يثق بالجهاز الإعلامي إذا كانت الموضوعية عنصرا مفقودا في عملية تقديم المعلومة وتغطية الحدث وإيصال الرسالة! كما أن هذا يضعنا أمام تساؤل آخر، هل الإعلام العماني إعلام دولة أم إعلام حكومة؟ وحتى نجد الإجابة يجب أن نفرق بين مفهومي الدولة والحكومة .


 إن الدولة هي المؤسسات التي من المفترض أن تكون المكتسبات التي تحققت على أرض الوطن مثل الوزارات، مجلس الشورى، مجلس الدولة ( مجلس عمان ) المؤسسات التربوية والتعليمية من الجامعات والمعاهد، المؤسسات الاجتماعية والاعلامية، مؤسسات الاقتصاد الوطني، المصانع، البنى التحتية، الجيش، الأمن، والمؤسسات العسكرية المختلفة، فهي جميع المكتسبات التي لا تقوم الدولة إلا بها.  أما الحكومة فهي من المفترض التي تدير هذه المؤسسات إدارة مستقلة بما ينص عليه القانون والدستور (النظام الأساسي) فمفهوم الدولة أكثر شمولية من مفهوم الحكومة لأنه يضم الحاكم والمحكوم والحكومة والأرض التي تقوم أسس كيانها من الدين واللغة والثقافة والتاريخ، فالدولة ليست ملكا خاصا للحكومة كما أن الحكومة يتمحور دورها في  الإدارة والمتابعة والرقي والتطوير الحسن، وتسخير مقدرات وإمكانيات الدولة في خدمة ورعاية مصالح الشعب، والنتيجة بالنهاية تبقى الدولة ولا تتغير بتعاقب الحكومات، وإذا استطاعت حكومة ما ابتلاع الدولة وربط مصيرها بمصالح فئات معينة تشكل كيان هذه الحكومة، فمن المؤكد أن الإعلام لن يلفظ بعيدا، بل سيكون أول المؤسسات الرسمية التي ستدفع ثمن هذا الزواج الباطل !


 عبر سلسلة طويلة من المعطيات الإعلامية التي قدمت للمتلقي العماني نجد أن الإعلام العماني غير مستقل، ولا يمثل فكرة الدولة بل هو إعلام  يعمل بحسب رغبات وأهواء من ينفذ ويتنفذ في السلطات المركزية وبالأخص الاقتصادية والأمنية منها، رغم أن العالم الآن لا يعترف بما يسمى بالإعلام الحكومي، بل أناط بالحكومة دور الحماية الملتزمة الحريصة على استقلالية الإعلام، وعدها سلطة الشعب في المقام الأول، يقول “هوجو بلاك” قاضي المحكمة العليا الأمريكية بعد مرور مائتي سنة على الثورة الأمريكية ضد الملكية البريطانية حول مسؤوليات الدور الإعلامي في المجتمع ” الصحافة محمية بالقانون ومن ثم يمكنها أن تكشف النقاب عن أسرار الحكومة وأن تحيط الناس علما بها. ولا شيء غير الصحافة الحرة غير المقيدة هي التي بوسعها وحدها أن تكشف النقاب بفاعلية عن الخداع في الحكومة” لذا أطلقوا اسم (قوانين الشمس المشرقة) على القانون العام لحرية المعلومات والتي نصت على حق الجمهور في الوصول إلى كثير من الوثائق والأنشطة التي تضطلع بها الحكومة، وذلك أثناء العقدين السابع والثامن من القرن العشرين وبدعم من التشريعات التي خولت للصحافة مقدرة أكبر في الوصول إلى المعلومات ليضمنوا بذلك استقلالية الإعلام وعمله بمسؤولية تجاه المجتمع من خلال خضوعه لمنظومة قوانين تمثل صناعة استثمارية تنافسية في تقديم المعلومة وتحت ضوابط مهنية تخدم الصالح العام.


  1. سلطة الشعب

إذا كنا نتحدث عن دولة مؤسسات ونظام وقوانين، علينا أن نقدم سؤالا حول الإعلام في بلادنا، ما الهدف من وجوده بقنواته المتعددة وأشكاله المختلفة؟


  هناك احتمال لإجابتين، إجابة تأتي من خضم نظام الدولة التي تنعم بالمناخ الحر الوليد بالعمل، بأن الإعلام من أجل بناء المجتمع  وترسيخ فكرة المواطنة، فالمواطن عندما يتسلح بالمعلومة الصادقة المدعومة بالبيان والحجج يشترك مباشرة في بناء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لوطنه وأمته .


  أما الإجابة الثانية فلا مجال لإضاعة الوقت بالتفكر فيها لأنها واضحة وضوح الشمس البازغة من خلال مجريات الأحداث الماضية والحاضر الماثل أمامنا.


  إن من أشكال الموت الحضاري الإنساني في المجتمعات المدنية، هو الوصول إلى درجة الكمال، وأي دولة أو وضع حكومة معين في مكان ما يُحكم عليه من الوهلة الأولى من طبيعة التفاعل الإعلامي ومدى سقف الشفافية المطروح واستقلاله عن السلطة، ومن يقرأ جريدة أو يتابع وسيلة إعلامية أخرى، يصله منها أخبار الانجازات والاتفاقيات والأرقام والنسب المبتورة، فبالتأكيد سيدرك أن هناك رائحة ما، ستزكم أنفه وتدفعه إلى وضع المنديل، رائحة تغلب رائحة ورق الصحيفة الملون بالصور والحبر الأسود!


  فالإعلام لا يعمل بشكل فاعل وحاضر يؤتي ثماره إلا بالمبادئ التي تحترم الصدق والموضوعية ويكون ولاؤه الأول للمواطنين وجوهره نظام من التحقيق والتمحيص، واحتفاظ من يمارس العمل فيها باستقلاليته، لأن الإعلام يجب أن يكون رقيبا مستقلا عن السلطة ويشكل منبرا للنقد العام والبحث في الحلول.


  لذا وجب أن يكون السؤال البديهي، ما الذي يتوقعه الناس/ المواطنون من الإعلام؟ حتى لا نصل إلى السؤال الآخر: ما الذي ينبغي أن يفعلونه إذا ما أسئ استعماله وهو حق من حقوقهم ؟

 إننا أمام حقيقة حول الإعلام الحالي إذ يلوح في الأفق طلاق بين المتلقي والإعلام الرسمي بفعل الفضاء الالكتروني، الذي سيسقط ذلك النوع من الأسئلة حول الفرق بين الإعلام الذي يخدم الدولة والإعلام الذي يخدم الحكومة، أو المتوقع من الإعلام في خدمة المواطن، إذ لن تكون هناك حاجة لطرح هذا النوع من الأسئلة، فقد أصبحت المعلومة حق لا يحتاج إلى صراع لكي يكون مكتسبا، له قوانينه التي تحميه، فكل تلك السلطة المطلقة على الإعلام آيلة إلى الزوال، خاصة مع التقدم الصاروخي العجيب في التقنيات الاتصالية ودخول مفاهيم جديدة مثل مفهوم شبكات التواصل الاجتماعي.


 الوضع يبدو أنه يذهب إلى طلاق بائن بينونة كبرى، من خلال امتلاك كل فرد وسيلته الإعلامية الخاصة به، فالبريد الالكتروني والصفحات والمواقع والمدونات والكتب والصحف الالكترونية، والبحث المباشر للمعلومات والبث الحي أو المسجل للفعاليات أو البرامج المعدة لليوتيوب، هذا عدا التقنيات الجديدة كل يوم عبر الجوال ! كلها شواهد تدل على كسر الحواجز وتخطي القوانين الخاصة بالطباعة والنشر، فاليوم لا داعي للاستئذان أو الحصول على تراخيص الإصدار أو النشر والبث، إذ يكفي الفرد أن يشتري حيز من الانترنت من أي دولة من دول العالم وينشر عبر ذلك الموقع ما يريد وبالطريقة التي يحبذ!


 ومما لا شك فيه أن جميع الدول بحكوماتها المتقدمة والنامية لا نفرق بين أحد منهم في ذلك  تسعى إلى وضع قوانين تحد من إعصار الفضاء القادم، والذي لن ينولهم من تلك الجهود الجبارة إلا عناء الجهد وهدر الأموال أمام التطور المذهل في التقنية الاتصالية المستمرة، الأمر الذي يجعل من المستحيل الوقوف في وجه هذا التقدم أو إعادة الاحتكار للوسائط الإعلامية، حتى لو حاصروا شركات الخدمات الاتصالية بابتداع قوانين يضعونها في عقود تحد من سقف الحريات والمراقبة المباشرة لتلك المواقع أو تكثيف  الاتفاقيات الأمنية في مجال الاتصالات، فإن العقل البشري يتخطى ذلك بفعل التطور الحاصل له وربما كان ما يعرف بظاهرة الهاكرز (القراصنة الالكترونيين) أبرز مثال على تطور وسائل الاختراق للفضاء الالكتروني المحاصر، ولن يبقى أمام السلطات، الأمنية بالأخص إلا اللجوء إلى حل (التدجين) التقني عبر الاشتغال على فكرة الاستخدام الأخلاقي في التعاطي مع تقنيات الاتصال الحديث، وهذه فكرة في حد ذاتها ايجابية لو خلصت النية فيها، إلا أن الرغبة في السيطرة على مفاصل المجتمع بحد ذاته حافز كبير لتجمهرات جديدة على الفضاء الفسيح تخل بالنظام التدجيني المتبع وتقطع الطريق على تصلبه وهشاشته التي كانت قد بدأت تتغلل فيه منذ زمن بعيد .


ترى كيف سيكون حال الإعلام العماني لو وضع المسؤولون – أقصد هنا صناع القرار لا منفذيه – رؤية واضحة أمام أعينهم، وهي : إعلامنا في المرتبة الأولى عند المواطن العماني؟!!


العدد الثاني والثلاثون سياسة

عن الكاتب

باسمة الراجحية