المخطوطات والوثائق العمانية


تمثل المخطوطات والوثائق ذاكرة هامة لأي أمة من الأمم، إذ أنها تعتبر مدخلا أساسيا لقراءة الحضارة والتاريخ في كل جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأدبية بل حتى الخلقية، ومن هنا يمكن أن نقدر قيمة المعرض الوثائقي الثالث الذي أقامته هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية إذ أن المعرض أتاح للباحثين والدارسين والمهتمين الإطلاع على الموروث والمخزون الوثائقي لدى الهيئة من خلال عرض أبرز الوثائق والصور التاريخية النادرة التي تحكي جانبا من تاريخ عمان “الضارب في القدم” وهي عبارة أقولها علنا وبصوت عال بعد مشاهدتي  لمعروضات المعرض الثالث التي ضمت أكثر من ألف وثيقة ما بين رسائل وبرقيات وصور ومخطوطات وخطب منبرية ورسائل شخصية ومصروفات القصور السلطانية ومراسلات رسمية بين الدولة العمانية بشقيها السلطانية أو الإمامية مع دول العالم المختلفة مثل الدولة العثمانية والعراق والهند وأمريكا وفرنسا وبريطانيا والصين واليابان والبرتغال وغيرها

ولكن أبرز ما في المعرض هو ركن المخطوطات إذ أنه ضم نماذج العديد من المخطوطات العمانية التي لم تجد طريقها إلى التحقيق والدراسة والنشر رغم أن الهيئة قامت بجهود تشكر عليها في ترميم تلك المخطوطات والحفاظ عليها إذ أن بعضها يعود لأكثر من 600 عام

منذ فترة كنت قد قرأت حوارا في أحد المنتديات عن اختفاء المخطوطات العمانية إذ تقول التفاصيل إن إحدى وزارات الدولة شكلت فريقا من ثلاثة أشخاص عمانييّن وهولندي ( خبير ) للذهاب إلى زنجبار لتتبع وجمع المخطوطات وأمهات الكتب وتم الاستعانة بالسفارة هناك وبدأت رحلة التقصي، وقد تهافت العمانيون بتقديم ما لديهم من أثمن المخطوطات ونفائس أمهات الكتب تحت ضمان مظلة الحكومة العمانية والسفارة هناك لتصويرها ثم إعادتها إليهم وتم تجميع ما يقارب ثلاثة حقائب كبيرة ثم شحنت لكن ليس إلى عمان بل إلى هولندا،  واختفى الخبير مع المخطوطات، وانتهت مهمة العمانييّن وعادا إلى أرض الوطن بأقل من “خفي حنين”

إن خبرا كهذا كان يستدعي أن يجرى فيه تحقيق كامل ولكنه مر مرور الكرام ولم يثر أية ردة فعل، مما يطرح تساؤلات كثيرة، لأن هناك شواهد مثلها كثيرة، فالزميل “إبراهيم اليحمدي” ذهب مع فريق تلفزيوني عماني لتصوير المتحف الوطني الزنجباري فلم يجد شيئا ذا بال الآن إذ أن الكثير من الموجودات العمانية اختفت وحتى المجلات والجرائد لم يجد منها إلا الأعداد القليلة التي لا يمكن أن تعطي الصورة الحقيقية لتلك الفترة الحية والهامة في التاريخ العماني، بل إن الأمر وصل إلى أبعد من ذلك حيث استطاع “أحدهم” أن يشتري بطريقة ما مراسلات السلطان “علي بن حمود” كاملة بمبالغ زهيدة جدا، وكما هو معلوم فإن السلطان “علي بن حمود” كان له نشاط عالمي غير مسبوق وكان له طموحات كبيرة وحاول أن ينشيء منظمة تعنى بالتعاون الإسلامي وزار في ذلك عاصمة الخلافة العثمانية وأجرى اتصالات كثيرة حول ذلك، كما أنه اهتم كثيرا بالتعليم وبالتعريب مما أدى إلى الإطاحة به من قبل البريطانيين، لذا فإن مراسلاته تلك تشكل ثروة حقيقية لحقبة مهمة من التاريخ العماني، ولا ندري من المستفيد من ضياعها؟!

وهناك جهود بذلها الأستاذ “جمعة الماجد” في جمع التراث العماني في زنجبار حيث نسخ كل موجودات المتحف الوطني الزنجباري وجمع كل ما استطاع إليه وجعله متاحا لكل المراجعين من الباحثين والأكاديميين وهي نقطة تحسب له إذ أنه استطاع أن يحافظ على البقية الباقية من ذلك التراث وهو كان من الكثرة بمكان، ولكن كان الأولى أن يقوم بذلك أصحاب الشأن الذين أهملوا الأمر، باستثناء ما قام به الراحل معالي السيد “محمد بن أحمد البوسعيدي” رحمه الله من جمع بعض الوثائق وإتاحتها للباحثين وطباعة بعضها

ربما لم يدرك العمانيون قيمة تاريخهم وتراثهم، لذا قام الكثيرون منهم على مدى السنوات الماضية ببيع ما يملكون من مخطوطات ومقتنيات للمهتمين الذين يعرفون قيمة ذلك ودفعوا أكثر مما دفعته وزارة التراث والثقافة مما جعل كل ذلك يصل إلى المتاحف الأجنبية أو يباع في المزادات علنا مما يشكل صعوبة كبيرة في إرجاع كل ذلك التراث من المخطوطات والمصوغات والخناجز والحلي

ولقد ذكر لي مرة د. “زكريا المحرمي” أنه قرأ بحثا يشير إلى أن السلطنة هي الدولة العربية الثانية في المخطوطات بعد مصر، وفي ظني أن كاتب ذلك البحث قد أصاب إلا أن المطلوب الآن هو الاهتمام بجمع كل المخطوطات العمانية سواء في الخارج أو الداخل ثم العمل على تحقيقها بأيدي مختصين حتى ترى النور لأن الكثير من التاريخ العماني موجود ضمن تلك المطولات فإذا لم تجد من يستطيع أن يستخرج التاريخ أو يستخرج الكنوز منها فإن المخطوطات ستبقى هكذا دون فائدة

عندما زرت المعرض الوثائقي الثالث واطلعت على المخطوطات العمانية ومنها مخطوط “إيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك” للشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، عرفت الجهد الذي بذله د. “وليد محمود خالص” في تحقيق ذلك المخطوط، إذ أن تحقيق المخطوطات من أكثر المهمات صعوبة والتي يستلزم لاكتشافها وتحليلها وتحقيقها قدرة علمية واسعة وسعة من الجهد، توفرت في شخص د. وليد خالص، فكان لها أهلاً ومتمكناً في التحليل والتحقيق، وفي ظني أن تحقيق تلك المخطوطة احتاج من المحقق وقتا وجهدا كبيرين دون أي مقابل، ومع ذلك نشر الكتاب خارج السلطنة إذ تولت طباعته ونشره هيئة أبوظبي للثقافة والتراث – المجمع الثقافي -، بعد أن صعب أمر طباعة الكتاب في السلطنة،  وللشيخ ناصر بن جاعد أكثر من 38 مخطوطة لم تر النور، أي أننا بحاجة إلى تجنيد محققين ومهتمين بالتاريخ وبكتب التراث العماني حتى يتم تحقيقها ونشرها لتكون متاحة للكل باعتبار أن هذه المخطوطات هي ذاكرة الأمة، وليس أدل على ذلك من سِفر “بيان الشرع” الذي عرض الجزئان الثاني والسبعون والثالث والسبعون منه في المعرض

لا يمكن أن نتجاهل الدور الكبير الذي تقوم به هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية  في جمع والحفاظ على الوثائق العمانية، فهو دور كبير ومجهود واضح تشكر الهيئة عليه ولكن آن الأوان الآن – كخطوة تالية بعد الجمع – أن يتم الاهتمام بدراسة وتحقيق المخطوطات العمانية بأيدي أناس مختصين حتى يعرف العمانيون تاريخهم الذي هو شبه غائب عنهم، وعندما يعرف أي إنسان تاريخه وماضيه تمام المعرفة سينعكس ذلك على سلوكه وأخلاقه وتصرفاته في الحاضر والمستقبل، لأن ما نراه الآن من تصرفات الشباب هو نتيجة غياب الوعي بما فعله الآباء والأجداد وما وصلوا إليه من علم وأخلاق وثقافة، وما وصلت إليه دولتهم من رقي بإقامة علاقات عالمية منذ فترات بعيدة ومبكرة رغم قلة الإمكانيات وقتها، ومن ليس له ماض ليس له حاضر أو مستقبل

Zahir679@gmail.com


العدد الثاني والثلاثون ثقافة وفكر

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com