على هامش الدفتر العماني 2012م

1.
عجبت ممن يظن أن خيبتك دليل انتصاره، ولا يشعر أن حزنك الأكبر وهمك الحقيقي متولدٌ من تزعزع ثقتك فيه! عجبت ممن يرى في خيبة جيل الشباب الجديد فوزاً له ونصراً، ولا يشعر أنها خيبة شبابية من الثقة فيه هو بالذات، ممن لا يدرك أن خيبة الشباب ليست من أنفسهم أو مما يقومون أو قاموا به عن إيمان وإخلاص في وطنهم وله، ، بل هي خيبة من الثقة في النظام الذي يفصل بدل أن يصل، ويتفاضل بدل أن يتكامل، من النظام الذي يجعل الشباب ضد روح الشباب، خيبة من الصورة التي خرجت من تحت عباءة صوت القضاء يوم الأربعاء الماضي 12/12، وغطت عليه حتى خرج صوت القاضي خفيضاً منكسراً لا يصل حتى إلى سمع المتهم المرهف الحواس، فكيف بسمع الآخرين؟! خيبة من الذات، من الأخوة المشتركة لهذا التراب.
هي خيبة شبابية من نظام ينسبون نفسهم إليه وينسبونه إليهم، من أسلوبه الارتجالي، ومن اعتداده بإعلان الخصومة عليهم باسم المخاوف الأمنية، ثم سعيه الحثيث لانتصاره القضائي بالأساليب الملتوية والأدلة المفبركة والأفعال المبينة، ثم فوق ذلك كله إرجاف الخطابات المعلنة والمتسترة خلف أطماع الصحفيين، بالأدوات الرخيصة وصبيان الانترنت الذين يملأون الأمكنة الافتراضية بفاحش الكلام، وضد من كل هذه الحملة؟ ضد من أثبتوا منذ زمن بعيد أنهم يضعون إخلاص عيونهم على نفس النظام إشفاقاً وحراسة لهذا النظام نفسه من أخطاءه ومن استغلال النفوذ والتكتلات المختلفة، خوفاً وإشفاقاً على مصير أملهم الوطني المشترك معه، وثقتهم فيه بغدٍ أفضل. فماذا حدث؟ بل وكيف حدث؟!
كيف حدث أن تغمض كل الضمائر أعينها، وتتهرب الوجوه من ملاقاة الوجوه، وتتصنع الأعذار الواهية، والحجج الصغيرة كي تغضب وتحمق وتهدد وتشجب، وتنسى الحلم والواجب الوطني الذي يحتم العمل والأمل؟!
لكن الشباب اتقاد الحياة لا يخيب أمله في غدٍ أفضل تستحقه أنفاس الصباحات العمانية. فما زال الأمل مضاءاً ومتقداً على هيئة قناديل مضيئة، حتى لو كان نورها حبيساً لكن قوته تصل حتى تخوم المستقبل وتنيرها.

2.
أليس من واجبِ أحدٍ ما أن يرى النصف الفارغ من الكأس؟ أليس على أحدٍ أن يحصي الأخطاء ويعددها ويقيدها في الدفتر العماني المعاصر؟ إذا كان ذلك واجباً فما لنا؟ وهل حبنا لذواتنا أكبر أم لوطننا؟ وإذا كنا نخشى حقاً على الوطن فكيف لا نحميه بنور المعرفة لا بظلام الجهل، وبيقظة العيون لا بإغماضها عن العيوب، وبإشهارها وإصلاحها لا بإنكارها والتستر عليها؟
ما الذي يمكن استشفافه وقراءته من مجريات أحداث دفتر الأيام العمانية هذا العام 2012م؟
رغم الإعلان عن ضخ المزيد من الأموال العامة في الميزانية الأضخم والمشاريع الكبرى لكن كل ذلك لم يستطع أن يرفع ثقة الاقتصاديين في استعداد عمان للمستقبل إلا بنسبة 25% بمقابل نسبة 75% لا تثق في استعداد البلاد الاقتصادي للمستقبل. حسب نقاش عمان 2012. هل نحتاج شهادة أكثر من هذه تفيقنا من غفلتنا الكبرى؟ ومن اعتقاد مؤسسات نظامنا أن المسألة في شح الميزانية؟!
هل نعيد التذكير بإضراب عمال النفط المطالبين بنقابات؟ أم نذكر بإعلان عام 2012 عاماً للطفولة وبتبرؤ المؤسسة المختصة من أن يكون لها صلة بالموضوع؟!
لننظر لقطاع التعليم فهل ستصدمنا نتائج عمان في اختبار القراءة العالمي وهي تحتل المركز قبل الأخير؟ أم هل سنرقع آمالنا بواسطة كرة القدم مثلاً ونحن خرجنا من كل التصفيات عدا إنجازات الأفراد؟ أم من قطاع الصحة والمطار يشهد كل شهر أعداداً غفيرة من أصقاع البلاد الباحثين عن علاج في الخارج، هاربين من أساليب المؤسسات الصحية العمانية المنفر؟ أم من الزراعة والمزارعون يرفعون عقيرة الشكوى المرة من انخفاض أسعار المحاصيل، ومن الاعتماد المفرط على الاستيراد؟ أم من الوضع المعيشي الذي صار يلسع حتى من كان لا يشعر باحتراق الطبقات المسحوقة من المجتمع؟؟ أم من مجرد فرصة الحياة ونحن صرنا نعدد وفيات الحوادث؟ أم من تدابير المؤسسة الأمنية التي انشغلت بالشباب ففضح أسلوب تعاملها الأخير مع قضايا حرية الرأي عن طرق لا نستطيع أن ننسبها للذكاء والحكمة، بل لأساليب القوة والاتهامات وفرد العضلات والتسلط، تلك الأساليب القسرية واليد الطولى التي لم تخف من أثرها حتى على مؤسسة القضاء التي واجبها أن تحمي العدالة التي هي حصن أي نظام.
ألا ينبهنا ذلك إلى أن نظامنا يقود أداءاً ميكانيكياً للمؤسسات بلا روح حقيقية، عاجزاً عن النهوض من عثراته والقيام بكفاءة بمسئولياته؟ أليس في تلك النتائج حين نقارنها بما تخسره عمان كل يوم من الثروات الطبيعية ما يمكن أن نصفه بأنه مخيب للآمال؟ نظامنا قادنا لأداء المؤسسات الذي بدل أن يحفز استشعاراته ويعالج جذر الخطأ ينهمك في ترقيع أخطائه والتبرير وستر العثرات والدفاع عنها، فأين روح النظام إذن؟! وماذا عن الغد؟!

3.
السلطة متورطة في حبائلها الذاتية، تلقي اللوم على الآخر الذي بلا صوت، المحروم من الصوت، والصورة أيضاً، في أنهُ هو سبب فساد النظام، وأنه هو لا غيره المسئول، وأن عليه هو أن يصلح حتى يصلح النظام، وما الفائدة من إلقاء التهمة على المحكوم، هل تؤجل بها السلطة عرائها وضخامة كروشها التي على هيئة أملاك وعقارات وتستر فحشها عن عين الشاب والشابة حديثي التخرج العاطلين الباحثين عن لقمة عيش شريفة وسكن وحياة كريمة، لكن إلى متى ستظل هذه الستارة مكانها؟ ها هي صارت تتعرى أسرع فأسرع خلال العامين المنصرمين، وكلما استعجلت السلطة تمديد ستارتها أكبر كلما افتضحت ممارستها في الأسفل أكثر.
ما الحل إذن؟ هل الحل في رفع جدران العزلة الإعلامية الأمنية من جديد؟! هل يمكن حقاً العودة إلى جزيرة الثمانينات والتسعينات؟
ما الحل إذن؟ هل هو انتظار نضوج الشعب؟ وهذا الشعب متى ينضج في الثمانين؟! وإذا نضج فما هي ردة فعله حقاً؟ هل سينتظر في الطابور لاستلام حقوقه؟ أم سينفجر في أي دوار كرة أرضيِّة آخر؟!
ما الحل إذن؟ هل هو انتظار هذا الرهان الخاسر في أن تعي السلطة أن الرأي الواحد لا يستطيع العيش وحده، وأن تعي السلطة أنها رأس النظام وليست هي ذاتها النظام، أن تعي أنها كسلطة ليست إلا ثمرة من ثمرات نظام أساس روحه الحيوية، يشيع في أفراده الديناميكية، وأن تجمدها في أي نقطة من هذا المنحنى الخطيّ يعني سرعة تثاقلها وبالتالي هبوطها، وأن على نظامنا العماني أن يعمل بسرعة حقيقية وصدق لتغيير محاور هذه الإحداثيات الخطية بإحداثيات متينة وجديدة، وأن للشارع العادي حقاً طبيعياً في الوجود بالصوت والصورة، وأن الاستهانة بالشارع هي استهانة بذات النظام وشرعيته، وأن إهمال حق الرأي الطبيعي وعدم القدرة على استيعاب التعبير السلمي أو إعدامه أو سجنه أو قتله يأتي دوماً بنتائج عكسية وأثبت أنهُ مستحيل وغير ممكن في أرض الله وأزمنته الواسعة هذه؟
هؤلاء الشباب سجناء الرأي راهنوا، هل أقول للأسف؟ على هذا الرهان الخاسر نفسه، ليس لأنهم لا يرون أن علامات خسارته كثيرة، بل لأنهم يعشقون هذه الفرس بالذات. لهذا ظلوا يراهنون عليها طويلاً، حتى والفرس تدوسهم بحدوتها الحديدية. وتحمحم ضدهم! لا لشيء إلا لإيمانهم بأن التغيير لا يأتي من الخارج بل من الداخل، وأن مستقبل البلاد يكمن في قناعة روح نظامها، لا في الادعاءات الخارجية، وأن الوقت أزف إن لم يكن قد فات على تلافي الأخطاء بجدٍّ، لا أن نشهدَ الجد والحزم في البطش بعملية النقد العفوية الشبابية الصغيرة البسيطة الشعبية الطبيعية التي يمثلها هؤلاء الشباب المحكومين مهما خانت بعضهم الأساليب، فعلينا أن نرى ما وراءها لا أن نحاسبهم على الزلة، ونحصي كلمات أفواههم، بل ونعادي كل المنتقدين ونسفههم ونخوّنهم، ثم نتعدى على حريتهم بالملاحقات القضائية والأمنية!
4.
من يتحدى من؟ ومن أجل من؟ الوطن؟ ما الوطن؟ أهو أن تحب أم أن تكره، أن تتحد للخير أم تتحاد بالشر، أن تختلف بالخير أم أن تختلف بالشر. كيف يضيق سمعنا وبصرنا المعاصر في العقد الثاني من القرن العشرين باختلافنا، ما دمنا فهمنا اختلافنا المذهبي والقبلي والاثني، وهي الاختلافات المتهمة عادة بالخلافات، فكيف لا يمكننا أن نستوعب اختلافنا الفكري المعرفي؟! أليس كل من عايش الفكر، ولو ليلة واحدة، يعلم أن الفكر ليس متجمداً ولا بارداً بل متقدٌ ومشتعل، حيوي ومتجدد، يسري كالماء والنار، ولا علاقة لهُ أبداً بالخرس والصمت، بل بالوحي المستمر، والوسوسة المستمرة وتوليد الأفعال الجديدة، ذلك هو الفكر، فكيف للفكر أن يكون عقبة ووظيفته أن يكون جسرا؟
لماذا إذن أيها العمانيون في هذه اللحظة نحاول أن نعبر الجسر منقسمين بالعرض؟!

5.
لنكن نحن نحن، لا نحن وأنتم، ففي المصائر المشتركة لا يوجد إلا مصير واحد لكل أنا. وكل استيعاب في الحاضر يعني أفقاً جديداً في المستقبل، وكل إقصاء في الحاضر يعني أفقاً مسدوداً في المستقبل.
أين عمان منا؟ نحن نضعها في أي جهة؟ إذا كانت في الأعلى فلمَ نختلف؟ أنت مني وأنا منك. لا شيء يستطيع تغيير هذا حتى لو رفعت السيف في وجهك والبندقية في وجهي، بوصفي غافرياً وبوصفك هناوياً، بوصفك إمامياً وبوصفي سلطانياً، أو بوصفي ثائراً وبوصفك نظامياً، أو بوصفك من جيش الإمام القديم أو بوصفي من جيش الإمام الجديد. لا شيء يغيِّرُ من عمانيتك، ولا من عمانيتي، هذا قدر واحد، وأخوة ومصاهرة وجيرة وعيش مشترك تاريخي، وحب مشترك للجهة التي في الأعالي تشير إليها الجبال. كيفما نتفاهم أو نختلف يكون المستقبل الذي هو مصيرنا العمانيّ المشترك.
6.
يخطئ من يخاف من كلمة الرأي ومن الفكر الجديد لأنهُ يقتل بخوفه ذاك أساليب تطوره، ويخاف من يخطئ، أما من يؤمن بصوابه فلا يعرف الخوف، لأنهُ متيقنٌ أن الخوف ليس إلا متاهةً وشبكةً لاصطياد غير المؤمنين والإيقاع بهم.
7.
لن تعرف الحضارة بلادٌ تلجأ للظلم والباطل بدل أن تلجأ للحق والعدالة، ولن تتأسس الحضارة الحقيقية بالأشكال الفخمة ولا بالأموال الطائلة، بل بحضارة أخلاق المكان وأهله، بفكرهم المفتوح ومعرفتهم، بثقتهم المتبادلة وشراكتهم الكاملة، دون ذلك ستخبط الأموال خبط عشواء في بيداء العدم والخسارات.
8.
أخاطب عُمانيّ ضمائركم كي تحفظوا ما يجعلكم عمانيين حقاً، كالجبل الأخضر، وجبل شمس والقمر، والبحر الحدري ومضيق هرمز، ولون الحجر والتراب، عمانيين كالجغرافيا، لا تختلف على هويتها كل الفئات المختلفة فوقها، كي تتحرروا من مخاوفكم ومن شككم الشقيّ المتبادل، كي تدركوا أن اتحاد الاختلاف قوة، أخاطبكم في هذه اللحظة بما يسعني من الكلمة الطيبة في نهاية العام الثاني عشر، لأن وراءكم عملٌ كثيرٌ لتنجزوه لعمان، ودَينٌ وطنيٌّ كبير، ولن تردوا ذرةً منه وأنتم تتبادلون الاتهامات على مفترقات الطرق هكذا من جديد.
أخاطب عُمانيّ ضمائركم كي تحفظوا ما يجعلكم عمانيين حقاً، كالجبل الأخضر، وجبل شمس والقمر، والبحر الحدري ومضيق هرمز، ولون الحجر والتراب، عمانيين كالجغرافيا، لا تختلف على هويتها كل الفئات المختلفة فوقها، كي تتحرروا من مخاوفكم ومن شككم الشقيّ المتبادل، كي تدركوا أن اتحاد الاختلاف قوة، أخاطبكم في هذه اللحظة بما يسعني من الكلمة الطيبة في نهاية العام الثاني عشر، لأن وراءكم عملٌ كثيرٌ لتنجزوه لعمان، ودَينٌ وطنيٌّ كبير، ولن تردوا ذرةً منه وأنتم تتبادلون الاتهامات على مفترقات الطرق هكذا من جديد.
لن تنجزوه بسجن الشباب الشريف الشجاع لكلمته ورأيه في سجن سمائل المركزي، ولا بتعليق كل المسئولية العمانية على مشجب السلطان وحده.
بل ستنجزونه إذا بلغتم طريق حريتكم وثقتكم بينكم من شكِّ كل قيد، لتروا حينها أن بوصلة الجهة تقودكم إلى عمان الجديدة تلك التي في أعالي أحلامكم ترفرف علماً خفاقاً تستدل به السحب على بلاد الخير.

العدد الثاني والثلاثون سياسة

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد