فيشنو واللوتس
تتزاحم الأفلام التي تقذفها رحم هوليوود الحبلى بالتشويق والإبهار لتسرق عيون المشاهدين التواقة لما ينفض عنها هموم الحياة اللاهثة , كثير من هذه الأفلام تختزل الروح الغربية بما تكتنزه من نزعة مادية تخطف أضوائها العين في البداية لكن سرعان ما يخبو هذا البريق متى ما حاول النفاذ إلى الروح , فالأفلام من ناحية التأثير يمكن حصرها في ثلاث أنماط أساسية ، لكل منها مناصريه ومنظريه وجمهوره , نمط من الأفلام لا يتعدى تأثيره الجانب البصري متمثلة في جانب الأكشن أو الرعب , ونمط أخر يجمع بين الجانب البصري وجانب التشويق العقلي وكلا النمطين لهما سوقهما الرائج في عالم الساحرة الهوليودية, يبقى نمط من الأفلام قلما تشاهده على الشاشة الفضية يمزج التجربة الروحية بوقائع الفيلم ، وهو ما تبرع فيه السينما الشرقية عموما بحكم التجربة الدينية العميقة لها, وفلم ) حياة باي ) الذي يعرض حاليا في صالات السينما بلا شك ينتمي إلى النمط الثالث لكن بدون أن يهمل السحر البصري و العقلي في العمل مما شكل ملحمة فنية قلما تشاهدها على الشاشة الفضية .
الفيلم مقتبس عن رواية شهيرة ليان مارتيل نشرت في عام 2001 عن دار ( Knopf Canada ) بعد أن رفضتها خمس دور نشر على الأقل ، لكنها حصدت العديد من الجوائز بعد ذلك , الفيلم يعرض مغامرة للفتى (Piscine) الهندي الذي حمل اسم الحوض باللغة الفرنسية ، مما سبب له حرجا كبيرا امام أترابه في المدرسة ابان فتره صباه مما دفعه إلى اختصاره الى كلمة Pi باي .
بدأ الصبى باي يبحث في الإيمانيات المتعددة التي تزخر بها الهند ، ولا يكف عقله عن طرح الأسئلة الوجودية ، تحمله الصدفة أو القدرة الإلهية ليجد نفسه بعد حادثة غرق السفينة بكامل حمولتها ، في قارب نجاة مع نمر بنغالي يطلق عليه اسم ريتشارد باركر ، وحيدا وسط المحيط الهادي يصارع من أجل البقاء , الصراع الذي جعل باي يختبر الحياة والموت ليعيد صياغة مفهوم الايمان.
لن أدخل في مجريات احداث الفيلم لكن سأتعرض لبعض الجوانب الفلسفية والدينية المبطنة في طياته والزاخرة بالمعاني الإنسانية العميقة ، والتي تصلح أن تكون قاعدة لأساس إيماني يمكن أن يجمع شتات القلوب المتترسة خلف أسوار الديانات و الأيديولوجيات إلى عالم أكثر رحابة وانفتاحا على الاخر.
فشنو واللوتس
لا يتعرض الفيلم صراحة الى مركزية الإله فشنو في دفع الأحداث المتلاحقة ، بيد أن من لديه اطلاع على الإيمان الهندوسي وطبيعة الدور الذي يحتله الإله فشنو في هذا الإيمان ، يستطيع أن يستشف الحضور الطاغي لميتافزيقيا هذا الإله في بناء قصة الفيلم ، لا نبالغ إذا قلنا أن العمل ما هو الا ترنيمة من الاوبانيشد تصف رحلة إبحار النفس بحثا عن شواطئ فشنو والنهل من معين المعرفة المكنونة في تلك الاصقاع النائية من الروح ، وحتى تتضح الصورة بشكل أفضل لا بد أن ندرك أهمية فشنو كأحد الآلهة الثلاث الرئيسية عند الهندوس ، وهم برهما الخالق وفشنو الحافظ وشيفا المدمر, يُعرف فشنو أيضا بأنه تجلى للحقيقة العليا في هذا الكون والجوهر الحال في كل الكائنات والمستقر النهائي لتحرير النفوس حيث عالم النعيم الأبدي والسعادة التي تقع في ما وراء الكون المادي والتي لا يمكن أن ينظر اليها أو تقاس بالمنطق أو العلوم الأرضية المادية ، يصور الإله فشنو في الميثولوجيا الهندوسية كرجل مستلقي على صفحة الماء باسترخاء تام حاملا في احد اياديه الاربع زهرة اللوتس المقدسة وبجانبه زوجته لاكشمي آلهة المال والحظ .
تبدأ رمزية فشنو في الفيلم من إطلاق اسم باي أو النسبة الرياضية (= 3.14) على بطل الفلم ,وهي النسبة الثابتة بين محيط أي دائرة إلى قطرها وهو عدد حقيقي غير كسري وأيضا عدد سامي غير جذري ، وأول من أطلق على هذه النسبة الثابتة اسم باي هو وليام جونز وذلك عام 1706 ميلادي ، وذلك لأنها الحرف الأول من كلمة لاتينية تعني المحيط.ويعد أرخميدس هو أول شخص استطاع تحديد نسبة باي بنسبة تقريبية مشابهة للتي لدينا الآن ،ولكن هناك أدلة تؤكد أن الحضارة الهندية والمصرية القديمة عرفت باي لكنها لم تكن تستطيع وصفها.وتنتشر باي بشكل كبير في التطبيقات الرياضية والفيزيائية كعلم الكون ونظرية الأعداد والإحصاء والهندسة الكسيرية والديناميكا الحرارية والميكانيكا والفيزياء الكهرومغناطيسية, وبالتالي باي هي إشارة ضمنية للإله فشنو كجوهر حال في كل الكائنات وهو يدعم ويحفظ ويحكم الكون ، ويطور كل ما فيه تماما كما تتحكم هذه النسبة الرياضية باي في بنية الموجودات في هذا الكون وتضبط تركيبته وأبعاده وتفاعلاته.
يمر الفيلم في البداية بإطلالة سريعة على تنقل الصبى باي بين الإيمانيات الموجودة في محيط مدينته ابتدائا بالهندوسية والمسيحية ثم الإسلام ، لكن في كل منها ينجذب للطقوس الشكلية مما يجعله في حالة تنقل مستمر وعدم ثبات, وبالتالي كان لا بد لباي أن ينتقل إلى التجربة الروحية للإيمان التي تختزل بين طياتها لب جميع المعتقدات التي جاهد في الجري خلفها , وفي مشهد تلاقي عين النمر البنغالي (ريتشارد باركر) بعيني باي الصغير التي ظن أنها مملؤة بالحياة ، يصدمه أبوه بحقيقة أنها ما هي إلا انعكاس لانفعالاته النفسية الباطنية ، ثم يصعد الفيلم درجة عند سؤال باي اليافع للراقصة أناند عن ماهية وجود اللوتس في الغابة كما تمثلتها خلال فترة التدريب على الرقص الهندي التقليدي؟ لتتشكل الثنائية التي تجر معها الأحداث تباعا من خلال الصراع لترويض النفس المتنمرة او ريتشارد باركر خلال رحلة قدرية تكتنفها الأهوال والشدائد يرق فيها الحد الفاصل بين الحياة والموت حتى يكاد يتلاشى, وخلال هذا الابحار تترقى الروح وتسمو في المعرفة الباطنية حتى تبلغ معها درجة قادرة على أن تفض سر اللوتس في الغابة وتصل الى جوهر الايمان الحقيقي.
الصعود الى فشنو بالهبوط الى أعماق النفس
تغرق السفينة بكامل حمولتها وينجو فقط باي في قارب للنجاة مع النمر البنغالي الشرس الذي يحاول جاهدا ان يفتك به في وسط المحيط اللامتناهي، رمزية فشنو هنا تظهر في المكان الذي يدور فيها جل الصراع وهو عرض البحر تماما كما تصوره الرسومات واقفا على صفحة البحر الهائج وتلك إشارة ضمنية للدخول الى عالم فشنو بما تختزله من معاني ميتافيزيقة، والقارب هو الجسد الذي يحمل في باطنه النمر الذي هو دلالة للذات المتمردة والمنغمسة في بحر الرغبة البهيمية والمتجردة من كل القيم السامية , هذه الذات تحاول باستمرار أن تقذف باي خارج قارب الحياة نحو الهلاك, فكان لزاما عليه أن يبذل كل طاقته لترويض هذه الذات الهائجة بسبر أغوارها والتأمل العميق في باطنها.
وأنت تصارع في بحر الحياة قد تفشل وتتعثر , تشعر بالقنوط والعجز والوحدة , كل ما حولك يتلاطم بطريقة قد لا تفهمها أو لا تجد له تفسيرا منطقيا , الذات المتنمرة تكون مختبئة في بداية الرحلة في داخل القارب وتخرج بشراستها بين الفينة والأخرى ومتى ما حاولت مواجهتها فسوف تطلق الشر المكنون بداخلها وتدفعك دفعا خارج قارب الحياة ، فالرغبات الجامحة والمتأرجحة بين الخير والشر تدفعنا دفعا نحو غياهب العزلة ولو كانت المسافة بيننا لا تتجاوز الأمتار أو الأشبار, ليصبح ما يربطنا بالآخر مجرد حبل مهترء قابل أن ينقطع في أي حين , تهاجم حينا لتزيح ذاتك المتنمرة حتى إذا ما ظننت انك قاب قوسين أو أدنى من السيطرة عليها قذفتك بغتة في بحر الأحزان والشقاء والعزلة.
لن يكف فشنو عن إخضاعك للتجارب وسيراقبك من طرف خفي حتى تدرك تماما أنك خاضع لقوانين عالمه الماورائية التي تسير عالمك المادي بخيوط غير مرئية كدمى الماريونت، ما عليك فعله هو كف النظر للأسفل والارتقاء ببصرك إلى السماء اللامتناهية ,مد يدك لفناء ملكوته فحتما سيأتيك بالعون ويزرع في قلبك بذور الإيمان, وسرعان ما سيقذف فشنو في روحك شرارات الحكمة التي ستشحنك بالحياة وتفتح بصرك على أنوار علوية تضيء دياجير العالم السفلي، هنا يعثر باي على كتيب النجاة الخاص بالمسافرين في البحر والذي يهديه أولا الى حقيقة واقعه ( وهذا أول ما يجب ان يعلمه المسافر في الزمن) ثم إرشادات لما يحتويه قارب الحياة من زاد يعينه على شقاء الرحلة, كما يعلمه الكتيب بعض المهارات الجديدة والتي من خلالها يكتشف كيف يروض تلك الذات المتنمرة ويستخلص الاسرار الدفينة في هذا الكون ( فقط افتح كتاب النجاة , افتح الاوبانيشد , أو التوراة, أو الانجيل أو القرءان أو الجورو جراند صاحب أو الافيستا وامسك بطرف حبل المعرفة ) .
ثنائية السمكة والحوت
رويدا رويدا تنقشع سحب الغمامة الروحية أمام الفتى باي و يدرك اسرار ومداخل السيطرة على هذه الذات المتنمرة التي سرعان ما يكتشف انها ذات ضعيفة مهما تسربلت بلباس الشراسة والعنف, يتجلى فشنو في الفيلم بثنائية غريبة هذه المرة فتراه يأتي في شكل سمكة يصطادها باي بشبكته ، فيلهج لسان باي بالشكر لفشنو الذي اتاه بهذه الهيئة, ويكثر تصوير فشنو وهذه السمكة في الفنون الهندوسية القديمة, وبكل إصرار وعزيمة يواصل باي مهمته مستخدما لحم سمكة فشنو في ترويض هذه الذات المتنمرة حتى تنقاد له وتخضع خضوعا كاملا بلا قيد أو شرط .
لكن الوصول لفشنو ما يزال دونه مفارز تحتاج لاستعداد أكبر وتضحية أعظم وروحانية أبهى , يتجلى فشنو مرة أخرى كحوت ضخم يقلب سكون الحياة الجديدة ويبعثر كل ما بناه الفتى ( باي ) من علاقة مع ذاته المتنمرة وسط المحيط حتى يكاد يقلب قارب الحياة معه, فشنو بهذه المصائب يدفع باي وذاته المتنمرة للتقارب اكثر لتكوين علاقة شفافة وبصورة أعمق , وبعد أن يحل السلام والسكون بينه وبين ذاته يرى ( باي ) الملكوت من حوله بعين الروح متجاوزا قيود الزمان والمكان , سيرى الفتى وهو يحدق في جوف البحر عالما زاخرا يعج بالصور والمعاني والألوان والكائنات كلها تتداخل في ما بينها بطريقة أقرب لعقيدة الحلول والاتحاد الصوفية.
الامتحان الاخير
تعيش وتأكل وتتنفس المعرفة ,تظن بهذا أنك قد بلغت سقف الإيمان لكن فشنو لديه وسيلة أخيرة ليثبت أنك لا تزال حيث أنت , ربما غرك دفىء النور الذي أشعل فشنو جذوته في صدرك وبدئت تحس بحرارته في أطرافك, كم أنت واهم فقريبا ستكتشف أنك ما علمت الا لتجهل وما ارتقيت الا لتسقط , قريبا سيجعل فشنو ذاتك المتنمرة في أضعف حالاتها تتقاذها المياه الزرقاء في القارب الذي ظننت انك ملئته بالأمان والإيمان , كم أنت واهم يا باي, تهب عواصف فشنو مزمجرة من جديد لتقلب عالم باي رأسا على عقب, تصفع بروقه المياه لتتوهج غضبا ويصرخ باي في ذلك المشهد بصوت يائس وغاضب من أعماقه “لماذا تخيفه؟” وهو يشاهد تهاوي هذه الذات إلى أدنى مستوياتها بعد أن كادت تلامس سقف السماء , لكن باي يعي الدرس الأخير وتتغلغل هذه الحقيقة في روحه حتى تسيطر على كيانه بالكامل ,الحقيقة هي أن دخول جنة فشنو لا يمكن أن يتمتع بها من كان في قلبه مثقال حبة من كراهية ، لا بد أن يمحى من قلب باي كل ذرة ضغينة أو بغضاء لكائن من كان , تتدفق هذه المعاني في روح باي وهو يحمل ذاته المنكسرة بين يديه , وتسري هذه العظة البليغة من فشنو في كيان باي لترشده نحو الكمال الحقيقي الذي يفتح الأبواب السماوية للاتحاد بفشنو, تتطابق هذه العظة البليغة من فشنو مع “عظة الجبل” للسيد المسيح التي ألقاها على مسامع الحوارين والمتحلقين حول الجبل, وفيها يقول السيد المسيح :
“سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك ، وأما أنا فاقول لكم أحبوا اعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، احسنوا الى مبغضيكم ، وصلوا لاجل الذين يسيئون إليكم ويطردونك، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات ، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين ، لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم ، أليس العشارون أيضا يفعلون ذلك ، وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون ، أليس العشارون أيضا يفعلون هكذا، فكونوا انتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل.“
وبعد أن ارتقى باي لمرحلة قريبة من مرحلة الكمال والتنور أو النيرفانا , أصبح مهيأ لدخول الحقيقة العليا وجزيرة فشنو الغامضة ، وسيعرف حينها معرفة روحية أنه قادر على دخولها وسينطق لسان ( باي ) في الفلم “أنا الآن مستعد للقائك”
الاقتراب من النيرفانا والذوبان في فشنو
لابد أن تختبر المشاعر المتضادة , فدخول جنة فشنو يحتاج الى انعدام الوزن وانعدام الوعي وانعدام النظر , أن تكون كالصفر, موجود وغير موجود ، سابحا فوق سطح الماء ، كطفل في رحم أمه طافيا فوق اللاشيء ، كثيرا ما يصور فشنو في هذه الحالة مستلقيا على صفحة الماء بكل سلام ووسكينة. وكما يقول الكاتب الهندي ديفدوت باتنايك في كتابه الأسرار السبعة لفشنو ، تعرف وضعية فشنو وهو في حالة السبات الكامل ب “الناريانا” وفيها:
” يكون العالم لا وجود له، في الشكل، أو في الفكر. هذا هو الحال مع الطفل الذي لم يولد بعد.”
يستلقي فشنو في حالة الناريانا على كومة متشابكة من الأفاعي تسمى ” أدي – أنانتا- سيشا” وهي تمثل حالة الزمن في مراحل الانسان الثلاث, حيث تشير كلمة أدي الى حالة الاستيقاض والاحساس الاول بالزمن ويرمز لها بالعدد واحد ,وكلمة أنانتا تعني اليقظة الكاملة وفيها يعي الانسان الكون الذي حوله بعدد لانهائي من الوسائل ويرمز لها بالعدد اللانهائي, وسيشا تعني حالة السبات العميق التي لا تصاحبها اي أحلام أو احساس بالزمن ويرمز لها بالعدد صفر, و ” أدي – أنانتا- سيشا” هي إشارة لدورة الحالات الثلات التي تمر على جميع البشر وهي حالة الاستيقاض ثم حالة اليقظة الكاملة وأخيرا حالة السبات. وفي الفيلم يأكل باي من ” أدي – أنانتا- سيشا” التي تكون على شكل نبات أول ما تقع رجله على الجزيرة لتكون جواز عبوره إلى الحقيقة العليا.
يرسو قارب باي أخيرا على شواطىء جزيرة فشنو القابعة في اللامكان , باهرة الحسن لذيذة المنظر طيبة الهواء, يتنقل بين جنباتها وينهل من خيراتها الروحية ويسبح في بحيراتها العامرة بالمعرفة والنور , حتى اذا ما حل المساء ارتقى جذع شجرة ليرتاح , وهناك كان باي على موعد لاكتشاف سر الجواب على السؤال الذي طرحه سابقا (معنى اللوتس في الغابة؟)… ليكتشف أن الجواب هو سر الحياة ,التي ما هي إلا دورات من الولادة والموت تعرف بالسامسارا ، تخضع فيه الأفعال الصادرة عن الكائن الحي في كل دورة لقانون الكارما, هذا القانون يحتم على الإنسان أن يتحمل عواقب كل عمل يصدر منه خيرا أو شرا ، وأياً كان مصدره قولا أو فعلا أو حتى فكرة ، فيكون جزائه إما الثواب وإما العقاب , وقد تتجاوز عملية الثواب والعقاب فترة حياة الانسان فيتحتم على صاحبها الدخول في دورة تناسخ أخرى لينال الجزاء الذي يستحقه والتي قد تؤدي في النهاية لأن يتقمص الكائن الحي شكل إنسان أو دابة أو شبح او يرتقي لمصاف الالهة الهندوسية , تتجلى هذه المعاني بوضوح في الفيلم حينما يكون باي فوق الشجرة يحمل بين يديه زهرة لوتس مغلقة يعمد لفض بتلاتها بتلة بتلة ، ليجد فيها سنا بشريا التي ما هي إلا بقايا دورة حياة سابقة , تصور الأدبيات الهندوسية هذه اللحظة كزهرة لوتس تنمو من سرة بطن فشنو ويجلس قابعا فوق الزهرة الاله برهما والذي يقول المؤلف دفيدت باتانايك أن هذا المشهد هو تعبير عن يقظة الوعي الإنساني الساعي للكمال والتنور, زهرة اللوتس لها حضور قوي في العديد من الديانات كالفرعونية والهندوسية والبوذية ,فهي عنوان لليقظة الروحية ورمز النقاء والطهارة.
وكما أسلفنا سابقا فالإله برهما هو الخالق , لذلك كان لازاما على باي أن يغادر الجزيرة السماوية ليخلق ويولد من جديد ، ليدخل دورة كارما أخرى بعد أن ارتقى في سلم الكمال الروحي , وهو يجدف بعيدا يتبدى مشهد واضح لمعالم الجزيرة الغامضة والتي ما هي الا وضعية الإله فشنو في لحظة النارايانا ، إن باي الآن يوشك على أن يرجع للعالم المادي ليولد من جديد وأول ما تقع رجله على شاطىء المكسيك تخور قواه كطفل خرج لتوه من رحم أمه فيقع على رمال الشاطىء لا حول له ولا قوة , ويهرع الصيادين لنجدته , يحملونه بين أيديهم وهو ينظر لذاته المتنمرة او ريتشارد باركر التي سرعان ما تغوص في عمق غابة الروح بدون أن تلتفت للوراء طرفة عين , يبكي باي بحرقة لفراقها كبكاء الأطفال حديثي الولادة ,ولكن لا يعلم لماذا يبكي , لانك مولود جديد يا باي في هذا العالم, وهكذا نحن جميعا حينما قدمنا للحياة.
اشكالية الايمان والمنطق العقلي
في خاتمة الفيلم يعرض المخرج صورة رائعة حول عجز باي عن بث تلك الفيوضات الفيشنوية بكل ما تحملة من أحداث ميتافزيقة لفريق تقصي الحقائق, إنها تلخص الإشكالية الحالية في المجتمع الحديث في الصراع بين التصور الديني والتصور العقلي في معالجة قضايا الكون وما يجري فيه من ظواهر وأحداث , فالتجربة التي مر بها باي تجربة روحية خاصة تخضع لمقاييس تختلف عن مقاييس الحياة المادية, لذلك مهما حاول أحدنا أن يخضع العالم الميتافزيقي لتجربة مختبرية فمصيره الفشل حتما, ربما هي أطروحة عرضها الفيلم لإيجاد قاعدة للتعايش بين الأديان والمنهج العلمي الخاضع للتجربة والبرهان فكل له ميدانه وعالمه, هي رسالة صادقة من عالم باي لكي ينصهر الإيمان والمنطق العلمي بشكل مادة متصالحة دافعة للمستقبل.
كيف استطاع باي ان يوفق بين هذين الامرين العسيرين ؟وماذا فعل ليقدم طرحين ربما يبدوان متناقضين أشد التناقض لعرض رحلتة نحو النجاة؟ لن أستفيض فيها فهناك مفاجأة عرضها المخرج بشكل ذكي في الخاتمة لتقريب مفهوم الإيمان..سأترك المجال للقارىء لكي يشاهد الفيلم ويغوص في ثناياه الزاخرة بالمعاني والرموز ويستخلص تصوره الخاص به , فالفيلم يمكن أن يرى بأكثر من طريقة وفلسفة, وما قدمته مجرد اجتهاد بسيط أرجو أن يجد فيه القارئ معينا لفك بعض الطلاسم, وتقريب بعض المعاني لهذا العمل المبهر الذي رشح لنيل جائزة الاوسكار لهذا العام…. مشاهدة سعيدة أتمناها لكم .